الدولة اللقيطة
نشرت مجلّة «ريد بيبر» البريطانية مقالاً بعنوان «الدولة اللقيطة» يتحدث بالتفصيل عن إيرلندا الشمالية بين الحاضر والماضي القريب، ويتناول دور رأس المال في زرع ودعم الشقاق بين الكاثوليك والبروتستانت، وكذلك تراجع قدرة النخب على التجييش تبعاً لعدم القدرة على إدارة الأزمات المتكررة بما يلائم هذا التجييش. تقدم قاسيون ترجمة تلخيصية لأبرز ما جاء في المقال نظراً لتزايد أهميّة المنطقة في ظلّ المتغيرات الجديدة العالمية، وبعد الأخذ والرد بشأن إيرلندا الشمالية عقب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي.
ترجمة: قاسيون
منذ حوالي العقد، تحدّث رئيس «الحزب الوحدوي الديمقراطي DUP» بثقة عن إفلاس كلّ من أصرّ على أنّ إيرلندا الشمالية كيانٌ سياسي فاشل. قال: «مهمتي أن أجذب المزيد من الكاثوليك الراضين بالبقاء داخل المملكة المتحدة للتصويت للحزب». كان الهدف في الحقيقة هو جذب طبقة أرباب الأعمال الكاثوليك من أجل تطويب الحزب كمدافع عن جميع أصحاب الأعمال وعن سياسات يسار-الوسط النيوليبرالية.
في غضون أشهر من ذلك، كان رجال العصابات المنتمين لمجموعات شبه عسكرية مرتبطة بالحزب يسيرون في حلقات بجانب كنيسة كاثوليكية وهم يغنون ألحاناً عنصريّة ويرهبون ويضربون كلّ من يحاول تصويرهم من السكان. كان هذا استمراراً لتقليد تاريخي يطلق عليه اسم: «النظام البرتقالي».
في الجدل الذي أعقب ذلك، بدا أنّ حزب الوحدويين يعاني من مسألة وجودية. فإذا ما ترسخت فكرة إيرلندا الشمالية ما بعد الطائفية، ولم يكن هناك صراع وترهيب بين الكاثوليك والبروتستانت، فما الغاية من وجود إيرلندا الشمالية في الأساس؟
لم يبدأ الأمر مع بريكسيت
يحاول بعض السياسيين القول بأنّ مشكلة اليمين وزيادة التطرف في إيرلندا الشمالية مردّها عدم التوافق على الانسحاب من الاتحاد الأوربي. لكنّ المسألة تعود إلى كون إيرلندا الشمالية قامت على أساس التخويف الجماعي من المذابح. تم ترسيخ البلاد من خلال التمييز المنهجي في مجالات الحقوق الانتخابية والتوظيف والإسكان والتعليم واللغة والحق في التقاضي على أساس الدعم الرسمي للبروتستانت وتسليح مجموعات منهم ضدّ الكاثوليك غير الراضين بالبقاء ضمن المملكة المتحدة. كان على رأس المال الاستعماري أن يخلق مبرر وجوده كما في كلّ مكان آخر، وإدامة الصراع الطائفي وفّر البيئة الأمثل له.
أعطى «قانون الصلاحيات الخاصة» للشرطة السلطة لفعل كلّ ما يريدونه. وخلال خمسة عقود من حكم حزب الوحدويين وحتى وقوع الأحد الدامي عام 1972، تمّ استخدام القانون بشكل رئيسي لحبس الإيرلنديين القوميين الرافضين لحكم التاج.
في 1963، علّق وزير العدل في حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على القانون، بأنّه يرغب باستبدال جميع القوانين والتشريعات التي يتم انتقادها في بلاده بمادة واحدة من قانون الصلاحيات الخاصة الإيرلندي الشمالي.
ابحث عن الخصخصة
في أغلب سنوات السبعينيّات والثمانينيّات وُضعت إيرلندا الشمالية تحت الحكم البريطاني المباشر. لكنّ البلاد نجت من بعض برامج الخصخصة النيوليبرالية الوحشية في عهد مارغريت تاتشر لأنّه كان على حزب الوحدويين أن يُبقي على اقتصاد الحرب المزوّد بآلاف أعضاء المليشيا المحلية وحرّاس السجون. كان هناك إصرار على إعادة بناء بعد كلّ حملة تفجير يقوم بها الجيش الجمهوري الإيرلندي. عنى هذا باختصار استمرار قدرة الحزب على الإنفاق العام.
لكن بعد توقيع «اتفاقية الجمعة الطيبة» في 1998 تمّ إقرار السلام، ومع السلام حدث ما سمّاه الاقتصادي كونور ماكآبي: «التحوّل المزدوج»، حيث بدأت عمليات الخصخصة واسعة النطاق بأخذ مكانها. تمّ قبول أعضاء من الشين-فين، ممّن كانوا أبطالاً في الحرب ضدّ المملكة المتحدة، في الحكومة ضمن شروط عدم إحداث أيّ تغييرات اجتماعية واقتصادية جذرية. باتت وعود «كوبا السلتيّة» من الماضي.
لا يزال التعاون بين الوحدويين والشين-فين قائماً إلى اليوم، وفي حدث ذو رمزية عالية تمّ منح حي الكاتدرائية شديد الأهمية بالنسبة للكاثوليك في بلفاست لمجموعة تريبيكا للشركات متعددة الجنسيات على الرغم من المعارضة الشديدة. تلقى مجلس الحي 450 رسالة اعتراض و5 رسائل تأييد، ولكن استمرّ القرار بتسليم الحي لرأس المال الريعي.
ماذا بعد؟
دعونا لا نتخفى خلف إصبعنا. حزب الوحدويين هو أكبر حزب في إيرلندا الشمالية، وهو لا يخفي دوافعه الرجعية ولا تأييده لأرباب العمل. كما أنّه لم يدَّعِ يوماً السعي لتغيير هيكلي لأجل الفقراء، ولم يعد يوماً باجتثاث الطائفية وتطبيق العدالة مع الطائفيين. لكن اليوم، وبعد زيادة حوادث العنصرية في البلاد، يجب علينا فهم أنّ العمّال الذين تمّ خذلانهم في حقبة تفكيك الصناعة، هم ذاتهم من يتم خذلهم من جديد بإدارة الوباء والأزمة الاقتصادية المستمرة. وهذا الخذلان يطال الطبقة العاملة من كلا البروتستانت والكاثوليك.
أثبتت إيرلندا الشمالية عدم قدرتها على التغلب على الكابوس الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الذي لا تزال الدولة تمثله للمحرومين والمهمشين والخائفين من المذابح. في ذات الوقت تسعى الشركات لإحكام قبضتها على كلّ شيء، وتساعدها النخب من الطائفتين. كتب كولين غانون: «نهر لاجان لا يتدفق بمفرده: يتدفق رأس المال المضارب بحرية وبشكل غير مرئي حول بلفاست، ويشيد تطورات ضخمة ويرفع أسعار المساكن ويطرد السكان من الطبقة العاملة».
ينطبق هنا المثل الإيرلندي: «أطلق النار على خصيتيه» على حزب الوحدويين والنخب الإيرلندية الشمالية من ورائه. النيوليبرالية تعني الودّ بين رأس المال الكاثوليكي والبروتستانتي، لكنّها تعني أيضاً فقدان الحزب لغاية وجوده. وعندما ضربت الأزمة الحالية، لم يعد للحزب خيار المضي لتجييش الناس بعضها على بعض.
بالمقابل، بات عدد متزايد من الناس يعتبرون أنّ إيرلندا موحدة هي أكثر منطقية من إيرلندا الحالية التي تزداد مشاكلها الاجتماعية وتتسع الهوّة بينها وبين المملكة المتحدة، ومن هؤلاء الإيرلنديين عدد ليس بالقليل من البروتستانت الذين تعصف بهم اللامساواة والمعاناة الاجتماعية.
لا أحد يمكنه الجزم بما سيحدث تالياً، فرغم عدم وجود بديل يميني على غرار الموجود في بلدان أوروبا حتّى الآن، فقد يوجد هذا الخيار بحكم الضرورة والفراغ الذي يخلفه تراجع الوحدويين. لكن قد تكون هناك أصوات يسارية ممّن نزلوا إلى الشوارع مراراً قادرة على حشد الطبقة العاملة تحت رايتها والدفع تجاه نموذج مختلف.
الأمر الوحيد المؤكد هو أنّ «الدولة اللقيطة» على عتبة تغيرات جذريّة قادمة متّسقة مع التغيرات العالمية ككل.
بتصرّف عن: The Bastard State