سورية: إدارة متخلّفة لإعلام الدولة... وقمع للإعلام المفيد!
منذ اليوم الاول لبدء الأزمة في سورية، والاعلام هو السلاح الامضى، والأكثر فتكاً بالبشر والحجر. هو اساس ما اتكل عليه المغامرون، الذين لا يهتمون لدماء الناس، والاداة التي استخدمها أعداء سورية في دول الخليج والغرب، والسلاح الذي حملته قطر والسعودية، وتسبب في مقتل عشرات الآلاف، ودفع أبرياء وبسطاء الى توهم حدث اسطوري لم يكتمل حتى في مخيّلة المتآمرين، كما تسبب في دفع قسم كبير من الناس الى أودية الموت. هو الاعلام الذي لم يفهمه اهل الحكم في سورية، من سياسيين وامنيين.
فبدلا من ان يواجهوا السلاح بمثله، لجأ كثيرون من هؤلاء الى التصرف، كأن ما يبثه اعلام الحقد حقيقة. فوقعت مجازر، وحصل دمار هائل، رداً على صورة مركبة، أو شهادة عميل.
ليس هناك اقسى من الحقيقة العارية. ومثلما لا يزال في دمشق من يعتقد بأن كل ما حصل مجرد مؤامرة. رافضاً فكرة ان هناك اسباباً حقيقية للاحتجاج ولخروج الناس مطالبين بحقوق محجوبة او مهدورة، فان اصحاب هذا الرأي لا يريدون التصرف على ان تغييراً حصل. وهؤلاء يمثلون اليوم الخطر الاكبر، وخصوصاً اذا تصرفوا على اساس ان احباط المؤامرة المعادية يعني اعادة الامور الى ما كانت عليه قبل اذار 2011. هذا الخطأ في التقدير قائم فعلاً، ويتمظهر في سلوكيات سياسية وعسكرية وامنية واعلامية، تقوم بها جهات ومؤسسات من قلب نظام الحكم. هي سلوكيات من يعتقد ان الانتصار على المؤامرة، يعني ان لا مشكلات تحتاج الى علاج. ولأنه يظن كذلك، تراه اليوم يتصرف باستعلاء. ومع كل تقدم للجيش في الميدان، يمعن اصحاب هذه القناعة في سلوك من لم يفهم بعد حقيقة الاسباب الداخلية للازمة السورية. وهو سلوك يقود حكماً الى اخطاء وراء اخطاء. والكارثة أن يصبح جمهور المعارضين خونة يستحقون القتل والنفي والتهجير، وان تصبح مناطقهم وبيوتهم اماكن غنم للمنتصرين.
هذا الكلام قيل بأشكال مختلفة، وعلى فترات متباعدة، لكن من دون نتيجة. وتجربة «الاخبار» في سورية دليل يومي على ازمة العقل السياسي والاعلامي الرسمي في هذا البلد. وما يكسر الظهر، هو ما حصل قبل ايام، عندما قرر احد ما، معلوم الاسم والاقامة والموقع، ان الادارة الاعلامية للمعركة في وجه العصابات المسلحة، لا تكون الا كما يرى هو، وان كل محاولة لتظهير المعركة بغير ما يطابق صورة الاعلام الرسمي، سيجري التعامل معها على اساس انه اعتداء على السيادة في سورية. وما لبث القرار ان تُرجم اقصاء لوسائل اعلامية ــــ من بينها «الميادين» و«المنار» ــــ تقود، من مواقع متواضعة مادياً وتقنياً، اقسى معركة مع طواحين امبراطوريات الاعلام المعادي لسورية، وقد نجحت في تحطيم كذبة اعلام القتلة ومموليهم.
لكن، يبدو ان في دمشق، وفي موقع القرار، من لديه رأي اخر. وهو طبعاً حرّ في رأيه. وللمسؤولين في سورية حق التصرف كما يرون، وبما يعتقدون بأنه الاصلح والافضل لهم، من دون مساءلة او تدقيق. لكنْ ثمة كلام يجب ان يقال، ولا ضرورة لتبريره مسبقاً، ولا حاجة اصلا إلى اداء واجب شتم العدو حتى يؤخذ به من موقع الصديق. هو كلام يجب ان يقال، وليقرأه صاحب القرار في دمشق كما يريد. وله، اصلاً، حق التصرف!
منذ سنوات طويلة جداً، وربما، من عمر حكم البعث في سورية، والاعلام الرسمي يتصرف على انه صاحب الحقيقة المطلقة. لا يقرّ مسؤول بفشل هذا الاعلام الا بعد خروجه من السلطة. ولا يتصرف اعلامي بارز او نافذ على اساس الحاجة الى تغيير جذري الا بعد ان يصبح خارج موقع القرار. ولا يقبل احد مناقشة حاجة سورية وشعبها وحكمها الى اعلام آخر، حقيقي، ذي صلة بالحياة لا بالعصر فقط. وكل من يتعاقب على ادارة هذا الملف، ينسى كل ملاحظاته، وكل تصوراته التغييرية، وينخرط في قلب ماكينة اعلامية اقل ما يقال عنها إنها الاكثر تخلفاً في العالم العربي، وإنها، بضعفها وقلة تأثيرها، لا تنافس الا الاعلام الخليجي الرسمي. وعندما سُمح لاعلام خاص بالعمل، جرت محاصرته بقوانين المنع: ممنوع قول هذا، وممنوع التطرق الى ذاك، وممنوع الاشارة الى تلك، وممنوع هذا وهذا وهذا... حتى تحوّل الى نسخة من الاعلام الرسمي، لا طاقة له على الفعل والتأثير.
بعد تسلم الرئيس بشار الاسد ادارة الحكم، جرى الحديث عن تغييرات كبيرة ستطاول القطاع الاعلامي. وخلال سنوات، أُقرّت قوانين، وصدرت ــــ حتى بعد نشوب الازمة ــــ تشريعات لادخال تعديلات، لا ترمي الى تغيير شكل الورق او الحرف او المذياع او الكاميرا، بل الى دفع الاعلام الى مرتبة تحاكي حجم الاستحقاقات التي تواجه البلاد، وتفسح في المجال امام اصوات اخرى مختلفة. وفي ذلك، ما يجعل قسماً من الناس يلجأ الى الكلمة بدلا من الرصاص. مع ذلك، بقي الاعلام السوري يرقص في المربع نفسه، والحجة ذاتها: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
لا أيها الأعزاء!
ثمة أصوات كثيرة تعلو فوق صوت المعركة. صوت الناس الذين يتعبون من صوت الرصاص، ورائحة الدم، والقتلى الذين يرصفون الشوارع والحارات. وصوت الهاربين من الجحيم الى جحيم اقسى في بلاد العنصريين، كلبنان مثلاً. وثمة صوت اعلى بكثير، هو صوت الساعين الى عكس حقيقة ما يجري على الارض، بعيداً عن قتلة يشوّهون كل شيء، وعن اغبياء لا يحركهم سوى انهيار زجاج بيوتهم ومكاتبهم، وعن شهود زور لا يريدون ان يرفعوا يد الاعتراض، ولو كانوا على حافة القبر.
المعركة في سورية، ولو كان اسمها حرباً اهلية، او اجتياح مستعمرين، او غزوة احفاد الجاهلية او حتى حرب تحرير، هي معركة. وفي المعركة يتبارز مقاتلون، ليس بما يملكون من حديد ونار فقط، بل إن المقاتل الاقوى هو الذي يملك عقلاً يساعده على استخدام افضل لأدوات المعركة، ويملك قلباً يساعده على النظر الى الناس حوله على أنهم ابرياء، حتى وهم ينتحرون.
ما يجب قوله، في هذه اللحظة، هو ان من يمسك بالقرار الاعلامي في سورية، يعرف جيداً ان غالبية ساحقة من الاعلام الخاضع لادارة الدولة، من قنوات تلفزيونية ومواقع الكترونية، وصحف ومنابر اخرى، هي اعلام بلا فعالية (باستثناء تجربة الجيش الالكتروني). ويمكن لصاحب القرار ان يلجأ الى وسائل تقنية عالمية، بعضها لا يحتاج الى اذن، لتبيان حقيقة حضور هذا الاعلام وحجمه عند الشعب السوري نفسه، بمواليه ومعارضيه، وليعرف كيف ان السوريين اليوم، موالين ومعارضين، يلجأون بغالبيتهم الى اعلام آخر. اعلام يرون فيه ما يروي قصتهم، يشكون ويقبلون ويسبّون ويتفهمون، لكنهم لا يشعرون بالحاجة، او بالحافز، للعودة الى الاعلام الممسوك، لان ذاكرة عمرها بلغ عقوداً من الزمن، جعلت هذا الاعلام بلا صدقية، وفي احسن الاحوال، اعلاماً ناقصاً، لا يقدم الا بعض الصورة، ولو كانت بقية الصورة في مصلحة سورية والحكم ايضاً.
فوق كل ذلك، هناك وظيفة اخرى للاعلام اليوم. وظيفة تصب في قلب المعركة، لا الاعلامية فحسب، بل في قلب المعركة العسكرية اساساً. ثمة ما يسمى الحرب النفسية، التي تخدم المقاتل فتنصره، او تهزه فتجعله ينهزم هارباً. ومن ليست لديه خبرة ومعرفة بهذا العمل، فليترك لاصحاب المهنة ان يقوموا بدورهم. ومثلما هناك تسليم، طوعاً او غصباً، برغبة او من دونها، بأن هناك آليات للقتال يجيدها اخرون، فليجر التسليم، طوعا لا غصبا، وبرغبة لا من دونها، بأن هناك من هو اقدر، واكثر من ذلك، بان هناك من هو اكثر حداثة، واكثر جرأة، واكثر خبرة، واكثر صدقية لقيادة هذا الجانب الاعلامي من المعركة.
من يعتقد اليوم، في سورية، بأن الطريقة المتبعة رسمياً في ادارة الاعلام قد تفيد في شيء، فهو كمن يكنس الوسخ ليجمعه تحت السجادة. ومن لا يزال يؤمن بأن استراتيجية المنع تحمي البلاد والعباد، فربما وجب تذكيره بأن للكلمة اجنحة، لا تعيقها حواجز ولا عواصف.
المصدر: الأخبار