هل يرتقي «نشاط» الحكومة «المضاد لكورونا» إلى مستوى موزمبيق؟
تحتل سورية حالياً المرتبة العاشرة من بين أسوأ عشر دول (أو بقاع) في العالَم من حيث ارتفاع نسبة إجمالي الوفيات إلى إجمالي الحالات بمرض كوفيد19، كما يمكن ملاحظة ذلك من تحليل بسيط لجدول بيانات الإحصاءات الرئيسة عن وباء كوفيد19 لجميع دول العالَم خلال الأيام القليلة الماضية. إذ إنّ هذا المؤشر في سورية، والمعروف أيضاً باسم «معدّل وفيات الحالة» CFR، بلغ نسبة 6% رغم أنّ الوسطي العالَمي هو حوالي 2.2%. ولكن هذا لا يدلّ بالضرورة على «رشاقة بيولوجية» خاصّة يتمتّع بها الفيروس في سورية تجعله «أخطر» مما هو عليه في بقية العالَم، بقدر ما يدلّ بالدرجة الأولى على تقصير السياسات الحكومية في مكافحة الوباء، أي على أسباب «مِن صُنع البشر»، لأنّ الوباء ليس أزمة «مستحيلة الحلّ» إذا تمّ اتّباع السياسات الحكومية الصحيحة.
يمكن عزو أهم سببين لارتفاع «معدّل وفيات الحالة» CFR في سورية مقارنة مع باقي الدول إلى اجتماع العاملين التاليين:
(1) إهمال السياسات التشخيصية: مثل غياب مساعٍ حكومية جدّية لرفع عدد الاختبارات وتأمينها، ولذلك تبدو نسبة الوفيات مرتفعة من أصل مجمل الحالات (رغم أنها ليست بالضرورة كذلك من أصل كل الحالات الحقيقية).
(2) إهمال السياسات العلاجية والوقائية: وعدم رفع الطاقة الاستيعابية المشفوية (مثلاً عن طريق إنشاء مستشفيات جديدة، وحتى لو ميدانية مؤقتة، والاستثمار بالبنية الصحية مادياً وبشرياً وعدم «تطفيش» الكوادر الصحية وتهجيرها إلى «الصومال» مثلاً، وغيرها). فضلاً عن التقصير الواضح في تأمين معدات الوقاية الشخصية لعمال القطاع الصحي وكوادره، الأمر الذي يبدو أنه ساهم بارتفاعٍ زائد بضحايا الوباء بينهم.
وأسهل ما يمكن للحكومة أن تلقي عليه اللوم كاملاً هو العقوبات الغربية. ولكن رغم أنّ هذه العقوبات العدوانية تساهم بالطبع بتدهور وضع الشعب السوري فقط، لكنّ جزءاً مهماً من القدرات يمكن استعادتها وزيادتها رغم العقوبات لولا العرقلة الشرسة من قوى النهب والفساد الكبير، بوصفهم أهم المستفيدين من العقوبات بشكل خاص، ومن استمرار الأزمة بلا حل بشكل عام، ومن مصلحتهم عرقلةُ أيِّ مساعٍ وحلول للالتفاف على العقوبات والتوجه الاقتصادي إلى البدائل والأصدقاء في الشرق، بشكلٍ حقيقي وليس خُلّبي.
دول أفقر من سورية وتجري اختبارات أكثر!
يبدو أنه ليس ثمّة «قعر» للحضيض الذي يمكن لـ«التوأم السيامي» المشؤوم المكوَّن من السياسات الليبرالية الجديدة والفساد الكبير، أن يهوي بنا إليه. فعلى سبيل المثال بلغت نسبة اختبارات كورونا التي أجرتها كلٌّ من رواندا، وأوغندا، وموزمبيق، وليبيريا، في إفريقيا (محسوبة لكل مليون نسمة من السكان) أرقاماً أعلى من نظيرتها في سورية بفارق يتراوح ما بين مرة ونصف إلى عشرة أضعاف المستوى السوري! إذ إنّ هذه النسبة في سورية لم تتجاوز بالتقديرات الأشد تفاؤلاً لدينا حوالي 5000 اختبار لكل مليون من سكان سورية (علماً بأنّ الاختبارات الإجمالية المجراة غير مُعلَنة رسمياً، لكن يمكن تقدير هذا الرقم وفقاً لأحدث تقارير الحالة الوبائية لسورية الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة الصحية والإغاثية، وعن الأرقام المعلنة للتبرعات الدولية لاختبارات كورونا الممنوحة للحكومة السورية).
أما في الدول الإفريقية المذكورة أعلاه، بلغت هذه النسبة على التوالي (بعد تدوير الأرقام) ما لا يقلّ عن: 51000 اختبار/مليون من السكان في رواندا، 15000 اختبار/مليون في أوغندا، 8000 اختبار/مليون في موزمبيق، 7000 اختبار/المليون في ليبيريا. علماً بأنّ الناتج المحلي الإجمالي السوري للفرد ما زال منذ الخمسينيات، وحتى في تقديرات اليوم ورغم كل الظروف، أعلى من نظيره لدى أية دولة من هذه الدول الفقيرة المذكورة!
ومن الواضح للجميع أنّ الأرقام الوبائية الرسمية الهزيلة، كأعداد الحالات والوفيات، لا قيمة لها لبناء أيّة تقديرات أو سياسيات صحيحة، سواء لمعرفة الوضع الحقيقي للوباء أو للاستجابة، لأنها لا تعكس سوى عدد الاختبارات الشحيحة التي تجريها المخابر القليلة التابعة لوزارة الصحة. حتى أنّ بعض الشخصيات الطبية الأكاديمية المرموقة والمطلعة في سورية، مثل الدكتور نبوغ العوّا، قد وضّحوا مراراً بأنّ الإحصاءات الرسمية لا تَحتسب مثلاً الحالات التي تشاهَد في المؤسسات الصحية الخاصة أو العيادات الخاصة أو المجتمع الأوسع.
«أعذار أقبح من ذنوب»
وصلت بعض التصريحات الرسمية في تبريرها للتقصير الحكومي والتنصّل من المسؤولية حداً مدهشاً حقاً. على سبيل المثال، في تصريح له أمس لإذاعة المدينة إف. إم. المحلية، شدَّدَ الدكتور عاطف الطويل معاون مدير «مديرية الأمراض السارية والمزمنة» في وزارة الصحة، على أنّه: «مهما كانت الإجراءات الحكومية قاسية، لا تفيد في السيطرة على المرض... ودور الفرد هو الأساسي تماماً للسيطرة على المرض وليس هذه الإجراءات»!
وفي اللقاء نفسه، اعتبر أيضاً بأنّ تزايد أرقام الحالات اليومية المسجلة من مستوى عشرات باليوم إلى المستوى الحالي الذي يفوق بقليل مئة حالة مسجَّلة باليوم، هو «دليلٌ على نشاطنا ونشاط الترصد بالنسبة لنا»! على حدّ تعبيره، قبل أنْ يستأنف أنه «يدل أيضاً على مدى وبائية انتشار المرض... وخاصة كوننا دخلنا الهجمة الثانية».
لكن عن أيّ «نشاط» حكومي يدور الحديث، وثمّة كما رأينا أعلاه، دولاً أداؤها أفضل من دولتنا (بالاختبارات على الأقل) رغم أنها أفقر منها بكثير؟! ونظرة على دول الجوار الأربع سترسم صورة أشدّ مرارة: ففي حين لا يزيد ما أجرته الحكومة السورية من اختبارات نسبةً إلى عدد السكان على 5000 اختبار/ لكل مليون نسمة، نجد أنّ العراق قد أجرى أكثر من 98000 اختبار/المليون، وتركيا حوالي 256000 اختبار/المليون، ولبنان أكثر من 267000 اختبار/المليون، والأردن أكثر من 282000 اختبار/المليون. وهذا يفسّر السبب الأساسي في الفارق الكبير بين عدد الحالات المسجلة لدينا مقارنةً مع مئات الآلاف المسجلة لدى الجيران (بمختلف شدّاتها من الحالات الخفيفة وغير العرضية، وهي الأغلبية طبعاً، إلى الشديدة والخطيرة).
ضبط السوق السوداء (مستحيل) حتى للقاح، وفق مسؤول حكومي
وفق المعلومات المتوافرة، يتمتع اللقاح الروسي «سبوتنيك-في» بعدة أفضليات على لقاح شركة «بفايز» الغربية، منها رخص ثمنه نسبياً، وفعاليته وأمانه، وعدم حاجته سوى إلى براد عادي (2+ إلى 8+ درجات مئوية)، مقابل غلاء لقاح بفايز وتعقيد عملية حفظه (التي تحتاج 70 أو 80 درجة تحت الصفر).
ولذلك كان من المنطقي والطبيعي أنْ تعلن الحكومة السورية عن الرغبة بالحصول عليه، ولا سيّما في ظلّ العقوبات الأمريكية-الغربية التي رغم أنّها تدّعي ما تسمّيه «استثناءات إنسانية» لكن ثبت بالتجربة أنّها ادّعاءات كاذبة ومنافقة بالطبع وكما هو متوقَّع. أمّا عن موضوع إعطاء اللقاح مجاناً للشعوب، مع أولوية عمّال القطاع الصحي والمسنين وذوي الأمراض المزمنة والفئات الأعلى خطراً للإصابة والمضاعفات...إلخ، فهو أيضاً السلوك الطبيعي والواجب العادي على أيّة «حكومة عادية»، وهو بالفعل ما أعلنت عنه كلّ حكومات المنطقة تقريباً (لبنان، الأردن، العراق، تركيا، السعودية، مصر، وغيرها)، والتي عقدت اتفاقيات لشراء لقاحات ضد كورونا. أيْ أنّ هذه الحكومات سوف تدفع ثمن اللقاح من المال العام، ثم تقدمه لشعوبها مجاناً كما أعلنت (أي بدعم بنسبة 100% عملياً)، وبالتالي من الواجب الطبيعي على الحكومة السورية أيضاً أن تحذو هذا الحذو، وتؤمّن اللقاحات للشعب مجاناً، حتى لو اضطرّت لشرائه كما فعلت دول الجوار، أو حصلت عليه كتبرّعات دولية مجانية.
ولذلك يحق للسوريين النظر بعين التوجّس والاستيضاح حول تصريحاتٍ رسمية، يبدو أنها تتناقض مع مبدأ «مجانية اللقاح» المُعلَنة، من قبيل ما أدلى به البارحة معاون مدير «مديرية الأمراض السارية والمزمنة» في وزارة الصحة حول إمكانية أن يباع اللقاح في السوق السوداء (التي تبدو كأنها أقوى من الدولة). فعندما طُرح على هذا المسؤول في اللقاء المذكور (على إذاعة المدينة إف. إم) السؤال التالي: هل يمكن أن يتكرر مع لقاح كورونا إذا تمّ تأمينه إلى سورية، ما حدث مع لقاح الإنفلونزا الموسمية، الذي رغم أنّ وزارة الصحة كانت مسؤولة عن إعطائه مجاناً للعاملين بالقطاع الصحي، لكنه تسرّب «بطريقة ما» إلى الصيدليات وصار يباع فيها... كيف يمكن ضمان عدم تكرار ذلك وعدم تشكُّل حالة «سوق سوداء» للقاح كورونا؟ فأجاب: «لقد بدأت السوق السوداء علنياً... بدءاً من تحاليل البي سي آر، وحالياً الآن الشيء نفسه بالنسبة للقاحات». وعند تكرار السؤال عليه: «إذاً أنت لا تنفي أن تتشكل سوق سوداء بلقاح كورونا»؟ أعطى جواباً ينسجم مع الغياب التقليدي لمفاهيم «الرقابة على السوق ومنع التهريب والفساد» من قاموس المنظومة الليبرالية، فقال مبرِّراً: «كل دول العالم بدأت الآن بالسوق السوداء، والدول كلها مفتوحة ويمكن لأي أحد أن يجلب اللقاح من أيّ دولة ثانية ويبيعه. ولا يمكن ضبطه»! داعياً المواطنين إلى عدم أخذه سوى من وزارة الصحة.
بمعنى آخر، يعني هذا التصريح من ممثّل «مديرية الأمراض السارية» بأنّ السوريين قد لا يكونون فقط على موعدٍ مع استغلالٍ جديد لمرضهم وصحّتهم، بل وأنه لا يبدو هناك حتى أية نية أو خطة جدّية لحمايتهم من هذا الاستغلال من تجار السوق السوداء والفاسدين والمهرّبين. وكأنّه يتم «تحضيرنا نفسياً» منذ الآن لنقبل بوجود مصادر أخرى غير شرعية للقاح كورونا ولكن «مسكوت عنها» رسمياً بحجة أنّها «قَدَرٌ لا رادّ له»! جنباً إلى جنب مع وزارة الصحة التي مسؤوليتها «إيصال اللقاح إلى مُستحقّيه»، ولكن مع ذلك فإذا كنتَ من «مُستحقّيه» الأمسّ حاجةً له، ولم «يحالفك الحظ» بالحصول عليه مجاناً من الوزارة (لسبب ما، كنفاد الكميات، أو عدم استجرار الحد الأدنى الضروري منها، أو تأخرها كثيراً بالوصول مثلاً)، فستكون متروكاً لجشع ونهب السوق السوداء واستغلالها لحاجتك، وبلا أية حماية من الدولة.
ويجدر بالذكر أنّ ممثل المديرية قال في اللقاء نفسه أيضاً، بأنّ اللقاح قد يستغرق شهوراً حتى يتم إدخاله إلى سورية معتبراً تأخير تأمين اللقاح «إيجابياً» وبأنّ «الوقت هو لمصلحة المواطن. لأنه كلما تأخر الوقت تزيد إنتاجية معامل اللقاحات وبالتالي تؤمن حصصاً أكبر... مما يؤدي إلى انخفاض سعر اللقاح وبالتالي إيصاله لعدد أكبر من الدول» على حدّ تعبيره.