سيكولوجيا الحِرمان المُفتَعَل في سورية

سيكولوجيا الحِرمان المُفتَعَل في سورية

من الملاحَظ أنّ الظهور المفاجئ والواسع لطوابير طويلة على مواد أساسية كالخبز والوقود في سورية، وبتوقيتات معيَّنة، يبدو في حجمه أكبر بكثير مقارنةً مع ما يمكن توقُّعُه مقارنةً مع الإمكانيات والحلول المتاحة لتلافي ظهور هذا «العَوَز». ولذلك يُصَنَّفُ «عَوَزاً مُفتَعلاً» بهذا المعنى، بدليل أنّ بعض الطوابير اختفت فجأةً بعد تبنّي «حلول» معيَّنة مُفَصَّلة على مقاس قوى النهب والفساد والمصالح الضيقة التي يسيل لعابها على مزيد من الخصخصة وتصفير أيَّ دَعَم إنْ كان شيءٌ منه ما زال مُتبقَّياً، مما يثير الشكّ إلى حدٍّ كبير بأنّ افتعال «المشكلة» قد يكون بالأساس من أجل تبرير وتمرير «حلول» كهذه. هذا من الناحية الاقتصادية-السياسية المباشرة، أما المادة التالية فستحاول الإضاءة على بعض الجوانب السيكولوجية-الاجتماعية للموضوع.

التجويع لتغييب الوعي


يلعب تجويع الناس والتضييق عليهم دوراً في تدمير آليات المقاومة والتفكير المنطقي السليم بكلّ شيء، وهذا بالضبط يعزز قابلية أن يكون للحرمان المُفتَعَل تأثيرٌ يتجاوَز نتائج أو أهداف اقتصادية مباشرة (مثل تمرير صفقات ليبرالية معيَّنة) إلى نتائج/أهداف سيكولوجية-اجتماعية وسياسيّة أبعد.
يلاحظ عالِم الاجتماع الماركسي السوفييتي سيرغي قره مورزا أنّ «الشعور بالإحباط يؤدّي إلى تضييق الوعي، لأنَّ جُلَّ الانتباه يصبح مركَّزاً على الحاجة التي لم تتم تلبيتها، ممّا يؤدّي إلى تشويه حاد لإدراك الواقع... وعندما تكون هذه الحاجة التي فيها العَوَز هي الطعام، فإنّ التأثير على الوعي، حتى ولو بظهور علامة صغيرة على الحرمان، يُقالُ بأنّه يكون تأثيراً مضاعَفاً عدة مرات...» ويلاحِظ أيضاً أنّ الخطر يكون أكبر بشكل خاصّ في تلك المجتمعات التي ما زالت تحتفظ في ذاكرتها الجمعية والتاريخية بالخوف من الجوع. الأمر الذي نلاحظ بأنّه لا ينطبق فقط على المجتمع السوفييتي الذي درسه قره مورزا، بل والشعب السوري أيضاً، ومثل كثير من الشعوب المُستَعمَرة والمُفقَرَة تاريخياً ولفترات طويلة، يعشش في وعيها الجَّمعي ذلك الخوف الدفين من الجوع أيضاً. التشابه الآخر هو أنّ هذه الشعوب مرّت بفترات من الاعتماد على دور معيَّن قوي للدولة ومستقر نسبياً في نظام التوزيع (حتى لو كان بالحالة السورية ليس اشتراكياً طبعاً، لكنه كان دوراً قويّاً). بحيث اعتاد الناس (وهذا ربما صار جزءاً من الذاكرة التاريخية السابقة المتوسطة المدى على الأقل) بأنّه بأسوأ الحالات كانت تقوم الدولة بالتدخل وتخصيص حصص تموينية معينة تضمن حداً أدنى من الطعام بشكل منتظم وعادل نسبياً (نتكلم عن الفترة السورية السابقة وليس عن الإذلال والفوضى الحالية المختلفة تماماً).
ويقول قره مورزا بأنه في اقتصاد السوق (الليبرالية) يؤدّي العَوز في الطعام إلى تفاعُلٍ مُتسَلسِل من الذعر، قد ينجم عنه مجاعة حقيقية، لأنّ التجّار عند أول إشارة للعَوَز، يخبِّؤون الطعام خوفاً من الحشود الجائعة [ونضيف: من أجل بيعها بأسعار عالية أيضاً]. «فالناس مثل نوعٍ بيولوجي، لديهم غرائز أيضاً، وعند حدود معيَّنة تنفلت زمام ضوابطهم الثقافية والمنطقية. فعند أول إشارة عوز للطعام تبدأ الحيوانات في كثير من الحالات بسلب الطعام من الأفراد الأضعَف، وتخزينها وإخفائها، وهذا يفاقم العَوَز، مما يودي بحياة الضعفاء. وفي نظام اقتصاد السوق، يسلك الناس سلوكاً مشابهاً». لكن ينبغي الانتباه فوراً هنا بالطبع بأنه قد يحلو للبعض من بروباغاندا حماية الفاسدين أن يجتزئ من هذا التحليل لكي يقلب السبب والنتيجة فيحاول تصوير ظاهرة التخزين البسيط التي قد تنتج، أو مزاحمة الضعفاء لبعضهم بعضاً، إنْ أتيح لهم ذلك أصلاً، وكأنها هي سبب العَوَز الأصلي، للتعمية عن المُفتَعِلِين الأصليين للمشكلة، من الأقوياء وسياساتهم ومصالحهم الضيقة.
ورصد قره-مورزا في المجتمع السوفييتي بفترة اقتصاد السوق والطوابير ظواهر مشابهة لما يشهده المجتمع السوري اليوم في بعض الطوابير: فلاحظ مثلاً بأنه ساد لدى جزء من المواطنين السوفييت تصوُّرٌ غريب وأقرب للإيمان بالخرافات وكأنّ البيرسترويكا جاءت كبلوى أو عقوبة «طبيعية» يستحقها الشعب! وهو تصوُّر لا عِلميّة ولا مشروعيّة له، بل استُخدِمَ فقط لغرض تمرير «الإصلاحات» وساعد في تملّص المسؤولين من تبعات تطبيقها وتقسيم المجتمع وإضعافه. ويتذكر قره مورزا كيف أنه في اليوم الأول لتحرير الأسعار، حاولت سيدة متحمسة في أحد الطوابير الكئيبة أن «تثبت» للواقفين فيه، كيف أننا «نستحق هذا الإجراء، لأن نصف البلاد في عهد ستالين كانت في المعسكرات»! ويقول قره-مورزا بأنّ هذه إحدى علامات التأثير الناجح للتلاعب بالوعي وتشويش وخلط مفاهيم مثل (القانون) و(العجز) و(التعسُّف) و(التضحية).

 

«شوكولا ديمقراطية» وأسنان متعفِّنة


يناقش قره-مورزا طريقة التفكير المشوَّهة التي سيطرت على بعض الناس في زمانه: «مواطن ما أخذ يشعر أنه سئم من واقع أنه في النظام السوفييتي كان عليه أن ينهض باكراً لكي يحصل على بطاقة دَور (كوبون) لكي يفحصه طبيب الأسنان مجاناً. ولذلك قام بدعم يلتسن الذي قدم وعوداً بحل هذه المشكلة وتغيير النظام. ولكن كيف؟ عبر جعل معاينات الأطباء مأجورة وباهظة، بحيث لا تعود أغلبية الناس تذهب إلى الطبيب، بل يقلعون أضراسهم بأنفسهم بالكمّاشة، بينما سيركض الأطباء وراء الناس الذين يملكون المال... وهذا هو في الجوهر ما وَعَدَ به يلتسن وليس أيّ شيءٍ آخر!».
ثم يروي الكاتب أنّ أحد أكثر الأشياء التي صُدِمَ بها عندما سافر من الاتحاد السوفييتي إلى الغرب (في إسبانيا وفي الأحياء الفقيرة في الولايات المتحدة الأمريكية) هو ملاحظته «وجود عدد مَهول من الناس ذوي الأسنان المتساقطة، رغم أنّه في كل زاوية وشارع يوجد طبيب أسنان من دون كوبونات! وعندما أخذتُ أسأل عن سبب هذه الظاهرة الغريبة، كانوا ينظرون إليَّ وكأنّني أحمق. لأنّهم معتادون كأمرٍ (طبيعي) أنّ كثيراً من الناس هناك لا يذهبون مطلقاً إلى طبيب الأسنان، بل يتركون أسنانهم تتآكل ببساطة أو تسقط من تلقاء نفسها، لأنّ الطبابة السنّية ليست مُغطَّاة بالضمان الاجتماعي. وحتّى أصدقائي الغربيين أخذوا يغضبون من سؤالي هذا ويصرخون بوجهي وهم يقحمون أصابعهم بعصبية في أفواههم: (هل تعلم كم ستكلّفني حشوة لهذا الضرس؟ كيفَ تفكّرون أنتم أيّها الحمقى السوفييت، هل سكِرتُم وذهب عقلكم؟!)». من الواضح من ردِّ فعل أصدقاء الكاتب الغربيين التأثير المأساوي المسيطر للدعاية المعادية للشيوعية على عقولهم، وعلى قبولهم بنظامٍ رأسمالي و«ديمقراطي» يجعلهم يبتسمون له بأسنانٍ متعفّنة!

 

فساد المَركز الرأسمالي ليس قدوتَنا أيضاً


في كتاب آخر له بعنوان «انتزاع الإلكترودات من عقولنا» (2003) يحتجّ قره مورزا بحق بأنّه «لو خرجت قلة نزيهة وسط الإعلام العالمي الفاسد، لكانوا أخبرونا عن الطوابير في مدن الغرب المزدَهِرة؛ في المحلات الرخيصة والأطراف المهمّشة، حيث يبيعون الطماطم المتعفّنة والخضار الذابلة بنصف السعر، وحيث تقطع النساء 2 أو 3 كيلومترات لتحصل عليها... ولا يخبرنا هؤلاء الإعلاميون الفاسدون أيضاً بأنّ في الولايات المتحدة 35 مليون إنسان لا يمكنهم الوصول إلى أيّ رعاية طبية على الإطلاق. وهذا يعني أن بلادنا حتى لو صارت بقدرة سحرية غنية كالولايات المتحدة، فهذا لوحده ليس ضمانةً بألّا تُرمى كتلة بشرية كبيرة خارج الحياة الطبيعية». وهنا مرّةً أخرى لا بدّ من التذكير بأنّ قره-مورزا هنا يقارن طبعاً بين المنجزات الاشتراكية الحقيقية التي عاش هو شخصياً في كَنَفِها وبين الفساد الرأسمالي، حتى لا يخرج علينا أحد المدافعين عن فساد أنظمتنا الرأسمالية المتخلّفة ويحاول استعمال هذا النقد لتبرير الفساد لدينا بحجّة أنّ هناك أيضاً فساداً في أنظمة الرأسمالية «المتقدّمة». فهذه الأخيرة ليست قدوتنا هنا.

آخر تعديل على الإثنين, 09 تشرين2/نوفمبر 2020 19:44