لماذا يشتكي الغرب، الأغنى والأكثر احتكاراً، من أزمة تطعيم؟!

لماذا يشتكي الغرب، الأغنى والأكثر احتكاراً، من أزمة تطعيم؟!

في الخامس من شباط الماضي، نشرت منظمة أوكسفام مقالاً على موقعها الرسمي نقلت فيه تحذيراً أطلقه «تحالف اللقاح الشعبي» People’s Vaccine Alliance (الذي يضم عدداً كبيراً من المنظمات إلى جانب أوكسفام)، يقول فيه إنه «في مواجهة نقص اللقاحات في جميع أنحاء العالم والتحركات المتصاعدة من جانب الاتحاد الأوروبي لتقييد صادرات اللقاحات، يحثُّ تحالفُ اللقاحات الشعبي الحكوماتِ وصانعي الأدوية على زيادة الإنتاج، ويجب عليهم إزالة الحواجز المُصطنعة التي تحَول دون معالجة أزمة الإمداد العالمية، بما في ذلك تعليق حقوق الملكية الفكرية، وأن يقوموا بمشاركة التكنولوجيا وإنهاء السيطرة الاحتكارية، حتى يتمكن الجميع في كل مكان من الوصول إلى اللقاح بأسرع وقت ممكن». وقالت آنا ماريوت، مديرة السياسة الصحية في أوكسفام: «العالم في سباق للوصول إلى مناعة القطيع للسيطرة على هذا المرض، وإنقاذ ملايين الأرواح والاقتصاد... ومع ذلك، فإن السعي وراء الأرباح والاحتكارات يعني أننا نخسر هذا السباق».

انعدام عدالة كارثي بالتطعيم عالمياً

حتى تاريخ إعداد هذا التقرير (في 19 آذار 2021) بلغ عدد سكان بريطانيا الذين تلقوا لقاحاً ضد كوفيد-19 أكثر من 26 مليوناً وربع المليون شخص حصلوا على الجرعة الأولى من اللقاح، بما في ذلك مليونين أكملوا الجرعة الثانية. وفي الولايات المتحدة الأمريكية 75.5 مليون شخص تلقوا على الأقل الجرعة الأولى من اللقاح (ومنهم نحو 41 مليون أكملوا الجرعة الثانية بفايزر أو موديرنا أو الجرعة الوحيدة من لقاح «جونسون أند جونسون» لأنه يؤخذ بجرعة واحدة فقط). في الإمارات العربية المتحدة تم تلقيح أكثر من 7 ملايين و124 ألف شخص حتى تاريخه (أي أكثر من 70% من سكانها). والكيان الصهيوني الذي اشتهر بعنصريّته المزمنة والتي مارسها أيضاً في منع اللقاحات عن الفلسطينين يُصنف اليوم في رأس القائمة عالمياً من حيث نسبة تطعيم المستوطنين (حيث تم تلقيح أكثر من 5 ملايين مستوطن بالجرعة الأولى، في حين أصبح نحو 4.5 مليون مستوطن ملقحين بالكامل).

وفي حين أنّ الملقحين في بريطانيا تجاوزوا 40% من السكان، وفي الولايات المتحدة الأمريكية أقل من ذلك بقليل (لكن بنسبة قريبة)، تأتي جميع دول الاتحاد الأوروبي بالمقابل في مرتبة أدنى وبفارق مهم؛ حيث حققت عموماً حتى الآن تطعيم ما بين 10–15% فقط من السكان. أما بقية دول العالم (بما فيها روسيا والصين) فنسبة التطعيم فيها تراوح ما بين صفر بالمئة (معظم إفريقيا من دون لقاحات لهذا الوباء حتى الآن) وصولاً إلى 5% من السكان تقريباً في معظم دول العالم الباقية. (انظر الشكل أدناه – المصدر: موقع «عالمنا في بيانات»)

وأحد المؤشرات التي تعكس بشكل غير مباشر توزيع اللقاحات المجحف عبر العالَم هو سياسات التلقيح المعتمدة من الدول؛ فكلما وسّعت الدولة الفئات المشمولة بخطة التلقيح التي تعتمدها ضد الوباء كلما دلّ ذلك غالباً على أنّ لديها كميات كبيرة من الجرعات، والعكس صحيح. (انظر الخارطة أدناه – المصدر: موقع عالمنا في بيانات)

تمسّكٌ إجراميّ بـ«الملكية الفكرية»

المفارقة المثيرة لسخريةٍ مريرة، هو أنّ جميع حكومات دول الاتحاد الأوروبي بلا استثناء (إضافة لبريطانيا) والولايات المتحدة وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل، بما فيها تلك الدول الأوروبية وغير الأوروبية التي تشتكي وتتباكى الآن على نقص إمدادات اللقاح، هي في الحقيقة متواطئة مع الشركات الخاصة الكبرى في الدفاع عن «الملكية الفكرية» وما زالت ترفض حتى الآن مشروع القرار الذي قدمته الهند وجنوب إفريقيا منذ شهر تشرين الأول 2020 إلى منظمة التجارة العالمية والذي ينصّ على «تعليق مؤقت» لحقوق الملكية الفكرية فقط ريثما تتغلب البشرية على الوباء! وبالطبع لم يتم تبنّيه رغم رعايته ودعمه من معظم دول العالم الفقيرة والنامية إضافة إلى الصين وعدة دول من قارة أمريكا الوسطى والجنوبية وكامل القارة الإفريقية ومعظم آسيا. وقد أدى إخفاق منظمة التجارة العالمية في تبنّي هذا المشروع بالطبع إلى عدم توسيع الإنتاج عبر مصانع أخرى في العالَم. (الخريطة التالية أدناه، التي نشرها موقع منظمة «أطباء بلا حدود» في 9 آذار الجاري، توضح الحكومات التي ترفض مشروع القرار المذكور مقابل تلك المؤيدة له).

وفي مقال أوكسفام الذي أشرنا إليه، يرد تقديرٌ لحجم الإنتاج الإجمالي الذي تهدف إليه الشركات الصانعة للقاحات الثلاث المرخّصة حالياً من منظمة الصحة العالمية (فايزر/بيونتك وموديرنا وأسترازينيكا)، وهو أنّ إنتاجها مجتمعةً من لقاحات كوفيد-19 يكفي لتطعيم عدد من البشر «يساوي ثلث سكان العالم»، ولكن هذا لا يعني أنّه «يغطي ثلث سكّان العالم»؛ لأنّ الدول الغنية قد اشترت واحتكرت جرعات كثيرةً، وبالتالي فالرقم الفعلي من البشر الذين سيحصلون عليه هو أقل بكثير. وأسترازينيكا فقط، من بين الصانعين المذكورين، هي التي باعت غالبية جرعاتها إلى البلدان النامية (ولكن لا ننسى بأنّها تتعاون بالإنتاج مع الهند بواسطة معهد الأمصال الهندي SII). أما فايزر/بيونتك وموديرنا فقد باعوا تقريباً معظم جرعاتهم، وهي باهظة الثمن، للدول الغنية.

 

عمالقة اللقاح التقليديّون «خائفون» من الاستثمار!


لفت تحذير «تحالف اللقاح الشعبي» الانتباهَ أيضاً إلى أنّ أكبر ثلاث شركات لقاحات في العالم هي في الحقيقة ليست تلك التي زادت شهرتها خلال أزمة الوباء الحالية (فايزر/بيونتك وموديرنا وأسترازينيكا)، بل هي شركات: GSK (مقرها بريطانيا) وميرك Merk (الولايات المتحدة) وسانوفي Sanofi (فرنسا)، ورغم كونها أكبر ثلاث عمالقة بصناعة لقاحات الأمراض عموماً منذ زمن لكنها في هذه الأزمة الوبائية الحالية لا تساهم سوى بشكل «هامشي» في كمية الإنتاج العالمي، حيث تخطط لإنتاج ما يكفي لـ 1.5% فقط من سكان العالم في العام الحالي 2021!
وفي مقال مهم أيضاً في صحيفة فاينانشال تايمز الشهر الماضي، جرى لفت الانتباه إلى تأثير الضعف النسبي لمساهمة هذه الشركات الثلاث الكبرى (GSK وMerk وSanofi) من حيث الانخراط بالبحث والتطوير والإنتاج المتعلق بالجائحة الحالية، مما قد يكون أحد العوامل المهمة للنقص الذي نشهده في الإمداد العالمي. وذكر تحليل الفاينانشال تايمز عدة عوامل تتمحور باختصار حول مشكلة خوف رؤوس الأموال المذكورة من الإنفاق على تطوير لقاحات بلا ضمانات «مريحة» لنجاحها علمياً وتكنولوجياً وتسويقياً وربحياً، في مقابل جرأة أكبر أبدتها شركات أقل طاقة إنتاجية وحجماً على ما يبدو، ولكن أكثر «مغامرة». ومما ورد في التحليل:
«تخلّت شركة Merck عن لقاحيها التجريبيين (ضد كوفيد-19) بعد نتائج الاختبارات المبكرة المخيبة للآمال. أما لقاح Sanofi/GSK فتم تأجيله بنحو 6 أشهر بعد إعطاء المشاركين في التجربة عن طريق الخطأ جرعة أقل تركيزاً، مما أدى إلى استجابة مناعية أضعف لدى كبار السن... (وبالمقابل) هذا العام، تتوقع منصة بيانات علوم الحياة Airfinity أنْ تضاعف شركة Pfizer عائداتها من اللقاح ثلاث مرات بفضل لقاحها ضد كوفيد-19، بينما ستتجاوز مبيعات لقاحات شركتي Novavax وModerna مبيعات لقاحات العمالقة التاريخيين Merck وGSK وSanofi. وحتى اللقاحات الأرخص ثمناً من AstraZeneca وJohnson & Johnson تعني أنه من المتوقع أن تحقق مبيعات في 2021 أكثر مما ستحققه بعضٌ من اللقاحات الأربعة الأولى في 2020. كما وتعكس أسعار الأسهم هذا التغيير الدراماتيكي؛ فمنذ بداية 2020 ارتفع سهم شركة Novavax بأكثر من 6400%، وسهم موديرنا بأكثر من 850% وBioNTech بأكثر من 190%. وتراجعت أسهم GSK وMerck وSanofi بين %13 و%30».
ولفت تحليل الفاينانشال تايمز إلى رأي يقول بأنّ «صانعي اللقاحات الثلاثة الكبار هؤلاء ربما كانوا أيضاً حذرين من أن يشتتوا جهودهم بعيداً عن أعمالهم الرئيسية الأخرى، في حال انخرطوا بإخلاص كامل في السعي إلى لقاح ضد كوفيد-19. ولا سيّما بأنّ تجربتهم مع الأوبئة السابقة، بما في ذلك السارس SARS والميرس MERS، قد بيّنت لهم بأنّ تلك الأوبئة كانت تنتهي قبل أن يكون لقاحهم جاهزاً أو حتى يتمكنوا من من إكمال التجارب».
ولفت أحد المحللين إلى الملاحظة التالية: «إن فشل أكبر ثلاثة شركات للقاحات في العالم في أن يأخذوا الأزمة على محمل الجد ويستجيبوا لها مباشرةً، هو مؤشر على الفشل الأكبر لنموذج أعمال الصناعة من حيث أنه لا يعطي الأولوية لاحتياجات الصحة العامة».

 

جوهر المشكلة: الربح كدافع وحيد ونهائيّ


في توضيح يؤكّد على جوهر المشكلة الكامن في نقص حوافز الربح العالي المضمون وراء فشل إنتاج كميات كافية، نقل تحليل الفاينانشال تايمز أيضاً عن هوتيز من كلية بايلور قوله إنّ الأمر ربما كان في أنّ الشركات الأكبر لا تريد أن «تُلدغ من جحرٍ مرّتين»، إذ إنّ سانوفي Sanofi مثلاً أمضت أكثر من عقد من الزمن في تطوير لقاح لحمى الضنك، لكنها فشلت بعد أن تبين أنّ لقاحها التجريبي يزيد (بدل أن ينقص) خطر الإصابة بذلك المرض لدى بعض الأطفال. كما أنّ شركة GSK ورغم أنها اخترعت أول لقاح للملاريا، لكنه استغرق 30 عاماً [وهي فترة يبدو أن الشركة اعتبرتها طويلة جداً وأكثر مما ينبغي بالنسبة لتعطشها لربح سريع]. وبالنسبة لشركة Merk كان لقاح الإيبولا «انتصاراً إنسانياً» لكنه ببساطة لم يكن «رابحاً».
وقال دان ماهوني، الذي شارك في قيادة أعمال الرعاية الصحية في مؤسسة Polar Capital «إنه لأمرٌ غريب بعض الشيء أن شركة GSK التي هي أكبر صانع لقاحات في المملكة المتحدة لم تكن هي التي تدخلت هذه المرة للمساعدة بإنتاج لقاح محلّي في بريطانيا». كما لفت إلى ملاحظة مهمة هي أنّه «حتى قبل حوالي 15 عاماً، كانت صناعة اللقاحات قد دخلت سلفاً في «ركود»، مع بعض الاستثناءات (مثل لقاح Gardasil المضاد للفيروس المسبب لسرطان عنق الرحم من شركة Merk ولقاح Shingrix المضاد لداء «الحَلأ النطاقي» من شركة GSK) لكنها مع ذلك لم تكن كافية لإغراء الشركات بضخ مزيد من الأموال في تطوير اللقاحات. وعندما كانت شركات الأدوية تتراجع قبل 10 سنوات، كان يشتبه في أنَّ من بين البرامج التي قامت بشطبها هي برامج تطوير اللقاحات في مراحلها المبكرة». وقال ماهوني أنها بدلاً من ذلك، انصرفت أكثر للاستثمار بالأدوية الرائجة لعلاج السرطان وبعض الأمراض النادرة من تلك النوعيات التي حققت قفزات تكنولوجية وزيادة طلب وارتفاع أسعار (وبالتالي أرباحاً أعلى وأضمن).

إنّ أزمة نقص اللقاحات في العالَم عموماً، وفي أبرز الدول الإمبريالية خصوصاً، تلقي الضوء على المرحلة المأساوية التي وصل إليها تناقض الإنتاج البضاعيّ وما يولّده من اغتراب عميق: بحيث وصل التطرّف في التمسّك بالربح الأعلى المرتبط بإنتاج «القيمة التبادلية» إلى حدّ تردُّد رأس المال وامتناعِه عن الإنتاج، حتى لو كانت «القيمة الاستعمالية» المطلوبة ترياقاً أو لقاحاً، البشرية بأمس الحاجة إليه، لإنقاذها من المرض والموت!