إعادة الإعمار مدخل إلى النهب النيوليبرالي في سوريا
تستكمل القوى والأطراف المتصارعة على السلطة في سوريا صياغة الآليات والأدوات التي تمكّنها من السيطرة على مقدرات الشعب السوري. يبدوا أن إعادة تشكيل الهوية السورية: سلطة، دولة ومجتمع تشكّل أحد الهواجس الدولية، وتحديداً تلك الأطراف التي يسيل لعابها على الاستثمار والتوظيف والسيطرة، لحظة انقشاع غبار الصراع الذي يدمّر سوريا والسوريين.
ولا نبالغ بقولنا إنّ الصراع لن يتوقف إلا بعد توصّل الأطراف التي تشرف على القتال وتضبط آلياته وحدوده إلى صياغات وتوافقات تمكّنها من تحديد مستقبل سوريا السياسي وهويتها الاقتصادية، وتحديد حصص وآليات نهب الثروات العامة، وبشكل خاص الأراضي والموارد الطبيعية، إضافة إلى التوافق على تقاسم عقود إعادة الإعمار، التي تشكّل أحد أبرز المداخل للقبض على مستقبل سوريا الاقتصادي والسياسي.
ولم يعد خافياً أنّ منظمات وهيئات دولية مثل: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الإسكوا، المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية، مجموعة عمل اقتصاد سوريا في المجلس الوطني، المركز العربي للدراسات السياسية والاستراتيجية برعاية الدوحة، بيت الخبرة السوري وبيوتات استشارية ورجال أعمال عرب وسوريين ودوليين تتسابق على الظفر بعقود إعادة الإعمار. والجميع يعلم أنّ هذه المؤسسات لا يعنيها من الصراع إلا الاستثمار والربح، حتى لو كان معجوناً بدماء الأبرياء. وبالنسبة إلى هذه الأطراف، لن يكون هذا متاحاً إلا في سياق إعادة صياغة الخريطة الجيو سياسية والاقتصادية السورية في إطار إقليمي مفتوح على سياسات النهب النيوليبرالي.
فعبد الله الدردري الذي خرج من النافذة يؤكد على عودته مع العديد من المستثمرين والمنظمات الدولية. لكن هذه المرة من أوسع الأبواب، وتحت لافتة إعادة الإعمار ليحكموا قبضتهم على سوريا والسوريين. ويعلم الجميع أنّ الدردري قبل الأزمة الراهنة وضع سوريا مع بعض المتنفذين على عتبة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وكان ذلك نتيجة إخضاع الاقتصاد السوري للتحوّل النيوليبرالي الذي ساهم في تخليع بنيته. فقد اعتمد الدردري شعار الحرية التجارية كونها من وجهة نظره تمثّل قاطرة التنمية وبوابة للعبور إلى الاقتصاد الحّر، ضارباً عرض الحائط بمصالح غالبية الشعب السوري الذي انحدر مستواه المعيشي الى ما دون خط الفقر. فكان الأطفال في مقدمة الضحايا، إذ حوّلهم الفقر إلى متسوّلين بعدما هجروا مقاعدهم الدراسية. كذلك فإن سياساته الجائرة حرمت الشعب السوري من نصيبه في الناتج القومي ومن حقه في العمل، فكان معدل البطالة يتذبذب حول الـ 24%.
إن تحرير البنية الاقتصادية بما فيها الأسواق والأسعار وحركة رأس المال، وتوفير الأطر والقوانين الاستثمارية المناسبة لاشتغال رأس المال الاستثماري الذي انحصر بشكل عام في السياحة والتوظيفات العقارية التي كانت موجهة إلى الأغنياء في سوريا، وعلى حساب الفقراء والمهمشين، فتح سوريا أمام أزمات رأس المال العالمي. وكانت فاتحة تحرير الاقتصاد السوري توقيع العشرات من المعاهدات التجارية والاستثمارية مع تركيا بشكل خاص (وقّع حوالى 52 معاهدة في وقت واحد)، إضافة إلى عقود الاستثمار العقاري والسياحي مع قطر، الإمارات، السعودية... وبالتأكيد كان توقيع وتنفيذ هذه العقود يتم بمشاركة رجال المال والأعمال السوريين. إنّ هذه المعاهدات والعقود فتحت الحدود السورية أمام الاستثمارات الخاصة، وكذلك سمحت بتدفق المنتجات الأجنبية إلى داخل سوريا، إلى درجة أغرقت الأسواق وأصابتها بالتخمة، من دون النظر إلى ضرورة وضع قوانين تحمي الاقتصاد السوري (وهذا بالتأكيد لا يعني أصحاب الرساميل لأن هدفهم ينحصر في تأمين استثماراتهم وضمان أمن واستقرار أموالهم والحصول على أعلى نسبة من الأرباح). وكانت نتيجة هذه السياسات انهيار القطاعات الإنتاجية الزراعية والصناعية والحرفية التي هي بالأساس كانت تعاني من تردّي إنتاجيتها وانعدام قدرتها التنافسية أمام السلع التي غزت الأسواق السورية. لكن الدردري في سياساته الاقتصادية المعلنة لم يكن يعبّر عن مصالحه الذاتية فقط، بل كان ينفذ توجهات اقتصادية لشريحة من أصحاب الرساميل التي جمعت ثروتها من خلال نهب مقدرات الدولة، واشتغلت على إحكام قبضتها على مفاصل صنع القرار، وتطويعها وفق أشكال تستطيع من خلالها تنفيذ مصالحها الاستثمارية. (تم تخفيض الفوائد على الودائع المصرفية في عام 2004 من 9% إلى5%، نجم عن هذا القرار سحب كتل من الودائع المصرفية وضخّها في سوق العقارات. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أنّ حجم التداول في أسواق العقارات بين 2005 ــ 2010 بلغ 3 تريليونات ليرة سورية. السماح للأجانب بتملك الأراضي، وهذا كان ممنوعاً من عام 1963 حتى 2005). كل هذا لم يكن يتم لولا توفر الغطاء السياسي وتوسع دوائر الفساد والبيروقراطية وغياب المساءلة ومحاسبة الفاسدين في أجهزة الدولة. لقد تحوّل هؤلاء إلى فئة تهيمن على مفاصل صياغة القرار السياسي والاقتصادي، فكان لهم الدور الأساسي بإدخال السوريين إلى مستنقع الليبرالية الموسوم بطابعهم المتخلف.
إن إنهاء دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وضمان التحوّل نحو الاقتصاد النيوليبرالي الذي تحكمه آليات السوق لمصلحة حرية رأس المال ومافيات نهب الثروات العامة بعد إدماج سوريا في أسوق السلع والمال النيو ليبرالي عالمياً، كان حلماً يراود إدارة صندوق النقد والبنك الدولي، وهؤلاء يعبرون عن مصالح دعاة التحرير المالي والاقتصادي والسلعي.
كل هذا كان يتم الاشتغال على تحقيقه في سياق تحرير الأسعار والأسواق والتجارة وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر بذريعة زيادة الإنتاجية والقدرة التنافسية للصادرات (زيادة معدلات النمو). لكن الهدف الحقيقي كان يتمثل في فتح الحدود السورية وأسواقها على السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية، وفرض شروط تؤبد تبعيتها لأسواق النهب العالمي ومراكز صناعة وتصدير النيو ليبرالية. وساهم في تسريع هذه الخطوات تخلي أصحاب القرار والمنفعة عن ضمان أمن القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية. وكذلك تخليهم عن قرارهم السيادي والمستقل، جرّاء تنفيذهم وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في ما يخص تقليص دور الدولة التنموي والاجتماعي. وكان من ضمن هذه الوصفات تحرير أسعار حوامل الطاقة تحديداً، كونها تنعكس على كل القطاعات الإنتاجية والخدمية وتلحق الضرر بمعيشة المواطن.
إن جملة هذه التحوّلات لا تنفصل عن ادّعاءات الأطراف الدولية والإقليمية بأن ما يجري في سوريا هو تحوّل ديموقراطي. لكن السوريين يدركون أنه صراع على السلطة وعلى فتات التبعية التي تربطها بعض الحكومات الأوربية والإقليمية بوعود كاذبة عن الديموقراطية المحمولة على جناحي صندوق النقد والبنك الدولي. وتروج هذه القوى أن دمقرطة السلطة من الخارج سوف تحقق دمقرطة الدولة من الأعلى. لكن سقف هذا الرهان لا يتجاوز دمج الدولة في أسوق المال النيو ليبرالية، بل ينحصر به. وهذا لا يهدد سوريا فقط، بل يتعداها إلى كل دول المنطقة، التي يراد لها مزيد من الدمار والحروب، كونها تسهّل تصريف الكاسد من إنتاج شركات الأسلحة، وتفتح أبواب النهب والسيطرة لحل أزمات رأس المال على حساب شعوب المنطقة.
ومن أجل عدم الوصول إلى هذه النتائج، يجب تغيير المقدمات التي تقود إلى تحويل سوريا إلى مجال حيوي وأداة للنهب النيو ليبرالي. وذلك باعتماد دمقرطة الدولة والسلطة من الداخل والأسفل، وتعزيز الترابط الإقليمي في سياق تفكيك علاقات التبعية وإقامة العلاقات الاقتصادية المتكافئة، وتحديداً مع مجموعة البريكس. وينسحب هذا على آليات إعادة الإعمار التي يجب أن تبقى في الإطار الوطني المستقل، وبمساعدة الدول الصديقة. إذ يجب ضمان عدم سقوط سوريا في مستنقع النيو ليبرالية، والحفاظ على وحدة الجغرافيا السورية، واستقلال قرارها السيادي.
إن هذا التحول يتحدد في الانتقال من الصراع على السلطة إلى الحقل السياسي الذي يفترض مشاركة كل القوى السياسية الوطنية، وكذلك وضع صياغات وتفاهمات ودراسات وخطط اقتصادية تضمن المنفعة بين الدول الإقليمية، في إطار التنسيق المشترك والمحافظة على الهوية الوطنية لكل دولة، وفي سياق إعادة بناء الدولة والسلطة ديموقراطياً. ويجب أن يرتبط هذا التحول مع التنسيق المشترك لمواجهة مخاطر الحروب التي تفرضها أو تهيئ لها إسرائيل ودول إقليمية وغربية تعمل على توسيع مصالحها ونفوذها.
* باحث وكاتب سوري
المصدر: الأخبار