«احتضنتُ الفأر، وخِفتُ أنْ تخنقني العصفورة!»
حمل العدد الأخير من مجلة «الدراسات الفلسطينية» (128 لخريف 2021) عنوان «كلام الأسرى... عيون الكلام»، ومن بين تقاريره التي خُصِّصَت جميعُها لقضايا الأسرى، نُشِرَ تقريرٌ موسّع في 13 صفحة، أضاء على التجربة النضالية بشقّيها الإنساني والسياسي للأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال، من خلال لقاءات مع أربع أسيرات محرّرات. كَتَبَت التقرير قَسَم الحاج، مُرشّحة دكتواره في برنامج العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت بفلسطين المحتلة. وفيما يلي مقتطفات مختارة من تقريرها، الذي يمكن أيضاً الوصول إليه كاملاً من المصدر المذكور في آخر المادة.
يعرض التقرير المستند إلى حواريّة أُجريت في رام الله في أواخر تموز الماضي، قصص أربع أسيرات حُرّرن مؤخراً من سجن الدامون المخصص للأسيرات في جبل الكرمل في حيفا، هن: ميس أبو غوش، وسماح جرادات، وشذى حسن، وإيلياء أبو حجلة. وقد سُجنّ، تباعاً، على خلفية نشاطهن الطلابي والسياسي الوطني في جامعة بيرزيت، واتُّهمن، خلال التحقيق، بأنهن «مخربات» و«من دون ترباية»، وغير ذلك من ألفاظ نابية في محاولة لابتزازهن عن طريق سلخهنّ، نفسياً، عن حاضنتهن الاجتماعية خارج السجن... وتختتم الحوارية بتشخيص الأسيرات العام للوضع السياسي في فلسطين بعد «هبّة القدس» و«سيف القدس».
الفاشيّة الصهيونية التي يتعامى عنها المُطبِّعون
اعتُقلت الأسيرة المحرَّرة ميس أبو غوش (24 عاماً) من منزلها في مخيم قلندية، بين القدس ورام الله، في فجر 5 أيلول 2019، وهي طالبة إعلام في جامعة بيرزيت في عامها الدراسي الأخير، ومن عائلة لاجئة من قرية عمواس المهجرة في سنة 1948. خضعت ميس للتفتيش العاري في المنزل من طرف المجندات، وصودر العديد من الأجهزة الإلكترونية الخاصة بها وبالعائلة. وفور الاعتقال، تم تحويلها إلى حاجز قلندية للتفتيش مرة أُخرى والاستجواب، وقد وصفته ميس بأنه «أسوأ من مركز تحقيق المسكوبية»، إذ هُددت بالاغتصاب والضرب والسجن لفترات طويلة، كما جرت مضايقتها من طرف جنود ومجندات الاحتلال بالسباب والشتائم والتعليقات الساخرة.
أمضت ميس 33 يوماً بين غرف التحقيق والزنزانات الباهتة والضيقة والمعزولة في المسكوبية، ومعتقلَي الرملة وعسقلان حيث تعرضت للتعذيب الجسدي والنفسي الذي اشتمل على ثلاثة أيام من التحقيق العسكري القاسي خضعت فيها لـ«شَبْح الموزة» والقرفصاء والشبح على الطاولة، وتم ترهيبها بالقول لها: «الكرسي اللي قاعدة عليه، سبقك عليها زكريا زبيدي» من أجل الفتّ من عضدها. تذكر ميس أن المحققات كنّ يشغّلن الأغاني ويرقصن في أثناء تعذيبها وشبحها. بعد ذلك، نُقلت إلى سجن الدامون حيث بقيت حتى انتهاء محكوميتها التي بلغت 15 شهراً، على خلفية نشاطها الطلابي في جامعة بيرزيت.
تقول ميس إنه تم اعتقال أخيها الأسير سليمان أبو غوش في اليوم الثالث لها في التحقيق العسكري من أجل الضغط النفسي عليها، كما جرى استخدام العائلة والأصدقاء كورقة ضغط عليها، وخصوصاً زملاءها وأصدقاءها المعتقلين الذين كانوا يخضعون للتحقيق أيضاً، إذ جعلها المحققون تستمع إلى صراخهم وأصواتهم في أثناء التعذيب، وكان المحققون يستغلون ذلك لتخويفها بأن دورها في الضرب والتعذيب سيأتي.
أمّا الزنزانة التي وُضعت فيها ميس فتصفها بأنها صفراء وضيقة لا تتسع إلّا لفرشة واحدة، كما أن وضع الحمامات كان مأسوياً، فهي في بعض الزنزانات بلا باب، ومن دون ماء أو مناشف أو أي حاجات أُخرى تحتاج إليها الأسيرة، فضلاً عن الرائحة النتنة والقاذورات، وهذا كله مع عدم استجابة حراس السجن لتنظيفها أو منع فيضان مجاري السجن في الزنزانات ومكان النوم، إلى حدّ أن ميس وجدت نفسها مرةً تحتضن فأراً كبير الحجم دخل إلى زنزانتها، واستمر في إقلاق نومها بالاقتراب منها. وقد ماطل السجان في الاستجابة لطلبات ميس بالانتقال إلى زنزانة أُخرى أو محاولة إخراج الفأر، الأمر الذي جعلها تشعر بالخوف من أن ينقل إليها عدوى أو حساسية ما.
الأسيرات كمناضلاتٍ سياسيّات أولاً
ترى الأسيرات المحرَّرات اللواتي تناولهن التحقيق الكامل للكاتبة أنّ الواقع السياسي اليوم يحتاج إلى إعادة هيكلة وترتيب، وأشرن إلى وجود أزمة عميقة لدى القيادة الفلسطينية، وخصوصاً السلطة الفلسطينية.
تعتقد الأسيرة المحرَّرة ميس أبو غوش حول أزمة السلطة بأنّ «الصراع الذي تخوضه السلطة والمنظمة على مرّ التاريخ وبعد اتفاق أوسلو، هو صراع مَن يمثل الشعب الفلسطيني أمام المجتمع الدولي والمساعدات الأميركية والأوروبية»، وتضيف أن سياسة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية «ثابتة ولم تتغير، وهو ما يظهر من خلال علاقتها بالبيت الأبيض والاحتلال، وعبر مواقفها من التطورات، والتي باتت متوقعة. فعلى سبيل المثال، فإن موقفها المعارض لترامب، بدا كأنه موقف شخصي منه وليس من سياسته كرئيس للولايات المتحدة، وقد ظهر الأمر جلياً بترحيبها بوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، علماً بأنه لم يعطِ شيئاً مختلفاً إزاء المسألة الفلسطينية، عن سلفه ترامب. ويدخل في هذا السياق ذاته اجتماع الأمناء العامّين للفصائل الفلسطينية في بيروت خلال أيلول 2020، والذي حمل خطابات شكلية هدفت إلى تعزيز مكانة بعض الفصائل الفلسطينية».
الأسيرة المحرَّرة شذى حسن شدّدت بدورها على أن «فشل السلطة الفلسطينية الرسمية تمثّل في انتهاجها منهج المفاوضات... وأن السلطة الفلسطينية فشلت فشلاً ذريعاً في أسلوب المفاوضات مع العدو».
ورأت الأسيرة المحرَّرة إيلياء أبو حجلة أنّ «أزمة السلطة الرسمية اليوم... لم تكن إلّا تراكماً لسياسات القمع الوفيرة التي مارستها السلطة الفلسطينية، فضلاً عن تراجع واندثار دور منظمة التحرير وانحصار مهماتها في تمرير سياسات السلطة الفلسطينية المتخاذلة والمتعاونة مع الاحتلال».
وتلتقي أبو غوش مع الطرح القائل بضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإنهاء الانقسام وتضيف إلى ذلك ضرورة عمل الفصائل الفلسطينية مع قاعدتها الجماهيرية «والوعي بأن النضال هو نضال اجتماعي سياسي اقتصادي مصحوب بالإعداد والتجهيز للاستعداد دائماً من أجل النهوض بالتحركات السياسية والاجتماعية. ولهذا، من المهم أن نحدد إلى أي معسكر ننتمي، كي تصبح علاقة الدعم متبادلة وغير منقطعة». وتتفق سماح جرادات مع ما قدّمته كل من ميس وإيلياء، وتضيف إليه الحاجة الملحّة إلى «إعادة بناء وعي بأن النضال يجب أن يكون اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً للنهوض بالحالة الفلسطينية والتنظيمات الفلسطينية»، وإلى «ضرورة بناء وعي جمعي بأن الحل الوحيد هو الكفاح المسلح والنضال من أجل تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. كما يجب إعادة ترتيب العلاقات الدولية وتحديد المعسكر الذي ننتمي إليه كي تصبح العلاقات واضحة ومبنية على الدعم المتبادل وغير المنقطع بدلاً من العلاقات التبعية وانتظار الدعم المشروط».
المصدر: «مجلة الدراسات الفلسطينية»، العدد 128 (ص60–73)