ماذا يخبّئ النشاط العالي للمالية؟!
تنشط وزارة المالية في الفترة القريبة الماضية في سيل من التصريحات والظهورات الإعلامية التي مضمونها الأساس «تغييرات في المالية العامة». ورغم أن الحديث يطول، ولكن يمكن اختصار التعليقات في النقاط التالية:
أولاً وقبل كل شيء: قطع الموازنة... بينما تتصدر وزارة المالية العناوين مع كل إصدار ومناقشة سنوية للموازنة العامة، وتعدّ علينا الأرقام المزمع صرفها بتريليونات الليرات، فإن عموم السوريين لا يعلمون شيئاً من الصرف الفعلي لهذه الأموال. والحكومة تخالف الدستور خلال أعوام الأزمة فلا تصدر دورياً قطع الموازنة، أي ما أنفقته فعلياً. ورغم أن قطع الموازنات للأعوام الأولى من الأزمة قد صدر وتمت مناقشته كما يفترض في مجلس الشعب، إلا أن التصريحات «النارية» التي يتناقلها الإعلام المحلي عن أعضاء المجلس لم تقترب حتى من هذا الموضوع. أي أننا لا نعرف المقدار الفعلي للإنفاق العام وقد يكون أقل بكثير من المعلن. وفي آخر قطع موازنة حصلت عليه قاسيون عن عام 2012 تبين أن الحكومة لم تنفق إلا نصف موازنتها المعلنة في ذلك العام!
ثانياً تخفيض العجز والتمويل من خارج المصرف المركزي: المسألة الثانية الهامة في المالية العامة هي الطريقة التي تغطي بها الحكومة نفقاتها مع تراجع إيراداتها، والطريقة التقليدية في سورية هي الاستدانة من المصرف المركزي لأن النفقات أعلى من الإيرادات. منذ العام الماضي تتحدث الحكومة عن تمويل المالية العامة عبر طرق أخرى كسندات الخزينة وشهادات الإيداع، أي الاستدانة من المصارف الأخرى والسوق... ويمكن التعليق كثيراً على هذه الطريقة، ولكن بالمختصر يمكن القول إنها غير واقعية في مثل هذه الظروف. وقد أجريت تجارب عبر إصدارات في العامين الماضيين وجُمع من خلالها مبالغ لا تقاس بعشرات المليارات (بينما العجز السنوي بمئات المليارات) أي أن التمويل بهذه الطريقة غير كافي والأهم أنه لا يفيد في التمويل الاستثماري (أي إنفاق إنتاجي حكومي) لأنه دين يجب أن تعيده الحكومة للممولين ضمن آجال قصيرة ومتوسطة ومع فوائد. والطريقة الفعّالة التي ستعتمدها الحكومة في تخفيض العجز لن تكون التمويل من القطاع الخاص بل بالدرجة الأولى تقليص النفقات العامة وزيادة الإيرادات العامة...
ثالثاً و«بيت القصيد» تقليص النفقات وزيادة الإيرادات: إن الهدف الأساسي من حديث الحكومة عن «تغييرات في المالية» هو أن تخفض الحكومة إنفاقها وتزيد ما تحصّله من المواطنين. والبند الأساسس في الموازنة العامة الذي يحقق هذا الغرض هو الدعم، فتقليص الدعم باتجاه إلغائه هو تقليص كبير للنفقات، وزيادة هامة في الإيرادات. فمثلاً تتغنى وزارة المالية بأن منحة الـ 50 ألف لكل موظف قطاع عام لمرّة واحدة، تمّ تغطيتها من رفع أسعار الخبز والبنزين... وتقول لنا الوزارة بأنّه كلما تمّ رفع الدعم عن مادة قد نحصل على منحة مالية صغيرة! كما في الزيادة التي حصلت على رواتب المعلمين والتي يجب أن ننتظر ونترقب من أين سيتم تحصيلها... من رفع الدعم عن أي مادة؟!
السير نحو تخفيض النفقات العامة يعني تحويل تدريجي للخدمات العامة إلى خدمات مأجورة، عبر إيصال الخدمات العامة إلى مستوى من الأزمة والتدهور بحيث يصبح السبيل الوحيد للإنقاذ هو رفع التكاليف وأسعار الخدمات العامة، وإدخال شركاء في الإدارة والربح.
لا تزال هناك سلع وخدمات أساسية تباع بأقل من كلفها، في المحروقات وفي الكهرباء وفي الخبز طبعاً... والتغييرات في المالية لا تستهدف إلّا هذه السلع. رفع أسعارها وإزالة ما تبقى من دعم عنها، وهذه طريقة الحكومة في تقليص النفقات وزيادة الإيرادات، كما أن هنالك طريقة أخرى جرت بشكل تدريجي وربما نحن قادمون على تغيرات هامة فيها، وهي تقليص عدد موظفي جهاز الدولة... فبعد تطفيش جزء هام منهم بالأجور المنخفضة، يتم الحديث عن هيكلة المؤسسات ويتم الاستشهاد بتجربة الاتصالات التي على سبيل المثال لا الحصر وضعت هدف تقليص موظفيها من 18 ألف إلى 10 آلاف، وتحويل عقود عملهم إلى عقود قطاع خاص.
بالخلاصة يمكن أن نقول ما يعرفه السوريون، لقد تمت سرقة المال العام لعقود متتالية عبر جهاز الدولة الكبير، أما اليوم فإنه وعبر المالية العامة يتم الاستقواء على الشرائح الأوسع اجتماعياً المعتمدة على بقايا الدعم في استهلاكها وإنتاجها، بينما لا تستطيع يد القرار أن تطال الأموال التي «تتكدس وتطير» إلى لبنان وغيرها بعشرات مليارات الدولارات. إنّ إعلان عدم القدرة على الإنفاق، وعدم القدرة على تحصيل الأموال إلا بطريقة رفع الدعم الحكومي هو طريق مسدود، ويشير إلى أن الهدف الأبعد هو التجهيز لتقليص وظائف جهاز الدولة للحدود الدنيا، وإجراء «نفضة مالية» لعرض خدماته الأساسية للبيع «خفيف نضيف».