«قيد مجهول» VS. «ضيعة ضايعة»
لست ناقداً فنياً مختصاً، ولكن ما دفعني إلى التجرؤ على كتابة هذه المادة هو شعور الخيبة الذي أصبت به بعد متابعة «قيد مجهول»!
كغيري من السوريين الذين عايشوا ما بات يسمى العصر الذهبي للدراما السورية، والذي ضم أعمالاً من وزن «التغريبة الفلسطينية»، «الزير سالم»، «أحلام كبيرة»، «الانتظار»، «ضيعة ضايعة» وغيرها الكثير، فقد أغراني كم الدعاية الضخم عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي رافق عرض مسلسل «قيد مجهول»، واقتطعت له وقتاً وفي صدري أمنية أن أرى عملاً بعمق وأهمية أعمال ذلك العصر...
ها أنا أكشف إذاً منذ البداية أنني خائب الأمل بـ«قيد مجهول»، وأرى «ضيعة ضايعة» أحد العلامات الفارقة ضمن عصرٍ ذهبي للدراما السورية؛ أي أنني أفسد على القارئ منذ الأسطر الأولى متعة «التشويق» التي يعيشها الإنسان حين يسمع بمباراة وتنافس بين فريقين -كما يمكن لعنوان هذه المادة أن يوحي- ما يعني أنّ كلاً منهما سيبذل جهده ويعرض مهاراته ومن ثم بعد تطور الحبكة وتصاعدها ومضي الوقت، نصل إلى النتيجة...
أفسدُ على القارئ «متعة التشويق» كي لا يقع بالمصيدة نفسها التي أعتبر نفسي وقعت بها بإكمال 8 حلقات كاملة من مسلسل قيد مجهول حتى الوصول إلى نهايته؛ لأنّ «التشويق» حين يتحول إلى غاية بذاته (لأنه يسمح بربط المستهلك وبدفعه لاستهلاك قدر أكبر من البضاعة)، فإنّ عملية التذوق الفني ككل تتحول إلى نمطٍ كسول وشره في آن معاً؛ على طريقة استهلاك الإنسان للسكريات البسيطة وسهلة الهضم، ولكن التي ترفع نسبة الأنسولين وترفع تالياً الإحساس بالجوع وتدفع نحو استهلاك المزيد من السكريات... كشخص غير مختص فنياً، هكذا أرى التشويق حين يكون غاية بذاته.
بين الواقع والخيال
لدي فكرة واحدة فقط سأحاول التعبير عنها في إطار المقارنة بين المسلسلين. إذا نظرنا إلى البيئة العامة للعملين وضمناً الشخصيات، فإننا سنرى أنّ بيئة «قيد مجهول» قريبة جداً من واقعنا المعاش، ابتداءً من مواقع التصوير إلى ملامح الشخصيات وملابسها وكلماتها وتعبيراتها ووصولاً إلى أبسط وأدق التفاصيل في المسلسل.
بالمقابل، فإنّ «ضيعة ضايعة» هي بيئة خيالية إلى حد ما، ليس هنالك من شخصية واحدة ضمن العمل، يمكنك أن تجدها كما هي في الواقع؛ يمكنك بطبيعة الحال أن تجد ضمن الشخصية الواحدة عشرات الشخصيات الواقعية، لكن الشخصية نفسها ليست واقعية، هي شخصية فنية مركبة، هي شخصية نموذج (على طريقة جورج لوكاتش).
هذا إذا تحدثنا عن الأدوات الفنية لهذين العملين، لكن إن انتقلنا للحديث عن المقولة الفنية لكل منهما؛ أي عن ماذا يعبر كلٌ منهما، وما هو العمق الاجتماعي والإنساني الذي يحاول اكتشافه، سنقف على تناقض هائل (من وجهة نظري بطبيعة الحال).
في الوقت الذي يبدو فيه «قيد مجهول» واقعياً جداً، فإنّه يستخدم هذا الواقع «الواقعي جداً» بوصفه إطاراً خارجياً للحبكة النفسية الداخلية لشخص واحد، لقضية ثانوية واحدة، وجزئية وقليلة التكرار... أمّا الحالة المادية السيئة، والوضع الأمني المتردي، وانتشار الفساد والجريمة وإلخ، فكل هذه ليست سوى عناصر مكونة ضمن الحبكة الخاصة بالتطور النفسي للشخصية الأساسية للعمل، والتي تمارس هي ذاتها أو ترغب بممارسة أشكال الفساد المختلفة التي يعيشها مجتمعها... ويمكن بتعديلات بسيطة أن يعاد رسم القصة نفسها في نيويورك، أو في هونغ كونغ أو في أي مكان آخر...
ما أقصده أن «الواقع» الذي يقدمه قيد مجهول، ليس سوى شبح واقع، يستند إلى التفاصيل الخارجية للواقع وليس إلى جوهره ومضامينه وخصوصياته السورية، هو مجرد «واقع درامي» ينفع إطاراً لتطور الحبكة، وأخطر من ذلك أنه ينفع مصيدة للمشاهد؛ فالواقع الدرامي الشديد التفصيل، ولكن المنفصل عن الواقع الحقيقي، هو تنكر بالواقع لتقديم عمل بعيد عنه بعداً كبيراً...
بالمقابل فإنّ «ضيعة ضايعة» ترتدي الخيال الفني المبدع للتعبير عن جوهر الواقع وآلامه ومشكلاته ومصائبه، الواقع السوري بالذات.
والميزة في عملية التفارق هذه بين «الخيال» و«الواقع» أنها تنشّط الجانب التجريدي في دماغ المتلقي، تنشّط قدرته على رفع إمكانيات التذوق الفني للدخول إلى ما وراء الصور والاستعارات والطرفة والنكتة والدمعة حتى... هذا النوع من الأعمال الذي يسمح بتحويل العمل الفني من مجرد بضاعة للاستهلاك إلى محفّزٍ على النظر بشكل جديد وواقعي إلى الذات والمجتمع، وإلى محفز لبناء فهم مشترك لهذا البلد من قبل أبنائه ولمشكلات ومصائب وأزمات هذا البلد، وخاصة مصائب أولئك الذين يقف ضيعة ضايعة في صفهم بلا أي مواربة...
معلومات أساسية عن المسلسلين
ضيعة ضايعة (جزءان 2008 و2010) تأليف ممدوح حمادة، إخراج الليث حجو، تمثيل: نضال سيجري، باسم ياخور، تولاي هارون، آمال سعد الدين وآخرون.
قيد مجهول (موسم واحد، 8 حلقات) تأليف لواء يازجي، محمد أبو اللبن، إخراج السدير مسعود، تمثيل: عبد المنعم عمايري، باسل خياط، نظلي الرواس، إيهاب شعبان وآخرون.