العقوبات على روسيا في عالَم ما بعد الهيمنة الأمريكية
شهدت الفترة القريبة الماضية تصعيداً في حدّة التوتر بين القوى الغربية من جهة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا من جهة ثانية. واتخذ التصعيد الغربي أشكالاً عديدة برز منها الشكل الدبلوماسي عبر سلسلة طرد السفراء، فضلاً عن شكل العقوبات الاقتصادية، إلى جانب الاستفزازات العسكرية، عبر استعراضات وتدريبات حلف الناتو بحراً وبراً وجواً في محيط روسيا والصين. نستعرض في التقرير التالي أبرز محطات الأحداث الأخيرة ذات الصلة.
منذ أواسط نيسان تقريباً، بدأت وسائل الإعلام الأمريكية «القصف الإعلامي» التمهيدي بالحديث عن معلومات لديها حول تجهيز إدارة بايدن لعقوبات جديدة ضد روسيا. وعلّق الكرملين استباقياً بأن روسيا ستتصرف وفقاً لـ«مبدأ المعاملة المثل»، وأنه يعتبر أيَّ منحى لفرض عقوبات غير قانوني.
كذلك قال النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الاتحاد للشؤون الدولية، فلاديمير دجباروف، أنّ موسكو لن تترك ذلك دون ردّ، وفي حال طرد دبلوماسيين سيكون ردّ موسكو مماثلاً.
ولكن بالمقابل وفي إشارة إلى عدم رغبة روسيا بتدهور العلاقات مع الولايات المتحدة وأنها لا تريد علاقات أكثر عدائية، قال بيسكوف إنّ موسكو لا تريد أن تُبنَى العلاقات مع الولايات المتحدة على صيغة «خطوة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء». وأضاف: «لن نعلّق على ما تنشره الصحف، وسننتظر إذا كانت الإدارة الأمريكية ستعلن رسمياً عن قرارات ما».
ولَم يَطُلْ الوقت حتى كشّرت إدارة بايدن عن أنيابها بالفعل، لتبدأ حملة هجمات أمريكية-غربية منسّقة ضدّ روسيا، حيث أعلنت واشنطن عقوبات ضد 32 كياناً وشخصية روسية، بذريعة مزاعم «التدخل الروسي» في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية، وكذلك عقوبات ضد 5 أفراد و3 شركات في شبه جزيرة القرم. وتم طرد 10 من أعضاء البعثة الدبلوماسية الروسية في واشنطن.
وحظرت واشنطن على شركاتها الشراء المباشر لسندات الدين الروسية الصادرة عن البنك المركزي الروسي، أو صندوق الثروة الوطني، أو وزارة المالية الروسية، وحمَّلَتْ جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي مسؤولية «هجوم إلكتروني» استهدف شركة «SolarWinds». لكن روسيا قالت إنها على استعداد للتصدّي وتَحمُّل هذه الإجراءات الاقتصادية.
وبالتناغم مع واشنطن استدعت بريطانيا السفير الروسي لتسليمه «مذكرة احتجاج»، متهمة موسكو بـ«شن هجمات سيبرانية» و«زعزعة الاستقرار» على الحدود مع أوكرانيا.
وبدورها أعربت الخارجية البولندية عن «تضامنها» مع السلطات الأمريكية بشأن خطواتها تجاه روسيا، فاستدعت السفير الروسي في وارسو لإبلاغه بطرد 3 دبلوماسيين روس من البلاد.
العنجهية الأمريكية: سنعتدي ولا تردّوا!
اللافت للانتباه أنّ واشنطن رغم أنّها البادئة بالاستفزازات، قال البيت الأبيض إنه «يحتفظ بحقه في اتخاذ إجراءات جديدة في حال ردّ روسيا على العقوبات».
يمثّل الخطاب والتصرّف الروسي تجاه الاستفزازات والعقوبات الأمريكية أهمّية من وجهة نظر قياس المستوى الذي وصل إليه ميزان القوى الدولي الجديد. فتكرار روسيا فكرة أنْ تكون ندّاً للولايات المتحدة الأمريكية ومبدأ «المعاملة بالمثل» وتأكيدها أنّ «إجراءات هيمنة أحادية الجانب يعارضها المجتمع الدولي بأكمله»، والتصرف العملي وفق ذلك بالردّ على طرد دبلوماسيّيها بطردِ دبلوماسيّي الطرف الآخر... يعني بالمحصلة تثبيت «قواعد» سلوك جديدة، هي في الحقيقة أكثر انسجاماً مع ميزان القوى الموضوعي الحالي. في حين أنّ الصَّلَف الأمريكي الذي يطالب الآخرين بالخضوع وبتقبّل «الصفعات» دون ردّ، ظهر في هذه الأزمة موقفاً شاذّاً وينتمي إلى حقبةِ القطب الواحد التي ولّت إلى غير رجعة.
حزمة إجراءات الردّ الروسي
بعد بدء واشنطن بتنفيذ عقوباتها، كشف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن إجراءات الردّ، ومنها: إعلان 10 دبلوماسيين أمريكيين عاملين في البلاد شخصيات غير مرغوب فيها. عقوبات على 8 مسؤولين رفيعي المستوى بالإدارة الأمريكية. حظر توظيف مواطني روسيا وأيّ دول ثالثة للعمل في المرافق الدبلوماسية الأمريكية في روسيا. حظر زيارات الموظفين قصيرة المدى وغير الخاضعة للرقابة للعمل في الممثليات الدبلوماسية الأمريكية في روسيا. كما وكان لافتاً أيضاً قيام موسكو بالردّ عبر «الدَّوْس» على الأصابع «غير الحكومية» لأقدام واشنطن في روسيا، عبر تشديد لافروف أنّ موسكو سوف توقف أنشطة المؤسسات الأمريكية التي تتدخل في الشؤون السياسية داخل روسيا. كما نوّه أنّ بإمكان موسكو أيضاً إيلام الشركات الأمريكية إذا لزم الأمر.
مع ذلك تترك روسيا بابَ المباحثات مفتوحاً على أعلى مستوى من خلال اللقاء المزمع عقده بين الرئيسين بوتين وبايدن.
المايسترو الأمريكي والأوركسترا الأوروبية
بالتوازي مع التصعيد الأمريكي أقدمت عدة دول أوروبية على تحركات دبلوماسية مماثلة ضد روسيا، فقامت التشيك بطرد 18 دبلوماسياً (بذريعةٍ استيقظتْ عليها التشيك فجأة: متهمةً الاستخبارات الروسية بأنّها وراء انفجار مستودع ذخيرة في بلدة فربيتيتسي في العام 2014). وردّت روسيا بإعلان 20 من موظفي السفارة التشيكية في موسكو أشخاصاً غير مرغوب فيهم.
وفي 21 نيسان قال بيسكوف ردّاً على سؤال عمّا إذا كانت موسكو ستنظر في مطالبة براغ بإعادة الدبلوماسيين التشيك المطرودين من روسيا: «اليوم بالذات تحدّث الرئيس بوتين في رسالته عن عدم جدوى الحديث معنا بلهجة المطالب».
في 23 نيسان أعلنت دول البلطيق الثلاث طرد عدد من الدبلوماسيين الروس (واحد من كل من لاتفيا وإستونيا، ودبلوماسيان من ليتوانيا) بزعم قيامهم بأنشطة «لا تتفق مع صفتهم الدبلوماسية». وفي اليوم نفسه أصدر بوتين مرسوماً يقضي «بتبنّي إجراءات الرد على الخطوات غير الودية من دول أجنبية» تجاه روسيا. وكلَّف الحكومة الروسية بتحديد «قائمة الدول غير الودّية التي ستتّخذ تجاهها هذه الإجراءات».
في 27 نيسان أكد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أنّ بلاده ترفض أيَّ تحذيراتٍ من الخارج حول تحركاتها العسكرية داخل حدودها. كما أعرب عن قلقه تجاه تكثيف تحركات قوات دول حلف الناتو وخاصة الولايات المتحدة قرب حدود روسيا. وأشار إلى أن موسكو تراقب عن كثب نشر القوات الأمريكية والأسلحة في أوروبا ضمن تدريبات الناتو المسمّاة «حماة أوروبا 2021».
في 28 نيسان أعلنت وزارة الخارجية الروسية استدعاء سفراء إستونيا ولاتفيا وليتوانيا على خلفية طرد دبلوماسيين روس من هذه الدول. وفي اليوم نفسه كان لافتاً إعادة تهديد واشنطن لحلفائها – ولا سيّما تركيا – الذين يتقاربون مع روسيا، حيث حذّر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تركيا وجميع حلفاء الولايات المتحدة من شراء أسلحة روسية من الآن فصاعداً ولا سيما أنظمة إس-400، مشيراً إلى أنّ «هذا قد يؤدي إلى فرض مزيد من العقوبات».
في 30 نيسان حظرت الخارجية الروسية دخول 8 مسؤولين أوروبيين إلى الأراضي الروسية رداً على تطبيق مجلس الاتحاد الأوروبي يومي 2 و22 آذار إجراءات تقييدية بحق 6 مواطنين روس. ليقوم وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان بـ«إدانة» ذلك بشدة مكرّراً تصريحات تشبه «المنطق» القائل بأنّ على الدول التي تَغضَبُ عليها السيدةُ «واشنطن» أنْ تُبقي خدَّيها نَهباً للصَّفَعات وتَصمتْ، وهذا ما يسمّونه «تصرّفاً مسؤولاً» برأيهم، كما ورد في كلام لودريان «نتوقَّع من روسيا التصرُّف بشكل مسؤول، الأمر الذي يعدّ ضرورياً لخفض التوتر الراهن». وفي 4 أيار استدعت فرنسا السفير الروسي للاحتجاج على الردود الروسية.
عالَم ما بعد الإملاءات الأمريكية
من الملاحظ في الفترة الأخيرة تكرار واشنطن مطالبتَها للدول بالالتزام بـما تسمّيه «نظاماً دولياً مستنداً إلى القواعد» – أيْ إلى إملاءات واشنطن – ولا سيّما في خطابها تجاه الصين وروسيا، بحيث يبدو وكأنّ هذه العبارة صارت نوعاً من «قصيدة رثائية» تُكثر واشنطن من اللّهج بها لأنّ قدرتها على تطبيقها تزداد ضعفاً وتراجعاً.
كان لافتاً في 27 نيسان تصريحات لافروف المهمّة التي يتجاوز مغزاها روسيا وحدها لتعكس النّهجَ الجديد في العلاقات الدولية ما بعد الهيمنة الأمريكية. إذ أكّد أنّ موسكو ستردّ بقوّة على أيّ محاولة للولايات المتحدة تجاوز «خطوطها الحمراء». وقال في حديث لوكالة «نوفوستي» إنّ العلاقات بين موسكو وواشنطن لن تتحسن إلا «إذا أقلعت الولايات المتحدة عن تبنّي موقف المتسيّد كما أشار الرئيس الروسي في رسالته إلى الجمعية الفدرالية، وإذا أدركت عقم محاولات إحياء عالم أحادي القطب وبناء هيكلية يطيع فيها الجميع الدول الغربية ويجند فيها المعسكر الغربي دولاً في مختلف القارات تحت راياته ضد الصين وروسيا، وإذا أدركت أخيراً أنّ مبادئ احترام سيادة الدول وسلامتها الإقليمية وعدم التدخل في شؤونها والمساواة بين دول سيادية لم يتم تثبيتها عبثاً في ميثاق الأمم المتحدة، وإذا نفذت التزاماتها بموجب هذا الميثاق ودخلت في حوار معنا كأي دولة أخرى، في ظل الاحترام المتبادل وتوازن المصالح الذي لا بد من خلقه». وتابع الوزير الروسي أنه إذا فضّلت الولايات المتحدة خياراً آخر، «فذلك يعني أننا سنعيش في ظروف حرب باردة أو ربما في ظروف أسوأ من ذلك. أعتقد أن التوتر في حقبة الحرب الباردة كان كبيراً جداً وكانت أوضاع خطيرة متأزمة تظهر في تلك الحقبة من حين إلى آخر. لكن كان هناك احترامٌ متبادل، أصبح منقوصاً اليوم». بالوقت نفسه لفت لافروف إلى أنّ بوتين كان واضحاً «عندما أشار في رسالته إلى أننا مستعدُّون لأوسع اتفاقيات ممكنة إذا كانت تناسب مصالحنا الوطنية... وبالطبع سنردُّ ردّاً قاسياً على أي محاولات لاجتياز الخطوط الحمراء التي نرسمها بأنفسنا».