الكل سمع بـ«بلاك ووتر»، لكن هل سمعتم بـ«بلاك روك»؟!
راينر شيا راينر شيا

الكل سمع بـ«بلاك ووتر»، لكن هل سمعتم بـ«بلاك روك»؟!

توصّل مات تايبي إلى أنّ حزم إنقاذ وول ستريت في 2008 «قد أنشأت نظاماً بنكياً يميّز ضدّ البنوك المجتمعيّة، ويجعل البنوك الكبرى أكثر فشلاً وأكبر حتّى ممّا هي عليه، ويزيد الخطر ويثبّط الإقراض السليم ويعاقب المدخرات الصغيرة من خلال تسهيل منافسة الاستثمارات ذات العائد المرتفع للمودعين الصغار». وفي بيئة ما بعد الانهيار هذه، بات للمؤسسات المالية الكبرى قبضة مهيمنة أكبر من أيّ وقت سابق، مع امتلاك البنوك الخمسة الكبرى لنصف القطاع بأكمله بحلول 2015.

◘بقلم: راينر شيا
ترجمة قاسيون

ومع الانهيار الاقتصادي الأكبر الذي نشهده اليوم، مضت عملية الاحتكار والتحوّل لرأس المال المالي بخطوات أعمق. بدأت عمليات إعادة إنقاذ وول ستريت الخريف الماضي، عندما كان على البنك الفدرالي الاستجابة لأولى الإشارات المؤكدة عن اقتراب انهيار آخر. ومنذ ذلك الحين، منح البنك الفدرالي مئات مليارات الدولارات للشركات كجزء من حزم تحفيز كوفيد-19، مع حصول البنوك الكبرى على أفضل الترتيبات من حزم الإنقاذ. كما استغلّت البنوك الكبرى الأزمة لتحريرها من القيود التشريعية التي تجري مطالبتهم بها منذ زمن، مع رفع القواعد التي وضعت بعد 2008 المتعلقة بالمخاطرة المالية.

لكنّ نوع رأس المال المالي الاحتكاري الذي نشأ بعد الانهيار الأخير حمل تطورات شريرة أبعد من تعزيز سطوة البنوك الكبرى. فالكيان الأكثر استفادة من الأزمة لم يكن البنوك التقليدية مثل غولدمان ساكس أو جي.بي مورغان، بل شركة تدعى بلاك-روك، تحمل لقب أكبر بنك ظل في العالم «نظام بنوك الظل: مجموعة مؤسسات مالية تنشأ وتسهّل الائتمان على امتداد النظام العالمي المالي، ولا تكون هي أو نشاطاتها تحت المراقبة التشريعية». بعد أن خصص البنك الفدرالي مؤسسة بلاك-روك بثلاثة برامج شراء ديون حكومية متعلقة بحوافز كوفيد-19، جنت الشركة الملايين من هذا العمل أثناء اكتسابها لهيمنة لا مثيل لها على قطاع التمويل. لم يكن الدور الهام لبلاك-روك في العملية مصادفة، فبلاك-روك نفسها قد صادقت على خطّة الإنقاذ قبل أن يكون هناك أيّ أزمة.

التأثير المبدئي لتسهيل بلاك-روك لاستجابة الفدرالي للوباء هو ما أطلق عليه بيبي إسكوبار تسمية: «تشكيل الفيدرالي على قياس وول ستريت». فكما شرح إسكوبار: الخطّة من وراء ذلك تهدف بشكل رئيسي لتعزيز الاقتصاد بطريقة تمكّن بلاك-روك من زيادة أرباحها ومزاياها في القطاع المالي.

«حولت وول ستريت البنك الفيدرالي إلى صندوق تحوّط. سيملك البنك الفيدرالي على الأقل ثلث سندات الخزينة المتعثرة في السوق قبل نهاية العام. ستشتري وزارة الخزانة الأمريكية كلّ سند وقرض موجود، في الوقت ذاته سيعمل البنك الفيدرالي لتمويل وتسهيل كامل المخطط. عملاق يوزّع كميات كبيرة من أموال المروحيّة «أموال المروحيّة: سياسة نقدية غير تقليدية تعتمد كبديل عن التيسير الكمي عندما تكون معدلات الفائدة قريبة من الصفر ويبقى الاقتصاد راكداً»، وشركة بلاك-روك هي الرابح الذي لا يمكن مقارعته. من المعروف بشكل واسع النطاق عن بلاك-روك بأنّها مدير المال الأكبر في الكوكب، ومخالبها منتشرة في كلّ مكان: هم يملكون 5% من آبّل و5% من إكسون موبيل و6% من غوغل وثاني أكبر حامل أسهم لشركة AT&T وهذه بعض الأمثلة فقط. فهم سيشترون جميع هذه السندات الماليّة ويديرون آليات المراوغة تلك بالنيابة عن الخزانة».

على كلا الصعيدين المالي والسياسي، أصبحت بلاك-روك قوة مهيمنة. بلاك-روك أكبر من غولدمان ساكس وجي.بي.مورغان ودويتشه بنك مجتمعين، وهي المانح الأكبر لكل حملات المرشحين الديمقراطيين والجمهوريين. الآن هذا هو نظام التشغيل للبنك الفيدرالي والخزانة، وهو يحتكر نظام النقد في الولايات المتحدة. وبما أنّه يتحكم بكيفية توزيع المال، فهو يتحكم بمن يحصل على المال.

هذا بالتأكيد لا يعني بأنّ المساعدات الفيدرالية ستذهب الآن بشكل حصري للبنوك والشركات الكبرى، لكنّه يمثّل نقلة ناحية الطور المظلم للرأسمالية الاحتكارية، الطور الذي تمارس فيه بلاك-روك وشركاؤها في السياسة والأعمال سيطرة محكمة جديدة على الاقتصاد لتعميق اللامساواة النيوليبرالية؛ ففي الوقت الذي تجلب فيه الأزمة الأرباح لدائرة نخب الأعمال الحاكمة في وول ستريت ووادي السيليكون، يسقط الناس بأعداد هائلة في الفقر ويتم استغلالهم أكثر. تقلّص سوق العمل ليصبح عشرات الملايين عاطلين بشكل دائم عن العمل، وجميع ديون الأسر التي راكمتها الطبقة العاملة منذ الركود الكبير، تصبح إدارتها والتحكم بها أقلّ بكثير. وبالإضافة إلى البنوك الكبرى، الشركات الكبرى رابحة أيضاً بسبب الأموال التي ستوفرها من تكاليف العمالة المتقلصة، أو التي يمكنها التربّح من الوباء بعدد من الطرق.

تمثّل بلاك-روك، بهيمنتها على وسائل نظام التوزيع المالي، البنية الجوهرية للنزعة الشركاتية العالمية التي تقمع الناس داخل وخارج النواة الإمبريالية. وصف لينين في «الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية» رأس المال المالي بأنه يخدم هدفاً رئيسياً هو توليد الربح من الاستغلال الإمبريالي. ولهذا تخدم المؤسسات المالية دور المحرك الإمبريالي لتحويل الثروة صعوداً اتجاه الأوليغارشيّة الحاكمة، مع لعب بلاك-روك اليوم لدور الوجه المهيمن للآلة المالية الكبرى.

كتب لينين في رأس المال المالي والأوليغارشية المالية: «رأس المال المالي، متركزاً في أيدي القلّة ويعمل كاحتكار افتراضي، يفرض أرباحاً هائلة ومتنامية باستمرار من تعويم الشركات وإصدار الأسهم وقروض الدولة...الخ، يعزز هيمنة الأوليغارشية المالية والرسوم المفروضة على كامل المجتمع لصالح المحتكرين. هاكم أحد الأمثلة المأخوذ من بين أمثلة كثيرة أخرى، عن طرائق عمل التروستات الأمريكية، مقتبساً ممّا قاله هلفردنغ في 1887: هافماير أوجد تروست السكر من خلال دمج 15 شركة صغيرة، والذي وصل رأسماله الكلي إلى ست ملايين وخمسمائة ألف دولار. بعد "تمييعه" كما يقول الأمريكيون، أعلن بأنّ رأس مال التروست هو 50 مليون دولار. ينبئ "فرط-الرسملة" بالربح الرأسمالي، بذات الطريقة التي تتوقع فيها شركة الصلب الأمريكية أرباحها الاحتكارية من شراء أكبر عدد ممكن من حقول خام الحديد».

تستخدم النسخة العصرية من هذه التروستات «الكتل الاحتكارية» طرائق مشابهة لكسب سيطرة غير مسبوقة على الاقتصاد، ولتسريع تدهور الجميع باستثناء الأثرياء. الشيء الوحيد المتبقي أمام الطبقة العاملة هو «الاقتصاد المؤقت gig economy» حيث خيارات التوظيف الوحيدة هي تنظيف المنازل وخدمات التوصيل وما تبقى من البيع بالمفرّق، بينما تبقى البطالة مرتفعة جداً بحيث تكون محظوظاً إن حصلت على عمل. ستتفاقم هذه الحال بسبب إجراءات التقشف القادمة، والتي تهدف بلاك-روك لتطبيقها. كما ستكون أزمة المناخ، والتي تساهم فيها بلاك-روك بشكل هائل، هي المرحلة القادمة التي ستدفع الأمريكيين ليعيشوا في ظروف العالم الثالث. فالأعاصير والفيضانات والجفاف يتوقع أن تدفع أكثر من 100 مليون إنسان إلى الفقر بمجرّد الوصول لعام 2030.

صعدت بلاك-روك كلاعب رئيسي في هذه المرحلة المتأخرة من النظام النيوليبرالي، كمصاص دماء يتربّح من الاستغلال المكثف للبروليتاريا والانحلال العام للمجتمع. في الحقيقة بات الجزء الأكبر من النظام الرأسمالي الأمريكي مكشوفاً للجميع، كنظام حكم بلطجي يتداعى ببطء على نفسه ويتغذى من المذابح الناتجة عنه.

المصدر