«الرجل المحترق» تفاهة لا اشتراكية
أثار إلغاء «الرجل المحترق» للعام الثاني على التوالي ردود فعل حزينة، وخاصة ممّن يعتبرونه «تعبيراً جذرياً عن الذات» أو «مكاناً للهروب من التسليع» أو «مدينة اشتراكية فاضلة». لكنّ «الرجل المحترق» في واقع الحال لا يعدو نتاجاً لأحلام مجموعات مثاليّة هامشيّة، تطوّرت لتصبح موضة للأثرياء مستمرّة في قلب التفاهة الرأسمالية.
يأتي مهرجان «الرجل المحترق» بآلاف الناس إلى صحراء فارغة لخلق مجتمع بديل تُحظر فيه الأموال والإعلانات، وتصبح الهدايا هي أساس اقتصاده. على الأعضاء أن يحضروا معهم أشياء إلى هذا «العالم الجديد»، وهم أحرار في السماح للآخرين باستخدامها.
لكنّ لكل من يتبع تاريخ المهرجان، ستبدو فكرة كونه مناهضاً للرأسمالية سخيفة. مثال: أقام أحد المليارديرية المغامرين حفلاً قيمة الدخول إليه 18 ألف دولار للشخص! ضمن مجموعة خيم حصرية مليئة بالأساور وفتيات الأزياء الموجودات لتسلية الضيوف.
بدأ المهرجان يتحول منذ عقد ونصف إلى «شبكة من الأمسيات» بين أثرياء وادي السيلكون الذين كانوا يرسلون صحفيي الأخبار التكنولوجيّة لتغطية المهرجان – أمثال مارك زوكربيرغ من فيسبوك ولاري بيج من ألفابيت هم من المعجبين الشديدين بالمهرجان، وذلك إلى جانب مجموعة من أيقونات المحافظين المعادين للضرائب والكتّاب «التحرريون libertarians» المموَّلين بشكل جيّد من الأثرياء.
من المثالية إلى التسليع
كان من المعتاد أن يقام مهرجان الرجل المحترق كلّ عام لمدّة أسبوع في عطلة عيد العمّال، في منطقة نائية من شمال-غرب نيفادا. تبدو صحراء بلاك روك مكاناً نائياً لإنشاء مدينة تتسع لثمانين ألف إنسان، لكنّ هذا هو كامل المغزى من الأمر. يتم في الصحراء خلق عالم غريب ثمّ إعادة تفكيكه خلال شهر. ينتهي الاحتفال بإحراق دمية رمزية يطلق عليها اسم «الرجل/الإنسان»، وهي دمية خشبية يبلغ طولها قرابة 100 قدم.
ولد «الرجل المحترق» من أصل غير معروف: اجتمعت جماعة من الفنانين الهيبيين على إحراق دمية في «شاطئ بيكر» في سان فرانسيسكو، وفي 1990 بدؤوا بالبحث عن مكان يقيمون فيه احتفالهم دون ملاحقة الشرطة التي ستطلب منهم ترخيص، فقادهم بحثهم إلى صحراء بلاك روك.
تعود أصول «الرجل المحترق» إلى أفكار حركة «مناهضة-الثقافة» التي من أهمّ سماتها: «التحررية» والتعري والروح الإيجابية.
يميل المحللون لربط إيديولوجيا منشئي «الرجل المحترق» بحركات من أمثال «الوضعيين» الفرنسيين الذين صعد نجمهم في 1968 في فرنسا، وكان شعارهم: «لا تعمل أبداً». نظر هؤلاء إلى المدينة بوصفها مكاناً قمعياً ليس فيها إلّا العمل والاستهلاك، ويجب إعادة تخيلها كمكانٍ للَّهو و«الثورة». لكنّهم في الحقيقة، مثلهم بذلك مثل ما يُطلق على تسميتهم اصطلاحاً: «حركات ما بعد التنوير»، لم يفعلوا أكثر من قصقصة الخرائط وإعادة ترتيبها، والهيام على وجههم سكارى في باريس.
يمكنك الشعور بأثر هؤلاء الوضعيين عند السير في مدينة بلاك روك التي تدور شوارعها الترابية حول تمثال «الرجل»، وبشكل أقرب للسريالية من الواقع: أشخاص نصف عراة يرتدون الفرو والأشياء البراقة، سيارات على شكل سفن أو تنين يشغلون موسيقى إلكترونية.
مثلها في ذلك مثل أيّ مدينة عادية، تحوي مدينة الرجل المحترق على بارات ومطاعم ونوادٍ ليلية ومسارح، لكن المبدأ في ذلك أن يقوم شخص ما بإحضار هذه الأشياء معه، لأنّه مطلوب من الجميع أن يحضروا معهم شيئاً ما.
يبدو الأمر لمن يسمع بأنّه يحضّ على المساواة، لكنّه في الحقيقة يقود إلى تناقض مثير للاهتمام. الغالبية العظمى من المخيمات الفارهة والرائعة يحضرها الأثرياء لسببين بسيطين: لديهم الوقت، والمال، أو كليهما معاً. عادة ما يدفع الأثرياء من الحضور أجوراً لعمّال كي يبنوا لهم مخيماتهم الكبيرة «والحصرية في الغالب». لا يجري الأمر بالخفاء، يمكنك أن ترى إعلانات البحث عن عمّال مؤقتين في سان فرانسيسكو في شهر آب ليقدموا خدمات متنوعة مرتبطة بالحدث، مثل تقديم المشروبات أو توضيب الخيم أو حتّى العمل كدليل وحرّاس شخصيين أثناء المهرجان.
استغرق «الرجل المحترق» وقتاً حتّى يتحوّل من «أحلام مثاليّة» إلى «واحة للأثرياء». كان حضور المهرجان في أيامه الأولى مجانياً ويدور بمعظمه حول الفنون الغريبة والخيم المهترئة. لكن مع مضي الأعوام، بدأت الخيم الفارهة والأماكن الحصرية تظهر بالتزامن مع زيادة أثمان البطاقات: ارتفع ثمن البطاقات في 1994 من 35 دولار إلى 390 دولار في 2015، و425 دولار في 2019 غير شاملين لأيّ نفقات. كما أنّ هناك تذاكر لمساحات أوسع ورفاهية أكبر تصل قيمة الواحدة منها إلى 20 ألف دولار.
كما بات لمدينة المهرجان مطارها الخاص المرخّص رسمياً بدءاً من عام 2000، وهو يصبح أكثر انشغالاً كلّ عام. يمكنك شراء بطاقة طائرة من وادي السيليكون إلى الاحتفال بمبلغ 2000 دولار. في 2012 قام مارك زوكربيرغ بركوب مروحيته الخاصة للذهاب إلى حفلة شواء في مدينة المهرجان ثمّ العودة.
نشرت نيويورك تايمز مقالاً عن المهرجان قال أحد رواده الأوائل: «كنّا معتادين على إحضار طعام معلب معنا... أمّا اليوم فلدينا أكثر الطباخين جنوناً في العالم، وعمّالاً يبنون الخيم الفارهة الكبيرة التي تحوي أسرّة وثيرة ومكيفات تبريد... نعم هناك تكييف في وسط الصحراء».
بمجرّد البحث عن انتهاكات «الرجل المحترق» في محرك البحث، ستقرأ وتشاهد الكثير من التوثيقات عن أشخاص تمّ استغلال عمالتهم، وآخرون تمّ تشغيلهم حتى الإنهاك، وحوادث دعارة مستترة أثناء المهرجان، وانتقادات لتحوّل المهرجان إلى كرنفال رأسمالي وفقدانه قيمه الأساسية... لكن في الحقيقة: هيكليّة «الرجل المحترق» المثالية هي المسؤولة عن هذا التحوّل.
بُني المهرجان على شكل مدينة رأسمالية أمريكية نموذجية، حيث يقال بأنّها مجتمع ديمقراطي متساوٍ للجميع فيه صوت واحد، لكنّ الحضور من الأثرياء يمكنهم فرض رؤيتهم عبر استئجار الفنانين ليرسموا ويزخرفوا لهم أبنيتهم وتماثيلهم الخاصة، والعمّال كي يقوموا بالعمل عنهم.
لماذا الأمر مهم؟
في عالم الفوضى الذي نعيشه، لماذا نهتمّ بتمويل جيف بيزوس لسفينة قراصنة معدنية عملاقة أو لوحيد قرن عملاق؟ لماذا نهتمّ برغبة تانانبوم بإنفاق مليوني دولار على مخيّم مزوّد بمكيفات تبريد؟
هناك إجابات كثيرة، أهمّها محاولة تصدير هذه التجارب على أنّها «مناهضة للرأسمالية». وربّما الأهم منع أيّ حالم من البحث والوصول إلى حركات ونشاطات جذريّة حقيقية، عبر منحه هذه النسخ المشوَّهة من «مناهضة الرأسمالية».
يفترض «بالرجل المحترق» أن يحوي على مدينة تُحرِّر الناس وتجعلهم يلهون، لكنّها لا تفعل ذلك. هذا النوع من الأناركيّة (الفوضوية) الذي يمكن اختصاره بشعار «عبّر عن نفسك وسحقاً للجميع» لا يبدو مناسباً للإنسان العادي بقدر ملاءمته لتكنوقراطيِّي وادي السليكون.
بالنسبة لهؤلاء التكنوقراط – بغالبهم من الرجال البيض – الذين يقصدون المهرجان، «فالرجل المحترق» يعزز فكرة قدرتهم على إدارة العالم كما يشتهون. إنّها جزء من «الأوهام التحررية» التابعة للإيديولوجيات الليبرالية الاقتصادية. يرضي غرورهم أن يخبرهم شيء ما بأنّهم يملكون السطوة والحق لصناعة مجتمعاتنا وقدرنا.
هذه هي الأحلام «الفكريّة» لليبراليين والـ 1% الأكثر ثراء، و«الرجل المحترق» لا يفعل أكثر من منحهم لعبة بيادق يملؤونها لبناء مدينة أحلامهم.
يمهّد «الرجل المحترق» لنموذج اجتماعي مستقبلي يجذب الأثرياء، وبشكل خاص: «الطُّغَم التحرريون»، حيث توجد الرفاهية والمشاعات على أساس خيري وإحساني فقط. يذكر ضمن مبادئ المهرجان: «لا أحد غير الفرد ذاته يمكنه تقرير محتوى هديته. يتم تقديمها كهديّة للآخرين... مع احترام حرية وحق المتلقي».
إذاً «الرجل المحترق» تعبير «جذري» عن الذات، ولكن ضمن حدود القيود الرأسمالية، ولهذا يصلح كشعار لأيّ شركة رأسمالية، وتحديداً لأثرياء شركات وادي السليكون الذين يتربحون من العمالة غير المأجورة للمستخدمين عبر جمع بياناتهم الرقمية، وكذلك تحت مسمّى «تطبيقات مجانيّة للجميع».
المصادر:
https://qz.com/1067122/burning-man-signifies-societys-shift-away-from-traditional-capitalism/
https://www.jacobinmag.com/2015/08/burning-man-one-percent-silicon-valley-tech/