حاتم علي في دمشق منطلقه ومثواه الأخير
تلقّى السوريون صباح يوم الثلاثاء ٢٩/١٢/٢٠٢٠ نبأ وفاة المخرج والممثل الاستثنائي حاتم علي المفاجئ بكثير من الألم والقهر، وكانت ردود فعلهم ونعواتهم له على مواقع التواصل الاجتماعي تعبيراً صادقاً وحقيقياً عن حجم الفاجعة الوطنية بخسارة فنان ومثقف وطني كان له بصمته في الدراما السورية وفي تشكيل جزء هام من ذاكرة السوريين الفنية لفترة تزيد عن عشرين عاماً.
حاتم علي (١٩٦٢–٢٠٢٠) ممثل وكاتب ومخرج سوري، حصل على إجازة في الفنون المسرحية من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عام ١٩٨٦. كان له تجارب عدة في الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي، ونذكر منها: «مات ٣ مرات» (١٩٩٦)، «البارحة... اليوم... وغداً» (١٩٩٨)، «أهل الهوى» (٢٠٠٣). وقد تميز بحضوره الاستثنائي كممثل أدى أدواراً عديدة كان لها طابعها الخاص الذي يعكس رؤية حاتم علي العميقة والتقدمية لمفهوم فن الممثل وطبيعة أدائه في الدراما التلفزيونية.
ولكن يمكن القول بأن الأثر الكبير والانعطافة الفنية في الدراما السورية تركها المخرج حاتم علي في أعماله التلفزيونية التاريخية والاجتماعية، ونذكر أهمها: الفصول الأربعة (١٩٩٩)، الزير سالم (٢٠٠٠)، صلاح الدين الأيوبي (٢٠٠١)، ثلاثية الأندلس: صقر قريش (٢٠٠٢) – ربيع قرطبة (٢٠٠٣) – ملوك الطوائف (٢٠٠٥)، مسلسل أحلام كبيرة (٢٠٠٤)، مسلسل التغريبة الفلسطينية (٢٠٠٤)، مسلسل قلم حمرة (٢٠١٤) وغيرها العديد من الأعمال التلفزيونية التي كان لها وقعها الخاص في نفوس الجمهور السوري والعربي بشكل عام.
سطور عدة لا تسعها أن تتناول غنى ظاهرة المخرج حاتم علي وأهمية أعماله في تاريخ الدراما السورية والفن السوري عموماً، وباعتقادي أنّ نتاج المخرج حاتم علي يحتاج إلى عدة دراسات فنية نقدية علمية تحلل وتوثق أهمية وخصائص هذه الأعمال على مستويات عدة، ابتداءً من النص والرؤية الإخراجية إلى العمل مع الممثل وتناول العناصر الفنية من ديكور وموسيقى تصويرية وملابس، وانتهاءً بالعامل الفني التقني. إن كل هذه العناصر مجتمعة شكلت في أعمال حاتم علي وحدةً فنية متكاملة، حيث يقوم كل عنصر بدور وظيفي درامي لا ينفصل عن باقي العناصر ويخدم المقولة الفنية والفكرية العامة التي يقدمها المسلسل.
يجمع الكثيرون على أنّ سرّ نجاح العمل الفني الدرامي يكمن بالدرجة الأولى في النص، وهو ما يُعتبر من أهم العناصر الفنية التي ميزت أعمال المخرج حاتم علي وأعطتها طابعها الاستثنائي، فبشراكته مع الكاتب الكبير د. وليد سيف قدّم لنا هذا الثنائي أعمالاً تاريخية تحمل نهجاً ثورياً في طريقة فهم التاريخ وتحليله وتقديم شخصياته للمشاهد المعاصر.
تكمن ثورية الطرح الإبداعي لهذا الثنائي، في أعمال ثلاثية الأندلس، في الابتعاد عن تقديم المادة التاريخية بشكل مُتحَفيٍّ جامد تُشعر المشاهد بأنّ ما يحدث على الشاشة هو تاريخ ماضٍ ولا يمتُّ للواقع بصلة. بل على العكس من ذلك، فقد قدمت هذه الأعمال رؤية فنية نقدية للتاريخ بطابع إنساني عميق، جعلت الشخصيات التاريخية في هذه الأعمال تكتسي حلة معاصرة يستطيع المشاهد أن يتفاعل معها ويفهم دوافعها وسلوكها وبالتالي يدرك بشكل عميق مفهوم الصراع السياسي والاجتماعي الذي شكل التاريخ، ويتمكن من إسقاط هذا الفهم لمعالجة واقعنا المعاصر.
كذلك الأمر في المسلسل التاريخي «الزير سالم» للكاتب ممدوح عدوان، الذي يتناول الملحمة الشعبية كعنصر من عناصر التراث، حيث يقدم هذا العمل الحكاية الشعبية بلغة معاصرة تطرح قضايا إنسانية كبرى حول السلطة، الموت، الحرب والحب وغيرها.
أما في مسلسل «التغريبة الفلسطينية» للكاتب د. وليد سيف، يقدم لنا حاتم علي، وهو ابن الجولان المهجّر سنة ١٩٦٧، القضية الفلسطينية بعيداً عن الخطابية والشعارات الجوفاء السائدة في أدبيات الخطاب الرسمي. فجاء هذا العمل الملحمي الكبير ببعده الإنساني الذي يصوِّر مرارة التهجير وفقدان الأرض، ليلامس الوعي الشعبي للقضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال انطلاقاً من الشعور العميق بوحدة مصائر شعوب منطقتنا.
المسلسلات الاجتماعية التي أخرجها الفنان حاتم علي لنصوص كتاب سوريين معروفين مثل دلع الرحبي، أمل حنا، فادي قوشقجي، حسن سامي يوسف، وغيرهم، شكلت نقلة نوعية في تقديم الأعمال الدرامية الاجتماعية من حيث مضامينها العميقة وتعقيد شخصياتها وعلاقاتهم الإنسانية. رصد المخرج حاتم علي في هذه الأعمال التغيرات الاقتصادية الاجتماعية التي طرأت على المجتمع السوري مع تبني الدولة السورية للسياسات الليبرالية التي كان لها بالغ الأثر في تفكيك الطبقة الوسطى والتحول الجذري في شكل العلاقات الإنسانية والمنظومة الفكرية الأخلاقية السائدة في المجتمع. فقد سلّط المخرج الضوء على حياة الأسرة السورية البسيطة التي كانت تتمتع باستقرار نسبي وبات أبناؤها يواجهون أزمات اجتماعية تتمثل في تفاصيل حياتهم اليومية المعاشة وعلاقاتهم الإنسانية من حب وصداقة وعائلة وغيرها.
رؤية حاتم علي الإخراجية في أعماله الاجتماعية أسست لمدرسة الواقعية الجديدة في الدراما السورية، التي ترسخت وازدهرت وأصبحت واسعة الانتشار ليس فقط في الشارع السوري وإنما على مستوى العالم العربي لما تحمله من ملامسة حقيقية لحياة الإنسان السوري بكل تفاصيلها الجميلة والمؤلمة.
استشعر الفنان حاتم علي أزمة المسرح والسينما وعدم قدرتهما على الوصول إلى شرائح واسعة من السوريين لأسباب عديدة في مقدمتها غياب دعم الدولة للنهوض بهذه الفنون. فقام انطلاقاً من همِّه الإبداعي الذي رافقه منذ البدايات بعمل اختراق حقيقي ضمن المساحة الممكنة في الإنتاج التلفزيوني من خلال تقديم مادة فنية جادّة تطرح قضايا هامة وتحمل في طياتها ملامح مسرحية وسينمائية في آن معاً. حيث يُجمِعُ الممثلون الذين شاركوا في أعمال المخرج حاتم علي، أنه كان يولي اهتماماً عظيماً لأداء ممثليه مهما كبر دورهم أو صغر، وهو بذلك رسّخ لمفهوم الممثل المحترف الأكاديمي المطلوب منه تقديم كل مهاراته الإبداعية في شرط يقارب الحالة السينمائية مع كاميرا بتقنيات عالية ترصد أدق التفاصيل وتصور كادراً يتميز بجمالية عالية، مبتعداً بذلك عن الاستسهال وتقديم الكليشيهات الجاهزة التي كانت سائدة في الكثير من التمثيليات التلفزيونية سابقاً. وهو بترسيخه لهذا المفهوم عن أداء الممثل ضمن الشرط التلفزيوني فتح باباً واسعاً امام الممثلين السوريين المحترفين ليقدموا إمكانيات ومهارات عالية تتناسب مع مستوى إعدادهم وتأهيلهم في المعهد العالي للفنون المسرحية. كما تجدر الإشارة إلى استخدام حاتم علي لحلول فنية ذات طابع مسرحي في العديد من أعماله التلفزيونية كالجوقة في مسلسل «ملوك الطوائف»، والحكواتي في مسلسل «الزير سالم» والطابع الشكسبيري لشخصياته التاريخية وغيرها العديد من الحلول الإبداعية لفنان تميز بمستواه المعرفي والثقافي، والتي رفعت من سوية المسلسلات التلفزيونية وأبعدتها عن الطابع التجاري السهل.
ليست بمبالغة القول إنّ المخرج حاتم علي هو ظاهرة وطنية حملت مشروعاً ثقافيّاً اشتركت فيه شريحةٌ واسعة من المثقفين الذين اعتبروا انتمائهم الوطني المرتبط بالأرض والإنسان هو الدافع الأساسي في إنتاجهم الفني. ولا يسعنا إلا ان نأسف شديد الأسف على رحيل هذه القامة الفنية الجامعة لكل السوريين بعيداً عن أرض بلده، في حالة نفي قسري نتيجة العمل الممنهج لمؤسسات الدولة الراعية للفن على تهميش كل الكوادر الفنية الجادّة والتضييق على أيِّ منتج فني يحمل في طياته بذور مشروع ثقافي جدّي، مما يضطرهذه الكوادر للبحث عن حلول وأحياناً مساومات مع جهات الإنتاج المختلفة خارج البلاد لتستطيع الاستمرار في العمل والعطاء ضمن المقاييس الفنية الاحترافية.
في وداع المخرج الكبير حاتم علي الذي احتضنته حبات تراب دمشق، رغم تجاهل ممثليها الرسميين، والذي غمرت جثمانَه دموعُ وراحاتُ أهل الشام المثكولين بهذه الخسارة الوطنية، نقتبس من كلمات الشاعر نزيه أبو عفش التي جاءت أشبه بنبوءة لما يعتمل في صدور السوريين اليوم «نامي إذاً يا روحُ نامي الآن... هي آخر الأحلام نطلِقُها على عَجلٍ ونمضي... هي آخر الأيام، نطويها ونرحل في سلام... نامي إذاً يا روحي فقد نفد الكلام...».