حقائق جديدة عن الأدوار القذرة التي لعبتها واشنطن في يوغسلافيا... تجارة أعضاء ودعارة ضمناً
عندما أمر الرئيس كلينتون بإلقاء 23 ألف قنبلة على ما تبقى من يوغسلافيا في 1999، واجتاح الناتو إقليم كوسوفو اليوغسلافي واحتلّه، قدّم المسؤولون الأمريكيون الحرب للعامّة بأنّها «تدخل إنساني» لحماية سكان كوسوفو المنتمين للعرق الألباني من إبادة جماعية على يد الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش. ومنذ ذلك الحين بدأت الرواية تنكشف قطعة تلو الأخرى.
ترجمة قاسيون
في عام 2008، اتهمت المدعية الدولية كارلا دل-بونته رئيس وزراء كوسوفو المدعوم أمريكياً هاشم تاجي باستخدام حملات رمي القنابل الأمريكية للتغطية على قتله لمئات الناس وبيع أعضائهم الداخلية في سوق زراعة الأعضاء الدولي. بدت اتهامات دل-بونته شنيعة جداً ليتم تصديقها، لكن في 24 حزيران 2020، تمّ توجيه الاتهام لتاجي، وهو رئيس كوسوفو الحالي، من قبل محكمة حرب خاصة مقرها لاهي، ومع تسعة من قادة جيش تحرير كوسوفو «KLA» المدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية، بهذه الجرائم المرتكبة منذ عشرين عاماً.
منذ عام 1996 وصاعداً، عملت المخابرات الأمريكية ووكالات استخبارية غربيّة أخرى سراً مع جيش تحرير كوسوفو لتحريض وإذكاء العنف والفوضى في كوسوفو. أبعدت المخابرات الأمريكية قادة الكوسوفيين القوميين لصالح عصابات المجرمين ومهربي الهيروين أمثال تاجي ورفاقه، ووظفتهم كإرهابيين وفرق إعدام للشرطة اليوغسلافية ولأيّ أحد يعارضهم، سواء أكان صربيّاً أم ألبانيّاً.
وكما فعلت المخابرات الأمريكية في الكثير من الدول منذ الخمسينيات، فقد أطلقت حرباً أهلية قذرة، ألقى القادة السياسيون الغربيون اللوم فيها على السلطات اليوغسلافية. وحتّى المبعوث الأمريكي روبرت غيلبارد وصف جيش تحرير كوسوفو في أوائل عام 1998 بأنّه مجموعة إرهابية. وندد مجلس أمن الأمم المتحدة «بالأعمال الإرهابية» التي قام بها جيش تحرير كوسوفو و«كامل الدعم الخارجي للنشاطات الإرهابية في كوسوفو، ومنه التمويل والتسليح والتدريب». وما إن انتهت الحرب واحتلّ الأمريكيون وقوات الناتو الإقليم، أقرّت المخابرات الأمريكية بشكل صريح بدورها في صناعة الحرب الأهلية لتمهيد الطريق لتدخل الناتو.
الاحتيال
أقنع المبعوث الأمريكي الجديد ريتشارد هولبروك السلطات اليوغسلافية بالموافقة على وقف أحادي لإطلاق النار، ودخول 2000 مراقب من منظمة التعاون والأمن في أوروبا إلى كوسوفو. ثمّ اتفق هولبروك مع رئيس المنظمة لتعيين وليم ووكر، السفير الأمريكي السابق في السلفادور أثناء حربها الأهلية، كرئيس لمهمّة المراقبة في كوسوفو. قامت الولايات المتحدة على الفور باستئجار 150 مرتزقاً من شركة داينكورب الأمريكية ليشكلوا نواة فريق ووكر الذي استخدم 1380 عضو من أعضاءه معدات تحديد المواقع GPS لتعيين البنى التحتية العسكرية والمدنية في يوغسلافيا لصالح حملة القصف التي شنّها الناتو بعد ذلك.
غابرييل كيلر، السفير الفرنسي السابق ليوغسلافيا ونائب ووكر، اتهم ووكر بتخريب مهمّة التحقيق. واعترفت في وقت لاحق مصادر مقربة من المخابرات الأمريكية بأنّ مهمة التحقيق كانت مجرّد «واجهة مخابراتية» للتنسيق مع جيش تحرير كوسوفو والتجسس على يوغسلافيا.
تلفيق الأحداث
الحادثة التي أثارها الأمريكيون كي يقصفوا ويحتلوا كوسوفو هي المعركة التي حصلت في بلدة تدعى راجاك، وهي بلدة حصّنها جيش تحرير كوسوفو واستخدمها كقاعدة له لاصطياد دوريات الشرطة وإرسال فرق الموت لقتل المتعاونين من السكان مع السلطات المحلية. في كانون الثاني 1999 هاجمت الشرطة اليوغسلافية قاعدة راجاك، فدار قتال ذهب ضحيته 43 رجلاً، وامرأة واحدة ومراهق واحد.
انسحبت الشرطة اليوغسلافية من البلدة بعد المعركة، وعادت إليها قوات جيش تحرير كوسوفو وعبثت بالميدان وحولته ليبدو كمذبحة للمدنيين. قام وليم ووكر وفريقه من المحققين بزيارة الموقع في اليوم التالي ووافقوا على قصّة جيش تحرير كوسوفو وبثوها للعالم لتصبح جزءاً من الرواية التي بررت قصف يوغسلافيا.
لكنّ فريقاً دولياً قام بتشريح الجثث ووجد آثار بارود على أيدي جميع الجثث تقريباً، ممّا يثبت بأنّهم كانوا يحملون الأسلحة وليسوا مدنيين. وجميع القتلى كانت إصاباتهم بعيدة كما هي الحال في معركة وليس دقيقة كما يحصل في حالات الإعدام. ومن بين جميع الجثث هناك جثّة واحدة تمّ إطلاق النار عليها من مسافة قريبة.
لكنّ نتائج تشريح الجثث لم تنشر إلّا بعد فترة طويلة، كما وجّه رئيس الأطباء الفاحصين الفنلندي اتهاماً لووكر بأنّه ضغط عليه ليغيّر نتائج التشريح.
القصف بذرائع كاذبة
استضافت فرنسا مباحثات عالية المستوى بعد تشكيك الكثيرين بمصداقية حادثة راجاك. لكن وعوضاً عن استدعاء القادة القوميين لألبان كوسوفو، دعا الأمريكيون تاجي ورفاقه الذين كانوا بالنسبة للسلطات اليوغسلافية مجرّد عصابات إجرام وإرهابيين.
قدّمت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت للفريقين مسودة اتفاقية لها شقان: عسكري ومدني. كان الشق المدني ينص على منح كوسوفو حكماً ذاتياً غير مسبوق، ووافق الوفد اليوغسلافي على ذلك. لكنّ الشق العسكري كان يجبر يوغسلافيا على قبول احتلال قوات الناتو ليس لإقليم كوسوفو فقط، بل لكامل الأرض اليوغسلافية.
وعندما رفض ميلوسوفيتش اتفاق الاستسلام المشروط، ادعى الأمريكيون بأنّه رفض السلام وبأنّ الحرب هي الخيار الوحيد. ولم يذهب الأمريكيون إلى مجلس الأمن كما ينص القانون الدولي لإضفاء المشروعية على خطتهم، بل شرعوا بالحرب مع بعض حلفائهم في آذار 1999. وكما كتب السويسري باسكال نوفر من فريق المحققين: «الوضع على الأرض عشيّة القصف لم يكن يبرر التدخل العسكري. كان بإمكاننا بالتأكيد الاستمرار في عملنا، وما قيل للصحافة بأنّ مهمتنا مهددة بالخطر الصربي لا تتوافق مع ما رأيت على الأرض».
قصفت قوات الناتو 19 مستشفى و20 مركز رعاية صحي و69 مدرسة و25 ألف منزل ومحطات طاقة ومحطة تلفاز والسفارة الصينية. وبعد غزو كوسوفو، أنشأت القوات الأمريكية قاعدة «Camp Bondsteel»، أكبر قاعدة لها في أوروبا. وهي القاعدة التي زارها مفوّض حقوق الإنسان الأوربي ألفارو جيل-روبلز في 2002 ووصفها بأنّها: «نسخة مصغرة من غوانتانمو» لكثرة ما فيها من مراكز احتجاز وتعذيب غير شرعية.
وتعد القاعدة أكبر مزوّد للأعمال في الإقليم، حيث وظّف الجيش الأمريكي الكوسوفيين وأرسلهم للقتال في أفغانستان والعراق. وفي عام 2019 كانت حصّة الفرد من الناتج المحلي في كوسوفو 4،458 دولار، أي أقلّ من أيّ بلد آخر في أوروبا باستثناء مولدوفا وأوكرانيا الممزقة بفعل الحرب.
كوسوفو المافيا
في عام 2007، وصف تقرير للمخابرات العسكريّة الألمانيّة كوسوفو بأنّها «مجتمع مافيا» قائم على «استيلاء المجرمين على الدولة». وورد في التقرير بأنّ هاشم تاجي هو المثال على «العلاقات الوطيدة بين صانعي القرار السياسي وطبقة المجرمين المهيمنة».
في عام 2000 كانت العصابات الكوسوفيّة تسيطر على 80% من تجارة الهيروين في أوروبا. ووجود آلاف القوات الأمريكية والناتو أدّى للارتفاع الهائل في نسب الدعارة وتهريب البشر للدعارة، وجميعها تسيطر عليها الطبقة الحاكمة الجديدة في كوسوفو.
عندما أعلنت المحكمة في 24 حزيران عن اتهاماتها لتاجي، وهو الذي أصبح رئيس وزراء لكوسوفو في 2008، كان في طريقه إلى واشنطن للقاء الرئيس الصربي فوتشيتش لمحاولة حلّ المسألة العالقة، ولكنّه ألغى اللقاء وعاد أدراجه إلى كوسوفو بينما طائرته فوق الأطلسي.
أوّل اتهام تمّ توجيهه لتاجي كان في عام 2008 من قبل رئيسة الادعاء كارلا دل-بونتي من المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة. وقد شرحت دل-بونتي في كتاب نشرته بعد خروجها من منصب المدعية العامة، بأنّه قد تمّ منع المحكمة من توجيه الاتهام لتاجي ورفاقه بسبب عدم التعاون من قبل الناتو ومهمة الأمم المتحدة في كوسوفو. وفي مقابلة أجرتها عام 2014 قالت: «الناتو وجيش تحرير كوسوفو، بوصفهم حلفاء في الحرب، لا يتصرفون ضدّ بعضهم البعض».
وعندما تابعت هيومن رايتس ووتش وبي-بي-سي ادعاءات دل-بونتي، وجدت أدلّة بأنّ تاجي ورفاقه قتلوا قرابة 400 سجين صربي أثناء قصف الناتو في 1999. وصف الناجون مخيمات في ألبانيا حيث تعرّض السجناء للتعذيب والقتل، وبيتاً أصفر تمّت فيه إزالة الأعضاء البشرية ومقبرة جماعية غير معلّمة قريبة منه.
الأكاذيب الأمريكية
قابل المحقق من مجلس أوروبا، ديك مارتي، الشهود وجمع أدلّة ونشر تقريره الذي صادق عليه مجلس أوروبا في كانون الثاني 2011، لكنّ برلمان كوسوفو لم يوافق على مهمّة المحكمة الخاصة في لاهاي حتّى عام 2015. ثمّ بدأت الدوائر المتخصصة في كوسوفو ومكتب المدعي المستقل بالعمل أخيراً في 2017. لدى القضاة اليوم ستة أشهر لتقييم اتهامات المدعي العام وإصدار القرار فيما إن كان يجب الشروع بالمحاكمة.
لقد كانت الحبكة الرئيسية في رواية يوغسلافيا شيطنة رئيس يوغسلافيا ميلوسوفيتش، الذي قاوم تجزئة يوغسلافيا في التسعينيات. صوّر القادة الغربيون ميلوسوفيتش بوصفه «هتلر جديد» و «سفّاح البلقان»، لكنّه استمرّ بالجدال حول براءته حتّى وفاته في زنزانته في لاهاي عام 2006.
بعد عشرة أعوام من ذلك، وأثناء محاكمة القائد البوسني الصربي رادوفان كاراديتش، توصّل القضاة إلى أنّ ميلوسوفيتش عارض بشدّة خطة كاراديتش لتشكيل جمهورية صربية في البوسنة. وأدانوا كاراديتش بوصفه مسؤولاً بشكل كلي عن الحرب الأهلية التي نجمت عن ذلك، ليبرؤوا ميلوسوفيتش في واقع الحال بعد وفاته من المسؤولية عن أفعال الصرب البوسنيين، وهي التهم الأكثر خطورة التي وجهت ضده.
لا تزال المخابرات الأمريكية مستمرة بذات نهج كوسوفو حول العالم، بحيث تخلق حبكات لحروب جديدة وإنفاق عسكري لا ينتهي، بالاعتماد على اتهامات بلا أدلّة وعمليات مخفية وتواطئ كبير. لكن إن تمكّن مواطنو كوسوفو من تحميل العصابات المدعومة من المخابرات الأمريكية مسؤولية جرائمها بحقّ الشعب وبيع أعضائه والاستيلاء على بلاده، فيمكن أن يحيوا الأمل بأن يستطيع غيرهم ذلك، بمن فيهم الأمريكيون الذين يتحركون لتحميل قادتهم مسؤولية جرائم الحرب المنهجية وواسعة النطاق.
قامت إيران مؤخراً بالطلب إلى الإنتربول تنفيذ مذكرة اعتقال دولية بحق دونالد ترامب لمسؤوليته عن مقتل الجنرال قاسم سليماني. ورغم أنّ ترامب لا يخشى مثل هذه المذكرة بكل تأكيد، فإنّ سقوط أحد حلفاء الولايات المتحدة المجرمين أمثال تاجي يعني ضعف قدرة الأمريكيين على حماية حلفائهم الذين ارتكبوا جرائمهم بإيعاز وتسهيل وتخطيط أمريكي، ويجعل الأمل بمحاسبة البقيّة أمثال نتنياهو وتوني بلير وغيرهم، وردع الآخرين قائماً.
المصدر: https://mronline.org/2020/07/06/key-u-s-ally-indicted-for-organ-trade-murder-scheme/