الأزمة الأمريكية بحاجة لـ«فيروس صيني» أو «مخلوقات فضائية»
زعمت واشنطن في 21 من حزيران الجاري، قدرتها على «عزل» الصين في حال «لم تسمح» للخبراء الدوليين بالقدوم لأجل دراسة منشأ فيروس كورونا المستجد. جاء هذا «التهديد» – والمناقض للقدرة الفعلية لواشنطن على تنفيذه – على لسان مستشار الرئيس الأمريكي للأمن الوطني جيك سوليفان. ليأتي رد الخارجية الصينية بعد ذلك بيومَين بأنّ الصين ستدعو إلى «تحقيق شامل بشأن منشأ تفشي كوفيد-19 في الولايات المتحدة والأسباب والأطراف التي تتحمل مسؤولية الأداء الضعيف للولايات المتحدة في احتواء المرض والمشكلات المتواجدة في قاعدة فورت ديتريك وأكثر من 200 مختبر بيولوجي أمريكي في الخارج». هنا نتساءل، أليس اجترار «أمريكا بايدن» لذرائع «أمريكا ترامب» نفسها لاختلاق مبررات عدوانيتها وتصدير أزماتها الداخلية إلى الخارج، دليلاً إضافياً على أنّها ما زالت أمريكا المتواصلة التراجع والتأزم رغم تغيّر الجالس في «المكتب البيضاوي»؟
نشرت منظمة الصحة العالمية في آذار الماضي، النسخة الكاملة لتقرير مجموعة دولية من خبراء المنظمة عن زيارتهم لمدينة ووهان الصينية للتعرف على منشأ فيروس كورونا.
وأشار التقرير إلى أنّ تسرب فيروس «كوفيد-19» من المختبر، هو «أمر غير مرجح». لكن التقرير لم يكن على مزاج واشنطن وبعض حلفائها، فأعلنت 14 دولة، على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، في بيان مشترك، في 30 آذار الماضي، عن «مخاوفهم» مطالبين بتقييم ودراسة «شفافة ومستقلة» حول منشأ الفيروس.
وفي الأسبوع الأخير من شهر أيار الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه أمر بإجراء تحقيق استخباراتي أمريكي إضافي في أصول الفيروس وطلب تقريرًا في غضون 90 يومًا.
وقال بايدن إنّ الاستخباريين الأمريكان منقسمون بين سيناريوهين محتملين: إما انتقال الفيروس بالأصل من الحيوانات إلى الإنسان عبر التماس، أو تسربه من مختبر.
بالطبع المختبرات البيولوجية والحربية الأمريكية مستبعدة ولن تقوم الاستخبارات الأمريكية بالتحقيق فيها. ومن الواضح أن المقصود بالاحتمال الثاني ليس المسعى «العلمي» لمعرفة الحقيقة، بل العودة إلى اجترار الاتهامات السابقة كما في عهد ترامب، حول تسرب أو تسريب الفيروس من مختبرات صينية حصراً.
لا بد بدايةً من أنْ نشير إلى أنّ تسرّب أو تسريب عوامل ممرضة من مختبرات، بل وتصنيع عوامل ممرضة وخاصةً فيروسية بشكل متعمّد سواءً لأغراض دراستها أو كأسلحة بيولوجية، هو حقيقة علمية تاريخية مثبتة بأدلة وأمثلة كثيرة لا مجال لدحضها، فالهندسة الوراثية وعلم الفيروسات تطور بما يكفي لهذه الإمكانيات منذ عقود. والحقيقة هي أنّ للولايات المتحدة وعلمائها تحديداً باعٌ طويل في ذلك، وسبق أن تناولنا أمثلة وتفاصيل علمية حول هذا الموضوع في مواد سابقة بقاسيون (18 و25 أيار 2020) بعنوان «فيروسات فرانكنشتاين ليست خيالاً علمياً». لذلك لا يجوز اعتبار التفكير والبحث في هذا الاحتمال بشكلٍ عام «نظرية مؤامرة» بالمعنى السلبي (وغنيى عن القول أيضاً أن إقرارنا بذلك لا صلة له باللقاحات، التي تبقى حاجة طبية ضرورية وفعالة سواء كان الفيروس طبيعياً أم مُصنّعاً). لكن السؤال المنطقي البسيط هنا هو مَن المستفيد؟ وهل يُعقَل أن تبتكر الصين «سلاحاً بيولوجياً» تكون هي أولى ضحاياه؟ كما أنّ بكين ليست واشنطن حتى تحتاج أحداثاً مثل «11 سبتمبر» من النوع الذي يأتي «بالصدفة» في الوقت المناسب تماماً كذريعة لشن حرب عدوانية على العالَم.
ولكن في قضية فيروس كورونا المستجد والصراع الأمريكي-الصيني ليس منشأ الفيروس هو ما يهم الأمريكيين في الحقيقة، بقدر ما يتخذونه كمجرد غطاء للصراع الجيوسياسي العميق المتعدد الأبعاد اقتصادياً وسياسياً وثقافياً الذي تخوضه قوّتهم المتراجعة المأزومة، بظل انحدار هيمنتها بسرعة قياسية عبر العالم. ولا شك بأنّ واشنطن تدرك جيداً حجم الزلزال الكبير الذي هزّ بنيتها وصورتها داخلياً وخارجياً بعد انتشار الوباء، وانكشاف نقاط ضعف منظومتها الصحية بشكل خاص، والصحة الرأسمالية بشكل عام، ثم أزمة اللقاحات اعتباراً من تعثراتها العلمية والتقنية المختلفة وصولاً إلى احتكارها وتغليب الجانب التجاري الرأسمالي على حساب أي جوانب إنسانية وصحية. هذا مما له إسهام مهم عملياً ورمزياً في شدّة ألم الولايات المتحدة من خسارتها الفعلية في السباق بين أداء منظومتين اقتصاديتين وسياسيتين مختلفتين.
واشنطن بحاجة ماسة لتصوير نفسها «ضحية»
لماذا تثير واشنطن إعادة التحقيق الآن؟ تم الدفع بفرضية التسرب من المختبر في الإعلام الأمريكي من كونها إحدى القصص التي تذكر إلى جانب غيرها، وغالباً كـ«نظرية المؤامرة»، لتصبح أكثر انتشارًا، وكما نعلم معظم الأشياء لا «تنتشر» هكذا «عفوياً» في هذا البلد الذي تحكمه أعتى ديكتاتورية متقدمة في مجال الإعلام والتلاعب بوعي الناس. من الأمثلة على ذلك، مقال في صحيفة رأس المال المالي البارزة «وول ستريت جورنال» الشهر الماضي، التي أعادت سرد حكاياتها حول «انتشار المرض بين عمال مختبر ووهان قبل وقت قصير من الحالات الأولى لكوفيد-19».
وكما لاحظ، على حقّ، موقع «ذي كونفيرسيشن» الأسترالي: «عندما يتعلق الأمر بكارثة الوباء، تريد الولايات المتحدة أن تُظهر كتب التاريخ أنها ضحية لقوى خارجية، وليس لسوء إدارتها بالذات».
وكان هذا هو الحال بشكل خاص خلال إدارة ترامب. وفي مواجهة الأزمة الصحية المتفاقمة، كانت تتم محاولة إلهاء الأمريكيين عن سوء إدارة حكومتهم للأزمة الصحية، بحرف الأنظار باتجاه التركيز على أصل «الفيروس الصيني» كما أسماه ترامب.
ماذا تقول التحقيقات الدولية حتى الآن؟
لم يخلُ تقرير لجنة منظمة الصحة العالمية لشهر أيار من انتقادات لما سمّته «تأخر الصين» في التعامل مع الوباء وبشأن إتاحة البيانات. الأمر الذي ردّت عليه الصين بالتذكير بتسلسل الأحداث وسرعة الاستجابة. لكن البعثة لم تتوصل إلى نتيجة بشأن منشأ الفيروس، قائلة إن دورة انتقاله الدقيقة لا تزال مجهولة. وتم تكليف مهمة فنية مشتركة بين المنظمة والصين بمهمة التحقيق بمنشأ الفيروس. وقالت واشنطن إن التقرير قدم صورة «جزئية وغير كاملة»، ودعت إلى فتح مرحلة ثانية للتحقيق، وهو ما رفضته الصين، وقالت إدارة بايدن إنها ستنشر نتائج تحقيقها الخاص.
لكن يجدر ختاماً التذكير بأن بعض الإعلام الأمريكي سبق وأن وضع نفسه في ورطات ناجمة عن كذبه، فذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» مثلاً في 12 شباط أسماء أربعة خبراء من بعثة منظمة الصحة العالمية إلى الصين ناسبةً إليهم عدة مزاعم منها أنهم قالوا للصحيفة إنّ «العلماء الصينيين رفضوا مشاركة البيانات الأولية» وأن «المسؤولين الصينيين أخبروا الفريق الأممي بأنه ليس لديهم الوقت الكافي لتجميع بيانات مفصلة عن المرضى، وقدموا ملخصات فقط»، لتعيش كذبتها ساعات قليلة فقط، حيث جاء الرد سريعاً آنذاك من اثنين من هؤلاء الخبراء الغربيين أنفسهم، واللذين أقحمت الصحيفة اسمَيهما من بين «مصادر» معلوماتها وهما الدكتورة ثيا كولسن فيشر، والدكتور بيتر دازاك، حيث غرّد كل منهما على تويتر غاضبين من كذب الصحيفة على لسانيهما، ومعربين عن رضاهما الكامل عن تعاون الصين في التحقيق.