وباء «تَجاهُلِ الوباء» يستمرّ في قرارات «الصحّة المَدرسية»
في ظل ذروة وبائية ثانية تعصف بسورية، وتخطف مزيداً من الأرواح، وخاصةً في قطاعي الصحة والتعليم، ظهر تصريح جديد لمديرة الصحة المدرسية الدكتورة هتون الطواشي في صحيفة الوطن (15 كانون الأول 2020) جرى فيه الإصرار على شرط «إصابة 5%» المنفصل عن الواقع والعِلم، والذي لم يتغيّر منذ تبنّيه في بداية العام الدراسي، حيث قالت: «لا تُغلَق الشعبة الصفية أو المدرسة إلا إذا كان عدد الإصابات فيها بلغ خمسة بالمئة، وفي حال تم ذلك تغلق الشعبة خمسة أيام فقط وتُتخذ فيها الإجراءات الاحترازية المطلوبة ثم يعاد فتحها». المُصيبة في هذا الشرط أنّه يضرب عرض الحائط سلسلةً كاملة من أهم توصيات منظمة الصحة العالمية عن «المدارس وكوفيد19»، وذلك في أربع نقاط على الأقل، سنفصّلها في هذه المادة.
ورد في أبرز توصيات منظمة الصحة العالمية، المنشورة على موقعها الرسمي منذ 18 أيلول 2020 تحت بند «ما هي تدابير الوقاية والمكافحة التي ينبغي إعدادها واتخاذها في المدارس؟» ما يلي: «ضمان بقاء الطلاب الذين خالطوا حالة مصابةً بعدوى كوفيد-19 في المنزل لمدة 14 يوماً، والنظر في خيارات خضوعهم للفحص عند عودتهم إلى المدرسة». وبالتالي فإنّ المعايير العجيبة للصحة المدرسية السورية تعاني من الشذوذات التالية:
أولاً – تجاهل التعريف الطبي لـ«المُخالِط» contact case
وفق منظمة الصحة العالَمية «يُعَرَّف المخالط بأنه أيّ شخص كان على اتصال مباشر أو تَواجَدَ على مسافة متر واحد لمدة 15 دقيقة على الأقل مع شخص مصاب بالفيروس المسبِّب لكوفيد19، حتى إذا لم تظهر أعراض على الشخص المصاب بعدوى مؤكدة. وينبغي أن يبقى المخالطون في الحجر الصحي الذاتي أثناء فترة الرصد الممتدّة 14 يوماً للحدّ من إمكانية تعريض أشخاص آخرين للعدوى إذا أصبحوا مرضى». ووفق هذا التعريف، فإنّه لا معنى ولا مبرّرَ على الإطلاق لتحديد ما يسمّى «نسبة الـ5%» التي من الواضح أنّ مسؤولي الصحة المدرسية اخترعوها بشكل اعتباطي. لأنّه حتى لو تم كشف حالة عدوى واحدة فقط في أيّ شعبة أو مدرسة مهما بلغ عدد طلابها، فالتصرف السليم يجب أن يكون تحديد مخالطي هذه الحالة وفق هذا التعريف العِلمي للمُخالِط، بغض النظر عن نسبة الإصابات من مجموع الطلاب.
ثانياً – انعدام المنطق في الاقتصار على إغلاق «شعبة الإصابة»
خطورة معيار الصحة المدرسية المعتمَد هو أنه يسمح لمَن خالطوا الطفل المصاب (في الفرصة مثلاً) من باقي شعب المدرسة أو الكادر التربوي بالبقاء على رأس دوامهم وعملهم! إذ إنّه من الواضح أنه يمكن بسهولة شديدة، في الوضع المُزري للازدحام والافتقار لوسائل الوقاية والنظافة في مدارسنا السورية، أن يكون المخالطون ليس فقط زملاء المصاب في «شعبة واحدة»، بل وعدداً يصعب تحديده من أطفال الشُّعَب الأخرى في المدرسة، الذين قد يكون المصاب لعب معهم مثلاً في الباحة (ولو أثناء فرصة واحدة، والتي تستغرق عادةً زمن التعريف العِلمي للتخالط نفسه: 15 دقيقة).
ثالثاً – فترة حضانة الفيروس قانون طبيعي لا يتغيَّر بـ«تنزيلات 66%»!
هل يُعقَل أنْ يكون مسؤولو الصحة المدرسية قد نسوا أحد أبسط مبادئ علم الوبائيات؟ وهو أنّ: حماية الأصحّاء من عدوى مرض سارٍ (وخاصّةً خطير) تتطلّب تطبيق عزل المصاب بالعدوى لفترة هي المدّة القصوى (وليس الدُّنيا!) لفترة الحضانة المعروفة. وهذه الفترة ما زالت 14 يوماً (أسبوعين) لفيروس سارس-كوف-2 المسبب لكوفيد-19 كما هو معروف. ألا يعلمون أنّ محاولة الإنسان فرضَ قرارات اعتباطية على قوانين البيولوجيا مثل «تغلق الشعبة خمسة أيام فقط»، وكأنَّ الفيروس سوف «يلتزم بالقرار» ويُقصِّر فترة عدواه، يشبه تماماً مُحاولة مَن يقفز مِن مبنى شاهق آملاً بأنْ يرأفَ به قانونُ الجاذبية فلا يَدقَّ عُنَقَه؟!
رابعاً – الصحة المدرسية تعامِل المدرسة كـ«جزيرة» منفصلة عن المجتمع
من المعروف أنّ أحد المبادئ المهمّة في تطبيق أيّ نظرية علمية على أرض الواقع، هو أنْ يتمّ أخذ ما نسميه «الظروف الخاصة والملموسة» بعين الاعتبار، لأنّ قوانين العِلم «العامّة» تعمل دوماً في ظروف محدّدة. وفي العلوم الطبية، كما في غيرها، يُعرَف ذلك عادةً بالممارسة «السياقية» contextual، أي التي تأخذ «السياق» والشروط المختلفة حسب المكان والزمان بعين الاعتبار. وبالفعل عندما أوردت منظمة الصحة العالمية في إرشاداتها سؤال «ما الذي ينبغي مراعاته عند البتّ في إعادة فتح المدارس أو إبقائها مفتوحة؟» فإنها لم تقدّم له أبداً «جواباً جامداً وصالحاً لكل زمان ومكان» كما فعلت الصحة المدرسية السورية في «شرط الـ5%»، والذي لا وجود له بأيّ دليل إرشادي علمي يتعلق بهذا الموضوع، بل كان جواب منظمة الصحة العالمية بالضبط «سياقياً»، أيْ ينبّه أيضاً إلى أن تؤخذ بالاعتبار جملة من العوامل «خارج المدرسة» وفي بيئتها وفي البلد وبين منطقة وأخرى ضمنه... وأبرز ما جاء في الجواب ما يلي:
«عند البتّ في إعادة فتح المدارس أو إبقائها مفتوحة، ينبغي تقييم العديد من العناصر: الوضع الوبائي لمرض كوفيد-19 على الصعيد المحلّي والذي قد يختلف من مكان إلى آخر داخل بلد ما. الفوائد والمخاطر... ويشمل ذلك مراعاة الجوانب التالية: شدة انتقال العدوى في المنطقة التي توجد فيها المدرسة: لم تُسجّل أي حالات؟ أم هناك انتقال فُرادي؟ أم انتقال ضمن مجموعات من الحالات؟ أم انتقال مجتمعي للعدوى؟ – الأثر العام لإغلاق المدارس على التعليم والصحة العامة والرفاه، وعلى الفئات الضعيفة والمهمشة... – الكشف والاستجابة: هل السلطات الصحية المحلية قادرة على التصرّف بسرعة؟ – قدرة المدارس/المؤسسات التعليمية على العمل بأمان – التعاون والتنسيق: هل تتعاون المدرسة مع سلطات الصحة العامة المحلية؟ – مجموعة تدابير الصحة العامة الأخرى المتخذة خارج المدرسة».
الأرقام «حقيقية» و«غير حقيقية» حسب «المصلحة»!
هنا تبرز سلسلة من الاعتبارات المهمة: - لا يمكن تخطيط سياسات صحيحة في التعامل التعليم والعمل ومختلف النشاطات في ظل الوباء، طالما لا يوجد تصنيف لدرجة خطورة العدوى في البلد والمجتمع بشكل عام، ومن منطقة لأخرى. وهذا التقييم بدوره غير ممكن دون استقصاءات وبائية كافية، وأحد أهم أدواتها توسيع الاختبارات والفحوصات والشفافية في الإبلاغ والإعلان عن الإصابات والوفيات. وليس أدلّ على ذلك من إقرار مسؤولة الصحة المدرسية نفسها في وقتٍ سابق بأنّ الزيادة في أعداد الإصابات بالمدارس ظهرت بسبب الزيادة في أعداد المسحات المجراة، إذ صرّحتْ آنذاك (لصحيفة الوطن، 18 تشرين الأول 2020): «عندما أجرينا 400 مسحة منذ أسبوعين، وصل عدد الإصابات إلى 100 إصابة، وعندما ضاعفنا عدد المسحات لما يزيد على 800 مسحة، وصل عدد الإصابات إلى 200 إصابة».
فكم إصابة ستنكشف إذاً لو تمّ إجراء آلاف أو مئات آلاف المسحات؟ ألا يتناقض هذا الاعتراف بالتقصير الهائل بمجال تأمين الاختبارات وإجرائها، من جهة، مع «تهوين» خطورة الوضع الوبائي، بشكلٍ غير علمي وغير واقعي، من جهة ثانية، والذي تتزايد مؤشراته (على الأقل بارتفاع يلمسه الناس يومياً بأعداد الوفيات)؟ إنّ هذا الموقف المتناقض يظهر مثلاً عبر ما ورد في التصريح الجديد للصحة المدرسية (عبر المسؤولة نفسها في 15 كانون الأول) بأنّ: ما كُشِفَ منذ بداية العام الدراسي (600 إصابة بين الطلاب و800 بين المعلمين وعمّال التربية) هي «نسبة غير خطيرة» حسب وصفها، قياساً لعدد الطلاب والمعلمين الذي يبلغ الملايين. فمرّة يتم الاعتراف بأنها «نسبة غير حقيقية» عندما يجري الحديث عن أنّ المسحات غير كافية، ربّما لتنبيه الجهات الدُّولية المتبرّعة بالاختبارات كي تقدّم دفعات مجانية جديدة (في ظل استمرار غياب خطة واضحة أو معلنة تخصص الدولة فيها أيّ إنفاق على الاختبارات حتى الآن)، ومرّةً أخرى تصبح الإحصائيات «نسبة حقيقية» يُعوَّل عليها عند شعور المسؤولين بضغط الواقع عليهم لاتخاذ الإجراءات الواجبة، والتي أقلّها تعديل المعايير والقرارات والإجراءات الخاطئة عِلمياً ومنطقياً في التعامل مع العملية التعليمية في ظل وباءٍ مستمرٍ ومتصاعد اليوم إلى ذروة ثانية أشدّ.