دروس ثورة السوفييتات الألمانية 1918

دروس ثورة السوفييتات الألمانية 1918

حطم البحارة الألمان سلسلة القيادة ورفضوا خوض الحرب وأعلنوا التمرد. وكان ذلك بداية لثورة السوفييتات الألمانية يوم 29 تشرين الأول 1918، وليس مصادفةً بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 التي أخذت الريادة بتدشين عصرٍ جديدٍ، إذا بدأت الثورات تشتعل في بلدان أوروبا في موجة متلاحقة استمرت حتى نهاية 1918 وبداية 1919. حيث اشتعلت الثورات في النمسا وبلغاريا وبافاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وفنلندا وألمانيا، وتساقطت المَلكيات الأوروبية واحدة بعد أخرى. ونشأت جمهوريات السوفييتات في هنغاريا وبافاريا وفنلندا وغيرها. واندلعت ثورة السوفييتات الإيطالية (عالج غرامشي التجربة الإيطالية في سلسلة مقالات عن المجالس العمالية). ونشأت حركة عمالية واسعة للتضامن مع روسيا السوفييتية في أمريكا وبريطانيا. وتمرّدت القوات الفرنسية ورفعت العلم الأحمر. وكتب سوفييت عمال المخابز في إيرلندا على الأبواب: «نحن نصنع الخبز لا الأرباح». في ظل هذا الوضع، اندلعت الثورة في ألمانيا خريف عام 1918.

عرض من كتاب «البقسماط الأسود»

 

كتبت يليزافيتا درابكينا:

كانت الجمهورية السوفييتية مقطوعة عن العالم كله، وفي محطات الإذاعة الضعيفة، كان ملتقطو الأنباء المتلهفون لسماع شيء عما يحدث في الغرب، ينقّبون ليلاً ونهاراً في الأثير عن الإضرابات في ألمانيا وتمردات الجياع في بلغاريا، وانتفاضات الجنود في الجيش الفرنسي، وإضرابات فلاحي مزارع الرز في اليابان.

كان الورق قليلاً، والجرائد لا تكفي، فكان الناس يتجمّعون قرب واجهات المخازن حيث كانت تعلّق «النشرات الثورية لوكالة الأنباء الروسية» مكتوبة بخط اليد على شرائط ورق طويلة، وكانت النشرات تُقرَأ بصوتٍ مسموع.

ترك آلاف الجنود البلغاريين جبهاتهم وشكّلوا سوفييتات لنواب الجنود، وساروا في مسيرة إلى صوفيا. وفي شوارع موسكو، كان أناس مجهولون يصافح بعضهم بعضاً بفرح قائلين: «بدأ الأمر يتحقق»!

استمرت الأحداث في التصاعد، أطلق سراح كارل ليبكنخت من سجن الأشغال الشاقة، تألفت في فيينا وبودابست سوفييتات لنواب العمال والجنود، وقتل البحارة المنتفضون الديكتاتوري المجري تيسا، وأعلنت الجمهورية في بلغاريا، وفي ألمانيا يطوف شبح الثورة.

ازداد الوضع في ألمانيا توتراً، وكان واضحاً أن أحداثاً حاسمة ستقع في الأيام القريبة المقبلة، وكان الجميع يتمنون أن تحدث الثورة في 7 تشرين الثاني 1918 في اليوم نفسه الذي حدثت فيه الثورة في روسيا.

قبيل أيام التقطت برقية لاسلكية عن انتفاضة البحارة في كيل، وفي اليوم التالي سمع الناس بتشكيل السوفييتات الأولى في ألمانيا، وتردّدت في ألمانيا كلها مطاليب الإطاحة بملكية غليوم وعقد الصلح فوراً. تدخلت الاشتراكية الديمقراطية لإنقاذ الملكية، ولكن لم يستطع شيء إيقاف العاصفة الثورية الزاحفة.

تلقت محطة الإذاعة في موسكو أمراً يقضي بأن تقدَّم إلى لينين وسفيردلوف على الفور كل البرقيات التي تستطيع التقاطها. وفي 9 تشرين الثاني جلب المراسل إلى مسرح البولشوي حيث كان مؤتمر السوفييتات السادس منعقداً نبأً أورده راديو لندن، أنّ الإضراب العام قد عمّ برلين، وأن آلافاً من العمال تجمعوا أمام القصر الإمبراطوري، وأعلن ليبكنخت ألمانيا جمهورية اشتراكية. استُقبِل هذا النبأ بعاصفة شديدة من الهتاف والتصفيق حتى أنّ «الثريا» البلورية الكبيرة عند السقف قد اهتزت.

 

«خبز! خبز للشغيلة الألمان!»

كتب لينين إلى سفيردلوف مذكرة لاتخاذ تدابير عملية عاجلة من أجل مساعدة البروليتاريا الألمانية. إنّ الشعب الذي أضنته الحرب والخراب والمجاعة والتدخل المسلح والعصيانات المعادية للثورة، قرر ودون تردد، أن يقتسم قطعة خبزه مع الشعب الألماني.

أرسلت الحكومة السوفييتية القطارين الأولين من الخبز إلى ألمانيا في 11 تشرين الثاني، وجرت تعبئة قطارات جديدة. وسافرت وفود من الشبيبة الشيوعية الروسية لتهنئة الشبيبة العاملة الألمانية. وسافرت يليزافيتا درابكينا مؤلفة كتاب «البقسماط الأسود» مع الوفود إلى ألمانيا. رفضت الحكومة الألمانية الخبز السوفييتي، وفي كانون الأول حدثت الثورة المضادة، ونفذت المجازر الدموية بحق الشيوعيين ومنهم قادة الحزب الشيوعي الألماني كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ.

 

دروس الثورة الألمانية

نستطيع تلخيص دروس الثورة الألمانية بالنقاط التالية:

  • يفصل يوم واحد فقط بين الثورة الألمانية (29 تشرين الأول) والثورتين الهنغارية والنمساوية (30 تشرين الأول)، وحدثت هذه الثورات كامتداد واحد للموجة الشعبية التي ضربت أوروبا بعد ثورة أكتوبر 1917.
  • بعد هزيمة الثورة الألمانية والهنغارية وإغراق ألمانيا في الدماء على يد الرجعية والثورة المضادة نهاية عام 1918، عرف لينين أنّ موجة الثورات التي انتشرت في أوروبا قد بدأت بالانحسار. لذلك وضع البلاشفة سياساتهم بما يتناسب مع هذا الانحسار. وكانت مؤشراً أوضح قضية أنّ الحركة أثناء صعودها تشهد الصعود والهبوط عدة مرات (الحركة الجيبية للجماهير). والموجة هنا ليست ميكانيكية، هي صعود ثم استقرار ثم هبوط تدريجي. وقد فهم لينين ذلك من دراسته العميقة للثورة الفرنسية، فصاغ لينين فكرة (الموجة الجيبية) وطبّقها. (للمزيد حول الحركة الجيبية للجماهير، راجع كتاب الأزمة السورية الجذور والآفاق).
  • في فترات الصعود، تبدو ثورة مثل الثورة الألمانية، محطة واحدة في مسيرة الشعوب. وهزيمتها عام 1918 لا يعني أن الحركة قد توقفت، بل هي محطة تاريخية واحدة تؤدي إلى أخرى. فبعد هزيمة الثورة اشتد الصراع الطبقي في ألمانيا التي عانت انهياراً اقتصادياً كإحدى نتائج الحرب العالمية الأولى. وحدثت محطات أخرى سنوات العشرينيّات والثلاثينيّات مثل انتفاضة عمال وبحارة هامبورغ في العشرينيّات. والصراع السياسي في الثلاثينيّات والنضال ضد النازية حتى سقوطها. وتأسيس جمهورية ألمانيا الديمقراطية في الأربعينيّات.
  • من الناحية التاريخية، دروس الهزائم مهمّة مثل دروس الانتصارات، والشعوب تتعلم من تعميم خبرة الثورات السابقة للمضي قدماً إلى الأمام لا لتكرار الماضي.
  • والدرس الأخير المهم في العصر الراهن، أن الطبقة العاملة قادرة على النهوض بعد التراجعات مهما طالت، مثلما كانت الطبقة العاملة الألمانية قادرة على النهوض بعد السقوط، ولكن تعقيدات الأوضاع الدولية الراهنة تفرض من أيّ طبقة عاملة في العالَم حتى تستطيع تحقيق خطوات إلى الأمام، مهام حسم موقفها بشكل واضح من القضايا الجوهرية والجذرية وبوصلتها حسم الموقف من الانتهاكات التي تقوم بها الإمبريالية (ورأسها في واشنطن) والصهيونية العالمية بحقّ مصالح الشعوب وكادحيها وقوى السلم العالمي، وبشكل واضح لا مساومة فيه.