أربعون عاماً من النيوليبرالية، هي من صاغت ردود أفعالنا الفردانية تجاه كورونا
* بريم سيكا- leftfootforward.org
ترجمة قاسيون
مقدمة المترجم:
يقدم المقال التالي نموذجاً عن الأفكار التي بدأت تتكاثر كالفطر في وسائل الإعلام البريطانية في إطار ردود الفعل على الطريقة المستهترة، بل وغير الإنسانية، التي تتعامل بها الحكومة البريطانية مع مواطنيها في مخاض كورونا. ورغم أنّ الكاتب لا يذهب أبعد من الهجوم على النيوليبرالية باعتبارها مصدر الشرور، إلا أنّ مجرد انتقاد النيوليبرالية في بلد مثل بريطانيا (التي كان انتقادها مدعاة إلى إسكات صاحب الانتقاد ومحاصرته كما يقر الكاتب)، يشير إلى ضخامة الهزة التي يعيشها العالم وقد تكشفت أمام الناس قوة المثل الصيني وإنسانيته من جانب، وتجوف النموذج الغربي وهشاشته من الجانب الآخر...
من الجوانب الخبيثة لوباء كورونا، ما نراه من عمليات شراء مذعور للمواد الغذائية ومعقمات اليدين والأطعمة المعلبة وأوراق التواليت والمواد الأساسية. لماذا يحدث هذا، خاصة في بلد يفتخر بروح الشجاعة التي لا هوادة فيها؟!
قد يوفر التخزين إحساساً بالأمان، لكن معظم الحيوانات لا تلجأ إلى التكديس. إن أشخاصاً متعلمين ويعتبرون أنفسهم عقلانيين، ينخرطون في شراء مذعور، وفي اكتناز وتكديس المشتريات مما سيسبب مشقة للآخرين، وفي النهاية سيصبحون هم أنفسهم ضحايا النقص الذي يحاولون تجنبه. هذه اللاعقلانية هي انتصار الفردانية التي هيمنت على الثقافة السياسية البريطانية على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية.
يزدهر البشر ضمن السياقات الاجتماعية وضمن صلات القربى. فقط فكّر في الرضا والتوهج الداخلي الذي تشعر به عندما تهتم بأحبائك، أو تساعد شخصاً غريباً، أو تساهم في بناء المجتمع. إن الإحساس بالجماعة والقرابة الاجتماعية هو أساس دولة الرفاهية. ومع ذلك، هناك توتر متكرر بين المصالح الجماعية والفردية.
أصبحت هذه التوترات موضوع كتابات كتبها فريدريك فون هايك، الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1974. والتي جادل فيها بأن الحريات الإنسانية يتم تعظيمها عندما تعطي الأطر المؤسسية الأولوية لحقوق الملكية الخاصة، والحرية الفردية، والتجارة الحرة، والأسواق الحرة، مع دور بسيط للدولة. قدمت مثل هذه الفلسفات أسس ما أصبح يعرف لاحقاً باسم النيوليبرالية.
يميل البعض إلى رفض الأفكار المجردة، ولكن هذه الأفكار بالذات يمكنها أن تحكم الناس، خاصة عندما يتم الترويج لها من قبل مراكز الفكر ووسائل الإعلام والجامعات. وكما قال جون ماينارد كينز: «إن أفكار الاقتصاديين والفلاسفة السياسيين، عندما يكونون على حق وعندما يكونون على خطأ، تكون أقوى من المفاهيم الشائعة. بالفعل العالم محكوم بواسطة آخرين قليلين. الرجال العمليون، الذين يعتقدون أنهم محصنون تماماً من أي تأثيرات فكرية، هم عادة عبيد لاقتصادي ما من حملة الأفكار البائدة».
سرعان ما أصبحت الفلسفات النيوليبرالية محور الأيديولوجيات السياسية التي دافع عنها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (1981-1989) ورئيسة وزراء المملكة المتحدة مارجريت تاتشر (1979-1990). لم تكن الليبرالية الجديدة تثري السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات فحسب، بل وفرت أيضاً فهماً جديداً لما يعنيه أن تكون سعيداً وناجحاً. لقد أعادت بناء الدول والمجتمعات والأفراد ككائنات تنافسية تشارك في السعي اللامتناهي للثروة الخاصة والسلع المادية والاستهلاك، مما سيؤدي «بطريقة ما» إلى زيادة الثراء والسعادة. إن الاكتناز الجماعي للعناصر الأساسية ليس سوى نتيجة واحدة للمنافسة الفردية، أو فلسفة «أنا بخير جاك» التي تروج لها النيوليبرالية.
جعلت سنوات تاتشر صنع المال بأي سبيل كان (تقريباً)، أمراً مقبولاً. تم تجريف المعايير الاجتماعية جانباً ولم يتم إيلاء اهتمام كبير للعواقب. أي شخص يعارض الأيديولوجية السائدة كان ينظر إليه بريبة ويتم إسكاته. تطوّر هذا الاتجاه مع الانهيار المصرفي 2007-2008، خاصة وأن لبرلة الصناعة المالية في الثمانينيات كانت مصحوبة بتعديلات طفيفة. في هذا الفراغ، انخرط المصرفيون في المضاربات المتهورة والمجازفة. لقد طوروا أدوات مالية جديدة في السباق لضمان أجور أعلى مرتبطة بالأداء. يعني الارتباط بين السلع المادية والاستهلاك والسعادة أنه لا يوجد حد لاكتساب المزيد والمزيد من الثروة، حتى لو بلغت حجماً من غير الممكن معه إنفاقها!
اغتنى بعض تجار الأوراق المالية والشركات والمصرفيين، إلى حدود أبعد من أقصى أحلامهم الجامحة، ولكن لم يكن هناك أي اعتبار للعواقب. الحكومات التي تفتنها القيم النيوليبرالية لم تفعل شيئاً لتقييد المضاربين. ثم انهار كل شيء وأثرت التموجات على كل قطاع من قطاعات الاقتصاد. لقد أنقذت الحكومات البنوك، وبشّرت الناس بتقشف لا نهاية له، مما أدى إلى تآكل أجور العمال، ومستويات المعيشة والخدمات العامة. حتى المستفيدون من المجازفة المتهورة تساءلوا عن سبب اختفاء وظائفهم، ولماذا باتت عائلاتهم تنتظر فترة أطول للعلاج في المستشفى، وكيف أدى سعيهم للثروات إلى انخفاض الإنفاق على الشرطة وزيادة الجرائم داخل المدينة. ربما لم يربطوا هذه النقاط ببعضها أبداً.
لطالما كان هنالك تهربٌ ضريبي، ولكن مع صعود النيوليبرالية فإنه ازداد تسارعاً وضخامة. تقوم الشركات والمحاسبون والمحامون وخبراء المالية بتصميم هياكل مؤسسية معقدة بهدف تجنب الضرائب. وهذا يمكّن الشركات من تسجيل أرباح أعلى، ويجمع المساهمون أرباحاً أكبر، ويجمع المسؤولون التنفيذيون حزم مدفوعات ضخمة، ومصممو مخططات تجنب الضرائب يتلقون مقابلاً كبيراً. ثروة الأفراد ترافقت مع مشاكل المجتمع. يستنزف التهرب الضريبي الأموال العامة ويمنع الحكومات المنتخبة من إعادة توزيع الدخل/ الثروة وتقديم الخدمات العامة التي يحتاجها المواطنون. يشكوا المستفيدون من التهرب الضريبي من نقص الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والنقل والأمن والمعاشات التقاعدية وغيرها من الضروريات، ولكن هناك القليل من الإدراك بأن الفردية الجامحة هي مصدر مصائب مجتمعهم.
يُظهر وباء الفيروس التاجي أننا نعتمد على المجتمع من أجل صحتنا ورفاهيتنا. كلنا نعتمد على بعضنا البعض. لا يمكن لأي فرد بمفرده أن يحارب الوباء. يجب أن يشجع هذا التفكير في خطوط الصدع الثقافية التي طالما عززت الفردية الجامحة باعتبارها الأيديولوجية السائدة. وهذا لم يحقق الاستقرار الاجتماعي أو السعادة للجماهير ويهدد الآن إمدادات الغذاء والخدمات الأساسية.
* بريم سيكا أستاذ المحاسبة بجامعة شيفيلد وأستاذ فخري للمحاسبة بجامعة إسكس. وهو محرر مساهم في LFF