«ليالي المدينة» الحالكة
انطلقت نهاية الشهر الفائت فعالية «ليالي المدينة» بمدينة حلب القديمة؛ احتفالاً بافتتاح سوق خان الحرير وساحة الفستق بعد إعادة تأهيلهما، والتي تهدف – وفق القائمين عليها – إلى إعادة إحياء الدور الاقتصادي والمجتمعي للسوق وترميم كامل القيمة المعمارية للسوق الذي يقع خلف الجامع الأموي.
اتسمت عاصمة الشمال السوري بغناها بالمواقع والأماكن التاريخية والسياحية، ولعل من أبرزها سوق (المْدِينة) مع خاناتها لتشكل بمجموعها مدينة تسوق أثرية داخل مدينة أوسع، فتعد من أكبر وأطول الأسواق القديمة المغطاة في مدن العالم إذ يبلغ طولها أكثر من 15 كم، وتضم 37 سوقاً. وضعت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) مدينة حلب القديمة وأسواقها على قائمتها للتراث المهدد بالخطر جراء الأضرار والدمار والنيران التي لحقت بها خلال الحرب، وأوردت في تقرير لها حجم الأضرار في المواقع الأثرية، مبينة أن ثلث المدينة دُمر بالكامل خلال سنوات الحرب، و60 % من المدينة القديمة قد تضرر بشكل كبير، بينما 30 في المئة تم تدميره كلياً.
«سياسات التعافي»
بدأت مشاريع الترميم في حلب القديمة منذ بداية العام 2018، إذ ضمت سوق السقطية 53 محلاً، وسوق خان الحرير قرابة 60 محلاً تجارياً، أما ساحة الفستق فتضم 18 محلاً، كما شملت عمليات الترميم الساحات التاريخية داخل المدينة القديمة ومنها ساحتي (الحطب) و(الألمه جي) وكامل العدد الإجمالي للمحال لا يشكل سوى 25 % من العدد الكلي للمحال في الأسواق المدمرة وسط المدينة التاريخي، كما أن النسيج السكني المحيط بالمكان ما زال مدمراً بشكل شبه كامل، وليس هنالك إقبال جدّي لترميم ذاك النسيج بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء وهجرة معظم مالكيها.
أما الحركة الاقتصادية عموماً وفي الأسواق القديمة التي جرى ترميمها خلال الفترة الماضية تكاد تكون معدومة، فنشاط أعمال الترميم للأسواق بقي متواضعاً قياساً بحجم الدمار، إضافةً إلى أن افتتاح المحال والأسواق كان شكلياً، إذ إن الكثير من أصحاب المحال غير موجودين داخل البلاد، أما من تبقى منهم فقد أجبر – وفق مصادر محلية – على افتتاح محالهم في الأسواق التي جرى ترميمها لإظهار التعافي وعودة الحياة إلى المنطقة.
اقتصاد أمراء الحرب
الترويج كبير لإعادة الحياة للدورة الاقتصادية في البلاد عموماً وفي مراكز الثقل الاقتصادي خصوصاً في حلب ودمشق من خلال مبادرات الترميم والدعم وافتتاح الأسواق والسعي لإيهام الناس بأن الانفراج الاقتصادي قريب، إلا أنَّ الحقيقة مغايرة لذلك تماماً، فهذه التحركات «الشكلية» لا تعدو كونها طقوساً احتفالية آنية ليست بذات أثر حقيقي، أما على أرض الواقع فقد اتخذت «سياسات التعافي» أشكالاً أخرى من خلال البحث عن موارد جديدة يمكن استثمارها مثل فرض اللجنة المالية مؤخراً حجزاً احتياطياً على ممتلكات نحو 600 تاجر في حلب.
فالقطاعات الاقتصادية التي تواصل الانهيار تعاني صعوبةً أمام محاولات إنعاشها بفعل السياسات الحالية والفساد والتحكم المتزايد لأمراء الحرب في مختلف قطاعات العمل، أما العجز الاقتصادي فهو يحول دون تنفيذ أي مشاريع حيوية ذات أثر فعلي، لذا يتم اللجوء إلى الدعاية والاستثمار الإعلامي في أي مشروع بغض النظر عن جديته ومدى تأثيره.
واقع معيشي سيِّئ
لا تعكس الأجواء الاحتفالية في ليالي المدينة واقع حلب على حقيقته، فالمدينة تغط في ظلام حالك، إذ تمتد ساعات التقنين إلى 10 ساعات أحياناً، وأكثر من 70 % من أحياء شرق المدينة ما تزال بلا كهرباء مع أنه مرَّ وقت طويل على استعادتها، إضافةً إلى ازدياد عمليات السلب والسرقة في شوارعها، أما في قطاع العمل فقد تحول أكثر من 30 ألف عامل في المدينة الصناعية في الشيخ نجار إلى عاطلين عن العمل بعد أن أغلقت المئات من المنشآت الصناعية أبوابها منذ بداية العام الجاري 2021.
إنّ كل ما سبق يؤكد مرةً أخرى على حقيقة أساسية، بأنه لا يمكن أن يكون هنالك اقتصاد ولا بلاد بالمعنى الحقيقي من دون حلٍ سياسيٍ شاملٍ يفتح الباب على مصراعيه أمام السوريين للبدء بعملية تغيير جذري شامل وعميق لبنية بات التعفن سمتها الأساسية.