ما المقصود بأنّ العلاقات الصينية الروسية «بلغت أعلى مستوى في التاريخ»؟
يحمل العام 2021 حدثاً مهماً على مستوى العلاقات الروسية–الصينية، فهو يصادف مرور 20 سنة على توقيع معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي، والتي رافقها صدور بيانٍ مشترك لرئيسي الدولتين، ليُعلنا من خلال الوثائق الرسمية هذه عن شكل التحالف الاستراتيجي الروسي–الصيني.
أعلن الكرملين في بيانٍ عقب مكالمة هاتفية بين فلاديمير بوتين، ونظيره الصيني عن أن الاتصالات بين البلدين «بلغت أعلى مستوى في التاريخ». ومن هذه الكلمات يمكننا أن نطرح سؤالين، الأول حول معنى التصريح في هذا الوقت بالتحديد، والثاني حول طبيعة العلاقة الروسية الصينية أساساً.
لا شك أن العلاقة بين البلدين تبدو متينة حتى بالنسبة للمتابع العادي، لكن لهذه العلاقة نكهة خاصة جداً يمكن من خلال فهمها بناء صورة مختلفة كلياً عن العلاقات الدولية التي نعرفها اليوم.
تشترك روسيا والصين بحدود برية تمتد على مسافة 4300 كم، وفي الوقت الذي تحتل فيه الصين المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد السكان، تحتل روسيا المرتبة الأولى من حيث المساحة، وتشكل الدولتان معاً قسماً جوهرياً من شرايين الحياة الأساسية على هذا الكوكب وعقدة ربط بين آسيا وأوروبا. وشكّل التحالف الذي نشأ بين البلدين عقب الحرب العالمية الثانية نقطة فارقة، ورغم أن العلاقات السوفييتية الصينية تحتاج بحثاً مطولاً إلا أنها – ومن المؤكد – لم تكن علاقة مرغوباً بها في المعسكر الغربي، وكان يجب كسرها مهما كلّف الأمر. ويرى مجموعة من المؤرخين أن هينري كسينجر كان تتويجاً لهذه المحاولات الغربية عبر خطة تطبيع العلاقات بين بكين وواشنطن والتي تمت مع زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون إلى العاصمة الصينية في شباط 1972، فالعلاقات السوفييتية الصينية كانت تعاني ما تعانيه من مشكلات منذ ستينيات القرن الماضي، وما فعلته الولايات المتحدة بعد التطبيع هو الإعلان النهائي عن كسر هذه العلاقة، ليعلن بذلك حقبةً جديدة. لكن لم يكن من الممكن تعطيل العلاقات لوقت طويل. فهي في الواقع، علاقات مصلحة عميقة، وعابرة للإيديولوجيا التي جمعت البلدين في فترة تاريخية محددة. لذلك تجددت العلاقات بشكل تدريجي بين موسكو وبكين، حتى وصلت مع توقيع معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الروسي في العام 2001 إلى أفق جديد مفتوح. بعد هذه المقدمة يصبح من السهل فهم ما جاء في البيان الصادر عن الكرملين، والذي أعلن في متنه عن أن العلاقة بين الصين وروسيا «بلغت أعلى مستوى في التاريخ»، فالعلاقات الصينية السوفييتية في القرن الماضي، ورغم متانتها، إلا أنها لم تستطع الثبات بوجه الهجمة الغربية، والإعلان اليوم أن هذه العلاقات قد بلغت أعلى مستوى في تاريخها يعني أنها أصبحت علاقات أكثر متانة، ومحصنة ضد هذا الهجوم الغربي المستمر، أي أن بيان الكرملين يحمل بين سطوره إعلاناً عن فشل المحاولات الغربية بأن تحدث شرخاً في العلاقات الروسية الصينية.
طبيعة العلاقة التي ترسمها المعاهدات
جرى تنظيم العلاقة بين الصين وروسيا كغيرهما من الدول، عبر مجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات، التي لا يمكننا استعراضها إلا عبر دراسة شاملة للعلاقة بين البلدين، لكن وبالنظر لمعاهدة حسن الجوار والتعاون الودي، والبيان الرئاسي الذي رافقها، المؤرخ في 6 تموز 2001، يمكننا فهم طبيعة العلاقة بين العملاقين؛ فهذه المعاهدة تنص أولاً على ضرورة حل كل أشكال الخلافات بين البلدين بالوسائل الدبلوماسية والسلمية، بالإضافة إلى الكثير من الإجراءات لبناء الثقة بين البلدين مثل التعاون الدائم في المجال العسكري والتقني، إلى جانب تخفيض عدد القوات في المناطق الحدودية. من جانبٍ آخر تنص المعاهدة على الاعتراف بسيادة كلٍ من الفريقين على أراضيه، ويتعهدان بأن لا مطالب لأي طرف في أراضي الآخر. ولا تغفل أيضاً ضرورة الابتعاد عن الأحلاف التي تشكل تهديداً للطرف الآخر. تتمسك الصين وروسيا في هذه المعاهدة بإقامة نظام دولي جديد يسوده العدل والإنصاف، لذلك يعلن رئيسا البلدين في بيانهما عن العمل من أجل بناء عالمٍ متعدد الأقطاب، ويتعهدان بتنسيق جهودهما في الأمم المتحدة ومجلس الأمن متمسكين بالقانون الدولي. تشير الوثائق الرسمية هذه إلى جانبٍ آخر شديد الأهمية، وهو ضرورة ضمان أمن واستقرار المناطق المجاورة للصين وروسيا نظراً لتأثير هذه المناطق على الأمن الوطني لكلا البلدين، لذلك ستعمل الصين وروسيا وفقاً للبيان الرئاسي على ضمان أمن واستقرار منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ما الذي يميز العلاقة فعلاً
الحديث الباكر عن عالمٍ متعدد الأقطاب، والإعلان عن التنسيق العسكري والسياسي والاقتصادي في مجمل القضايا والمحافل الدولية شكلت تحدياً للهيمنة الغربية، ونستطيع اليوم أن نرى التطور الذي أحرزه البلدان في هذه الميادين. لا شك أن كسر الهيمنة الغربية يعد هدية ثمينة للكوكب كله، لكن ما ميّز العلاقة بين الدولتين هو أنهما يقدمان نموذجاً لشكل العلاقات الدولية التي لا تكون فيها الحدود البرية خزاناً للأسلحة والأسلاك الشائكة بل طرقاً سريعة وسكك قطار وأنابيب لنقل الطاقة. العلاقة الصينية-الروسية هي علاقة بين دولتين تقوم على أساس التعاون والتنسيق في كل الميادين بهدف رخاء وتأمين احتياجات شعبيهما، وهذا بحد ذاته لا يعتبر شكلاً مألوفاً في العالم الذي نعيشه اليوم، لذلك تنشغل مراكز الأبحاث الغربية بالترويج لكل أنواع الدراسات والمقالات والتقارير التي تتحدث عن «الخلافات» الروسية-الصينية، التي لا يمكننا نفي وجودها لكننا نستطيع القول أن شكل العلاقات الروسية الصينية ينتمي بشكلٍ من الأشكال إلى مستقبل العلاقات الدولية، حيث لا تَنتج عن تضارب المصالح في قضية معينة حربٌ تمتد لعقود، بل تَنتج عنها تسويات وتفاهمات، لذلك تعتبر هذه العلاقة عصية على الفهم بالنسبة للعالم الغربي بل تقابَل بخطوات عسكرية وعقوبات سياسية أملاً في محاولة تطويقها قبل أن يجري تعميمها كشكلٍ جديد للعلاقات الدولية.