الصراع حول «حقوق الملكية الفكرية» للقاحات كوفيد-19
بعد رفضٍ استمرّ حوالي 7 أشهر، غيّرت الولايات المتحدة الأمريكية موقفها الرسمي من الاقتراح الهندي/الجنوب-الإفريقي بتعليق حقوق الملكية الفكرية للقاحات كوفيد-19. فأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في السادس من أيار الجاري دعمَه لهذه الفكرة، وسط ترحيبٍ مِن مدير منظمة الصحة العالمية، كما أعلنت روسيا عبر رئيسها فلاديمير بوتين أيضاً دعمَها. ولكن ما تزال هناك دول ترفض (مثل ألمانيا) فضلاً عن رفضٍ مستمرٍّ من كُبريَات شركات الأدوية الغربية، مما يهدّد بإجهاض المسعى أو تأجيله لمدة غير معروفة، ولا سيّما أنّ اعتمادَ قرارات كهذه في منظمة التجارة العالمية تحتاجُ عادةً إلى إجماع.
بمرور الوقت تتوسّع الهوّة بين الهدف المعلَن لمبادرة كوفاكس COVAX «تأمين 2 مليار جرعة بحلول نهاية 2021» وبين الواقع: فوفقاً لمنظمة التجارة العالمية هناك 130 دولة في العالَم، تضمّ 2.5 مليار شخص، لم تتلقَّ حتى الآن ولو جرعةً واحدة!
وقالت منظمة الصحة العالمية في نيسان إنّ نسبة ما أُعطي من لقاحات كوفيد في البلدان منخفضة الدخل، من أصل 700 مليون لقاح التي أعطيت على مستوى العالم، ما تزال نسبةً هزيلة جداً وهي 0.2% فقط!
ما هو اقتراح الهند وجنوب إفريقيا؟
في تشرين الأول 2020، قدّمت الهند وجنوب إفريقيا اقتراحاً للتنازل عن بعض أحكام اتفاقية «الجوانب التجارية من حقوق الملكية الفكرية» والمعروفة اختصاراً بـ«تريبس» TRIPS وذلك من أجل «الوقاية من كوفيد-19 واحتوائه وعلاجه»، ويُمنَح التنازل لأعضاء منظمة التجارة العالمية بحيث يتمُّ إعفاؤهم من تطبيق أو إنفاذ أحكامٍ معينة بموجب الجزء الثاني من الاتفاقية المذكورة، وتحديداً القسم1 (حقوق النسخ وما يتصل بها)، والقسم4 (حقوق التصميم التصنيعي)، والقسم5 (براءات الاختراع)، والقسم7 (حماية المعلومات السرّية). على أنْ يستمر التنازل ساري المفعول لمدة يوافق عليها المجلسُ العام لمنظمة التجارة العالمية، وهي مدةٌ مؤقتة فقط ريثما يتم إجراء التطعيم العالمي على نطاق واسع وتحقيق المناعة ضد الفيروس عند غالبية سكان العالم.
وتؤكّد منظمة أطباء بلا حدود (MSF) في إحاطةٍ لها حول الموضوع، بأنّ التنازل المقترَح يقتصر فقط على ما يخصّ أدوات مكافحة وباء كوفيد-19 (وقايةً وتشخيصاً وعلاجاً) وبصياغة أوضح «جميع الأدوية واللقاحات والتشخيصات والتكنولوجيات الأخرى الخاصة بكوفيد-19، بما في ذلك الأقنعة (الكمّامات) وأجهزة التهوية، طوال مدة الوباء»، بما يتضمّنه ذلك من تنازلٍ عن براءات الاختراع، ومن تعاون في البحث والتطوير والتصنيع وتوسيع نطاق أدوات كوفيد-19. ولكن ليس واضحاً بَعْدُ إذا كان التأييد الرسمي الأمريكي المعلَن عبر بايدن مؤخّراً هو فقط للّقاحات أم لباقي المنتوجات المذكورة أعلاه أيضاً، أما باقي التزامات اتفاقية «تريبس» غير ذات الصلة بالوباء فتبقى سارية المفعول لا يتم التنازل عنها.
مَن عارض المقترَح؟
في المناقشات التي أجراها أعضاء منظمة التجارة العالمية في مجلس «تريبس» في 15 و16 تشرين الأول من العام الماضي 2020، واجه المقترح الهندي/الجنوب-إفريقي رفضاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وسويسرا والنرويج واليابان وأستراليا وكندا والبرازيل (وهذه الأخيرة كانت الدولة النامية الوحيدة المعارِضة)، وذلك إما كمعارَضة صريحة أو بعدم دعم الاقتراح.
ما ذرائع المعترضين؟
تركّز جميع التبريرات التي تسوقها الدول المعارضة على زَعمٍ أساسيٍّ واحد: «الحفاظ على نظام ملكية فكرية صارم أمرٌ ضروريّ للمحافظة على الابتكار». وحاول المتحدِّث باسم الاتحاد الأوروبي بشكلٍ مخادع أنْ يدّعي عدمَ وجود أدلّة واضحة على أنّ حواجزَ الملكية الفكرية تُعرقل الوصولَ إلى اللقاحات. وحتى ضمن هيئات منظمة الصحة العالمية نفسها يوجد مَن يبرّرون رفضَ المقترح، ومنهم مثلاً جون آرني روتنغن، رئيس هيئة «تجربة التضامن بشأن كوفيد-19» في المنظمة، الذي ادّعى بأنّ «الملكية الفكرية هي أقلّ الحواجز» أمام الوصول إلى اللقاحات، مشيراً إلى متطلبات أخرى كالبنية التحتية للإنتاج والمتطلبات المعرفية.
الردود على المعترضين
سعت جنوب إفريقيا إلى الردّ على هذه الادعاءات في اجتماع مجلس «تريبس» في 16/10/2020، ومرة أخرى في اجتماع 20/11/2020. ومن الأمثلة التي أوردتها كدلائل على التأثير السلبي لحقوق الملكية الفكرية بعرقلة انتشار أدويةٍ لمكافحة أمراضٍ سابقة: احتكارات شركات مثل «ريجينيرون» و«إيلي ليلي» للملكية الفكرية لنوع من العلاجات المسمّاة «الأضداد وَحيدة النَّسِيْلة» (لعلاج بعض السرطانات وبعض الأمراض المناعية والمُعدية). وكمثالٍ آخر أشارت جنوب إفريقيا إلى الصراع بين «منظمة أطباء بلا حدود» وشركة فايزر في الهند بشأن لقاحٍ مضادّ لجراثيم «المكورات الرئوية» (المسببة لبعض الالتهابات الرئوية التنفسية)، حيث أدّى احتكارُ شركة فايز لحقوق الملكية الفكرية وبراءة الاختراع لذلك اللقاح إلى مَنع تطوير أيّ بدائل فعّالة له ضدّ هذه الجراثيم. وبالمثل خسرت شركة «بيوساينس» الكورية الجنوبية دعوى قضائية رفَعَتْها ضدّ شركة فايزر حول براءة اختراع لقاحٍ للمكورات الرئوية أيضاً، بحيث مُنِعَت الشركة الكورية من بيع وتوزيع اللقاح إلا بعد العام 2026 عندما تنتهي صلاحية براءة الاختراع التي تحتجزها الشركة الأمريكية (فايزر).
«طريق ثالث» وَهْمِيّ
تحت ضغط رأس المال لعَمالقة المجمّع الصناعي-الدوائي وتمثيلاتهم السياسيّة في كُبريات الدول الغربية الرافضة، اقترحَ المديرة العامّة لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونجو إيويالا «طريقاً ثالثاً» كـ«حل وسط»، وذلك عبر «حثّ» صانعي اللقاحات على «زيادة نقل التكنولوجيا لجَلب قدرةِ تصنيعٍ جديدة» و«الشفافية في العقود والأسعار». يبدو الاقتراح مباشرةً طوباوياً ومجرّدَ تغطية على الإخفاق في المَساس بـ«حق الملكية المقدَّس»، لأنّه مِن غير المفهوم ما هو المقصود بـ«الحثّ» الذي يبدو أنّه مجرَّد الإكثار من «المواعظ» و«المناشدات» الكلامية التي لم تؤثّر ولن تؤثّر عمليّاً على شراهة الشركات لتحقيق الأرباح على حساب الأرواح. ثمّ ما الفائدة من «نقل تكنولوجيا» خاصّة بتصنيع لقاحات معيّنة إذا بقيت «وصفة الطبخ» السرّية لهذه اللقاحات مُحتَكَرة؟
هل الموافَقة الأمريكية تَحلُّ المشكلة؟
إحدى المشكلات المهمّة هي أنّ قرارات منظمة التجارة العالمية تميل إلى أنْ تُتَّخَذ بالإجماع. وبالتالي فإنّ التغيير في الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية باتجاه دعم تعليق حقوق الملكية الفكرية المذكور، قد لا يضمن بالضرورة تمريرَه واعتمادَه من منظمة التجارة العالمية، وخاصّة إذا تذكّرنا موقفَ ألمانيا وتأثيرها، والتي سُرعان ما عارضت إعلانَ بايدن دَعْمَهُ للمقتَرَح.
في الحقيقة لا تبدو واضحةً تماماً دوافعُ بايدن بدعم المقترح، ويمكننا وضع تخمينات وفرضيات: هل جاء تغيّر الموقف الأمريكي بسبب ضغوط قطاعات معيّنة من رأس المال وصلت لمرحلة بات من مصلحتها أكثر بدء مكافحة جدّية للوباء لتقليل الأضرار على أرباح هذه القطاعات تحديداً؟ علماً أن هناك بالمقابل ضغوطاً معاكِسة من قطاعات أخرى من رأس المال وخاصة شركات الأدوية واللقاحات الغربية الكبرى الأكثر ربحاً من احتكار حقوق الملكية الفكرية والمتاجرة باستمرار المرض (على سبيل المثال لا يمكن إغفال الجواب الصريح للرأسماليّ النافذ بيل غيتس عندما أجاب بالنفي القاطع حينَ سُئِلَ مؤخّراً عمّا إذا كان يوافقُ على تعليق حقوق الملكية الفكرية للّقاحات).
بالنسبة لموقف روسيا، أعلن رئيسُها فلاديمير بوتين أيضاً دعمَه للمقتَرَح. وبشكل عام السلوك الروسي والصيني مختلفٌ تجاه مساعي نشر اللقاحات في العالم عن السلوك الغربي حتى قبل نقاش موضوع حقوق الملكية الفكرية. حيثُ تتوالى سلسلةٌ من الاتفاقيات والمساعدات والتسهيلات، فضلاً عن التبرعات، الروسية والصينية للدول النامية والفقيرة ليس فقط لترخيص وتوزيع لقاحات كوفيد-19 التي أنتجَها هذان البلدان بل ولتوسيع خطِّ إنتاجها وتصنيعها عبر العالَم.
وعلينا انتظار الأسابيع أو الأشهر القادمة لنرى هل ستنجحُ الضغوط على الاحتكارات الرأسمالية الدوائية الكبرى في تمرير هذا الاستثناء المؤقَّت حول حقوق الملكية الفكرية أم سوف تطول غَلَبَة «الإفلاس الأخلاقي» بمكافحة الوباء، وفق توصيف مدير منظمة الصحة العالمية.