ما أهمية معاهدات الأسلحة الدولية ومخاطر الانسحاب منها؟

ما أهمية معاهدات الأسلحة الدولية ومخاطر الانسحاب منها؟

بعد الحرب الباردة أواخر القرن الماضي، تم توقيع عدد من المعاهدات الدولية المتعلقة بالأسلحة بين روسيا والناتو، من أهمها: INF وTOS وSTART، أسهمت جميعها بتثبيت وضع عسكري مستقر إلى حدّ ما، كما بنت علاقات ثقة متبادلة بين الدول المنضوية ضمنها والمعنية بها، مما أدى إلى منع الانزلاق نحو سباقات تسلّح أو مخاطر نشوب حرب عسكرية بين هذه الدول.

خلال الفترة القريبة السابقة، تم نسف اثنتين من تلك الاتفاقيات بفضل سلوك الولايات المتحدة الأمريكية، والثالثة ستنتهي بعد شهرٍ من الآن وسط سباق تسلح جارٍ ويتصاعد منذ سنين، إضافةً إلى وجود «ازدحامات» عسكرية أرضية وجوّية في مختلف مواقع النزاع والتوتر على الكوكب، فضلاً عن تحركات إعادة التموضع، ونشر الأسلحة، سواء في مناطق النزاع أو في المناطق التي توضع كنقاط تحفظ الأمن القومي لأيّ من الدول الكبرى: الولايات المتحدة، والدول الأوروبية، وروسيا.

 

الصواريخ النووية متوسطة المدى

في العام الماضي انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أحادي الجانب من «معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى– INF» والتي جرى التوقيع عليها بين ريغان وغورباتشوف عام 1987 لمنع تنصيب صواريخ نووية أرضية وبالستية من مدى يتراوح بين 500 إلى 5500 كيلو متر على اعتبار أن هذه الصواريخ تتخذ مسافةً أقل ووقتاً أسرع بإطلاقها وإصابة أهدافها مقارنةً بالصواريخ البالستية بعيدة المدى، لما للأمر من أهمية من وجهة نظر تكتيك وإستراتيجيات الدفاع.

وأدى الانسحاب من هذه المعاهدة إلى ضغط وتوتر الجانب الأوروبي تحديداً الواقع بين الدولتين الكبريين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، لتستثمر الولايات المتحدة ذلك بمزيد من الابتزاز على أعضاء الناتو من جهة، وتوتير العلاقات بين الأوروبيين والروس من جهة أخرى.

 

الأجواء المفتوحة

في عام 1992 تم التوقيع على «معاهدة الأجواء المفتوحة– TOS» بين روسيا وحلف الشمال الأطلسي وعددٍ من الدول الأخرى، وصل مجموعها خلال العام الماضي إلى 34 دولة، تقع جميعها بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ودخلت حيز التنفيذ عام 2002.

تسمح المعاهدة لكل دولة بتسيير رحلات طيران استطلاع غير مسلحة في أجواء بقية الدول الأعضاء بعد إخطار سريع وقصير الأمد لجمع معلومات عسكرية، عبر رصد وتحديد مواقع وحجم انتشار الأسلحة الثقيلة، كمنصات الصواريخ وبطاريات الدفاع الجوي والمدفعيات والدبابات وغيره، وتنص الاتفاقية على أن الدولة التي تستضيف طائرات استطلاع دول أخرى تحصل على نسخة كاملة من المعلومات التي يتم جمعها، كما يمكن لأية دولة من الدول الأعضاء الحصول على نسخة من تلك البيانات.

تهدف هذه الاتفاقية بشكل أساس إلى بناء عوامل تفاهم وثقة متبادلة بين الدول الموقعة عليها.

لكن في 22 تشرين الثاني من العام الماضي أعلنت الولايات المتحدة انسحاباً منها أحادي الجانب، ولتعلن روسيا بدورها في 15 من الشهر الجاري «بدء إجراءات الانسحاب» رداً على ذلك، فضلاً عن أن غياب الولايات المتحدة عن الاتفاقية يفقدها جدواها، خاصةً وأن الدول المنضوية في حلف الشمال الأطلسي لم تعطِ أية تأكيدات وضمانات خلال الشهور السابقة بعدم مشاركتها المعلومات العسكرية التي تجمعها مع الولايات المتحدة الأمريكية المنسحبة من المعاهدة على الرغم من أن الجانب الروسي قد أعلن طلبه الواضح بذلك، لكنه بقي دون ردّ.

 

انتشار الصواريخ المتوسطة وبعيدة المدى

جرى التوقيع على معاهدة «الحدّ من انتشار الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى– START» عام 1991 بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وانتهت عام 2009 قبل أن يوقع الرئيسان أوباما وميدفيديف في عام 2010 على معاهدة «New START» التي حلّت محلها، وتنصّ الاتفاقية على حدّ كلتا الدولتين من تنصيب أكثر من 1550 رأساً نووياً، و700 صاروخ وقاذفات إستراتيجية، كما تتيح لكلتا الدولتين إمكانية المراقبة المتبادلة على نشر الأسلحة.

تنتهي مدة سريان هذه المعاهدة في شباط المقبل، وسط توقعات بانهيارها أيضاً رغم جهود ومبادرات موسكو لتمديدها عاماً إضافياً على الأقل، بيد أن الجانب الأمريكي لم يبدِ أيّ تعاون جدّي وحقيقي خلال المحادثات المتعلقة بهذا الشأن، خلال الفترة الماضية، خلف كل تصريحاته الإعلامية المراوغة والكاذبة بـ«إيجابيتها».

 

جدوى هذه الاتفاقيات اليوم

تعود البذور الأولى لهذه الاتفاقيات إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قبل أن تتطور ويجري اعتمادها وتوقيعها بعد الحرب الباردة.

في الحقيقة، من الناحية العسكرية والأمنية تعتبر هذه الاتفاقيات قديمة بمفعولها وجدواها بالنظر إلى التطور الكبير والمتسارع الذي جرى خلال العقدين الماضيين، سواء على مستوى «الفضاء» حيث باتت الأقمار الصناعية تحل محل «طائرات الاستطلاع» للمراقبة وتحديد مواقع وانتشار الأسلحة، إلّا أن الفرق هو التكلفة والطاقة اللازمة لذلك، أو بنوعية الأسلحة الأرضية والجوية نفسها، فنذكر مثالاً: «الصواريخ فرط الصوتية» منها، والتي تتمكن من حمل رؤوس نووية كذلك، بما يعنيه في حال نشوب حربٍ تكون الفرط الصوتية مع الطائرات الشبحية أسرع وأكثر دقة من البالستية البعيدة نفسها، وهو ما تدركه جميع الدول، أي: إن هذه الاتفاقيات والمعاهدات لم تعد ذات قيمة حقيقية من الناحية الأمنية والعسكرية، بيد أنها تحظى بوزن وآثار سياسية كبرى تتعلق بطبيعة ومستوى العلاقات المتبادلة.

إن مخاطر توقف هذه الاتفاقيات لا يتعلق بموضوعة «الانسحابات» بعينها من ناحية الأمن القومي والحرب، وإنما ما سيترتب عليها من تصعيدات وتوترات سياسية ودولية بين الأطراف الرئيسة الكبرى: روسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وكيفية تثمير هذه التوترات لصالح «الفوضى» الأمريكية وعرقلة تبلور العالم الجديد، أو لصالح «التهدئة» الروسية من أجل بناء علاقات واتفاقيات جديدة تتناسب مع هذا العالم الناشئ.

إن انهيار هذه الاتفاقيات العائدة بطبيعتها إلى الفضاءات السياسية الدولية القديمة بشكلها الحالي، يعود إلى الظروف الموضوعية الجديدة التي لم تعد تتناسب معها بالمحصلة، وتعبّر عنها الآن أمريكا بانسحاباتها السلبية منها، لكنه لا يعني بحال من الأحوال أن مصيرها لم يكن كذلك، كل الفرق يكمن في «كيفية» هذه التغييرات بين سلبية كـ «الانسحابات الأحادية» التي تدفع نحو التأزم، أو الإيجابية كـ «الحوار والمحادثات» لتطويرها بما يتوافق مع الظروف الجديدة.... فلا يدور الحديث هنا عن أن توقف هذه المعاهدات سيؤدي إلى احتمالات أعلى بنشوب حروب، وإنما محاولات أمريكية لعرقلة وتباطؤ بناء علاقات دولية جديدة، مما يعنيه من محاولات تأجيلات مؤقتة لموتها هي بالذات.

آخر تعديل على الأربعاء, 20 كانون2/يناير 2021 12:14