راهنية تشى غيفارا وأوضاع الشعوب العربية «الجزء الخامس والأخير»
سرديات فات أوانها وأكل عليها الدهر وشرب: - القومية العربية كائن ميت إلا في عقول القلة الحالمة والتي أصابها العمى فلم تعد قادرة على رؤية الواقع، وما زالت تعيش أحلام الماضي التليد.
- الاشتراكية كانت حلمًا جميلًا انتهى إلى غير رجعة وأتى التاريخ على نهايته.
- الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، حقوق الطفل، تمكين المرأة…. هي ببساطة ما تمليه مصالح الولايات المتحدة وما تقدمه لنا وتطلق عليه ما تشاء من التسميات.
هذا هو الخطاب الذي يسود أجواءنا اليوم وكأنه يكاد يقول لنا: ماذا تنتظرون؟ انتحروا، فلم يتبقَّ لكم خيار آخر. خطاب يأتينا من كل صوب وتهتف به كل الأبواق يكاد يعلن انتحارنا الجماعي ونهاية تاريخنا.
فهل نحن طفرة سلبية في التاريخ عصية على قوانينه وحراكه؟
أم أننا حالة “شاذة” بين شعوب الأرض؟
هل نحن سياق منفرد خارج عن سياق الشعوب والأمم؟
لا خلاف مع أصحاب نظرية “النهايات” – نهاية الستينيات، نهاية السرديات، نهاية التاريخ – لا خلاف في أن معطيات زمننا قد تغيّرت. ولا خلاف في أن لكل مرحلة تناقضاتها وظروفها وخصوصياتها التي تحدد طبيعة الصراع ومكوناته، وبالتالي تنتج أهدافه وآليات تحقيقها.
ولكن سؤالنا إلى هؤلاء: ماذا عن سردية السوق ورأس المال؟ هل هي سرمدية؟ ولماذا لا تنتهي هي الأخرى؟ ولماذا لا يرون أن الرأسمالية وعولمتها جريحة تتخبط في دمها؟
لعله من الملفت حقًا، خصوصًا في الحالة العربية، أننا لم ندرس حتى مرحلة الستينيات وتجاربها على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية، لا عربيًا ولا عالميًا، ولم نعمل على الإفادة من دروسها، ناهيك عن دراسة السرديات الاجتماعية والفكرية والثورية التي قلبت القرن العشرين رأسًا على عقب. فنحن ما زلنا نلهث وراء الأحداث والتطورات التي تتسارع أمامنا دون ان نستطيع الإمساك بها، كالقطار الذي انطلق وما زلنا نلهث لللحاق بعربته الأخيرة. بيد أن الأخطر أننا لم ننتج فكرًا ينبع من واقعنا وخصوصياتنا ويلبي مصالح شعوبنا ولا خطابًا بديلًا يتناغم مع مسيرتنا وينير لنا درب المستقبل.
ليس هناك أبعد عن الحقيقية من حجة نهاية السرديات بذريعة تغيّرالأوضاع.
فعَلامَ إذَن كل هذا الصراخ بأن العودة إلى السرديات ضرب من الصنمية والتخشب؟
أنظروا حولكم واسألوا أنفسكم بأمانة: منذ ستينيات القرن الماضي، ماذا حققنا؟
الإجابة تجدونها في كل أحياء الوطن وأزقته.
أعادت التطورات الساخنة في الوطن العربي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أعادت العديد من القضايا والأسئلة الصعبة إلى حلبة الجدل وهزّت الكثير من المُسلمات والمَقولات التي، سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه، كنا قد أهملناها ووضعناها جانبًا لسنوات طويلة.
منذ استشهاد بوعزيزي في تونس و25 يناير في مصر ونحن نقف أمام إشكاليات مذهلة أهم عناصرها:
أ) تشير وقائع السنوات الثلاث الأخيرة في الوطن العربي، بغض النظر عن النهج في فهمها وتحليلها، إلى حقيقة ناصعة: نضوج الظرف الموضوعي للثورة واحتدام التناقضات وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ب) انفجار دينامية كانت معطلة على مدى السنوات التي سبقت الحراك الشعبي العربي: انفجار الوعي ونهوضه ورفضه للعودة إلى الوراء، وكسر الجماهير لحاجز الخوف والاندفاع الشعبي البطولي في الحركات الاحتجاجية.
ج) هذان العاملان أوصلانا إلى مرحلة نضالية متقدمة فطالما ظلت التناقضات محتدمة، وطالما ظل الوعي متقدًا ومتيقظًا، فسوف تستمر المسيرة.
د) في المقابل تمكنت قوى الثورة المضادة والقوى الانتهازية من استثمار هذا الحراك وامتطائه وإعاقة تقدمه وحرفه عن مسيرته.
مجمل القول، أن الحالة العربية التي تلت الحراك الشعبي في تونس ومصر، والتي ما زلنا نعيش تداعياتها، جلبت تحدّيات جسيمة وأثارت أسئلة صعبة، يمكننا أن نكثفها في أربعة محاور:
1) غياب أية إنجازات لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وعدم الإيفاء بالاحتياجات الأساسية للطبقات الشعبية.
2) التيه والتخبط في تحديد طبيعة الصراع وأطرافه والعدو الرئيسي (معسكر الأعداء).
3) عدم الالتفات إلى الوعي الشعبي والعمل على تطويره.
4) غياب البديل، نظريةً ورؤيةً وبرنامجًا.
على ضوء هذه التحديات يكون السؤال: كيف يفيدنا فكر غيفارا ومشروعه في الإجابة عليها؟
أولًا: توفير احتياجات الشعب
وصلت أوضاع شعوبنا وطبقاتها الشعبية العريضة إلى الحضيض في مستويات الفقر والجوع والمعاناة. وفي حين تعوم بلادنا على بحر من النفط ويختزن باطنها بخيرات وثروات هائلة، نراها مليئة بالجياع والفقراء. العالم بأسره ينعم بخيراتنا فيما عدا مَن يملكها، فيما عدا صاحبها الحقيقي: شعوبنا.
إلا أنه بالرغم من نضوج هذا الظرف الموضوعي، فإننا لم نحرز أي إنجازات نحو الإيفاء باحتياجات الجماهير العربية، ولم نقدم معالجة أو تصورًا أو برنامجًا أو آليات لتحقيق هذه الأهداف. ولعل حالة مصر خير مثال على ما نقول.
ثانيًا: طبيعة الصراع وتحديد العدو
على مدى القرنين الأخيرين، ظلّ الوطن العربي أهم مناطق الاستهداف الإمبريالي والرأسمالي، إن لم يكن المستهدف الرئيسي. وهذه الأطروحة ليست أسيرة لنظرية المؤامرة كما يحلو للكثيرين، بل حقيقة موضوعية تؤكدها وقائع التاريخ، ومع ذلك، ما زال الكثيرون يتجهلونها ولا يريدون أن يروها، ومن هنا نفهم التيه الذي نعيشه. فهل من عجب، بعد ذلك، أننا ما زلنا نجادل في تحديد العدو! ! وأن نرى هيلاري كلينتون تُحمل على أكتاف “الثوار” في ميدان التحرير، وبرنارد ليفي ينسق عمليات “ثوار” ليبيا ميدانيًا ضد الرئيس الراحل القذافي!
وبالعودة إلى حجة “العالم قد تغيّر” والظروف لم تعد مواتية، فإنه بالرغم من تغيّر الأوضاع المحلية والاقليمية والدولية، فإن موقف الإمبريالية الغربية لم يتغير بل ظلّ واضحًا ولا ينطوي على أي غموض. فهي قد تغيّر في وسائلها وأدواتها، ولكنها لم تغّير سياساتها وأهدافها ومصالحها.
لنا أن نسأل بعد هذا: ألم يصل التناقض بين شعوبنا من جهة، والإمبريالية الغربية والأميركية، من جهة أخرى، وبينها وبين شعوب العالم، درجة التناقض بين الإنسان وحياته وبقائه؟
ليس هناك ما هو أكثر بلاغة ودقة من هذا الفهم في تشخيص الحالة العربية، لأنه الفهم الذي يؤسس لركائز ومفاهيم أساسية لطبيعة الصراع المحتدم في بلادنا في هذه المرحلة، وتحديد أطرافه من أعداء وأصدقاء وحلفاء، ورسم المهام الملحة والآنية والأخرى بعيدة المدى. كما أنه يقدم فهمًا لطبيعة القوى المتصارعة على طرفي المعادلة: قوى المقاومة والثورة وأصدقائها وحلفائها من جهة، وفي المعسكر المعادي جبهة الثورة المضادة ومكوناتها وأدواتها المحلية والاقليمية والدولية.[1]
يفضي بنا هذا التشخيص إلى أن محاربة الإمبريالية الأميركية وتحديدها كالعدو الرئيسي للإنسانية والقطيعة التامة معها، تشكّل ركيزة أساسية في صراعنا، وهي كما رأينا حجر الأساس في فكر تشى غيفارا لأن هذا التحديد وهذه القطيعة يعنيان الوضوح في خيار المقاومة.
وهنا لا بد أن نلحظ المفارقة المؤلمة: فعلى الرغم من سياسات الإمبريالية الغربية والأميركية – التي لم تتوقف خلال العقود الأخيرة التي تلت استشهاد غيفارا عن نهب ثروات الشعوب ولقمة عيشهم واحتلال بلادهم وتدميرها وتشريد أهلها – ما زال بيننا من يجادل في تحديد هذه الإمبريالية كالعدو الرئيسي للإنسانية، بل كثيرون ما زالوا يهلوسون بانها نبراس الديمقراطية والحرية والتقدم، ويعظون بان الولايات المتحدة ليست متآمرة على شعوبنا، ويسدون لنا النصح بأن نثق بنواياها الحسنة. نجد أمثال هؤلاء حتى بين عرب فلسطين الواقعين تحت نير الاحتلال الصهيوني، نجد مَن يجادل في دقة وضرورة وجدوى هذا التحديد. ألا يدل هذا على ثغرة هائلة في الوعي؟ خذ على سبيل المثال مسألة رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل ومع أسياده وداعميه من الإمبريالية والرأسمالية الغربية والأميركية ومقاطعة أهلنا في فلسطين المحتلة لمنتجات العدو الصهيوني والغرب الرأسمالي. أليست مناهضة التطبيع مع هذا العدو ومقاطعة منتجاته سوى شكل بسيط من أشكال المقاومة الشعبية المتاحة ضد الاحتلال؟ ومع ذلك، فهي ما زالت موضوع جدل ساخن بين مؤيدين ومعارضين ومتواطئين، ناهيك عن محاولات الاختراق التي تسعى إلى التطبيع مع العدو على كافة المستويات وتحت شتى المُسميات (التجارية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية، الرياضية، الفنية…).
العرب والخوف من الغرب
ما أدركه غيفارا ومناضلو الثورة الكوبية، على الرغم من قرب جزيرتهم من شواطئ الإمبريالية الأميركية، وما لم نتعلمه نحن بعد هو أن الغرب، على الرغم من تسلحه بكل ما عرفه التاريخ من تكنولوجيا الحروب وصناعة الأسلحة وآلات القتل والبطش، هو غرب جبان يلجمه الخوف، الخوف من كل شيء: من الموت، من التضحية، من “تدني مستوى المعيشة”، ومن خسارة لذّاته وسلعه ومتعه وترفه.
لقد أدرك غيفارا أن في هذا الخوف تكمن قوتنا وسلاحنا، لأن الغرب جبان وقوته في سلاحه ومعداته، وليس في إرادته ووعيه، ولا في “إنسانيته”، لذلك انتصر الفيتناميون وهُزمت الولايات المتحدة، ولذلك انتصرت الثورة الكوبية وهُزم ديكاتاتورها باتيستا ومَن وراءه.
وفي حين نرى أن الشعوب التي فهمت هذه العبرة قد فازت بالنصر، وبالرغم من تكرار هذه المعادلة عبر التاريخ، إلا أننا لم نستفق إليها بعد.
ثالثًا: خلق الوعي الجديد
ليس صحيحًا أن ما وصلنا اليه هو نتيجة الأسباب والعوامل والمؤامرة الخارجية فحسب، بل لقد حان الوقت بعد تأجيل طويل، لكي نَعْبر إلى داخلنا ونمعن النظر في العوامل والأسباب الذاتية لما آلت اليه أوضاعنا التعيسة، إذ ليس هناك من سبيل آخر كي ترى الشعوب النور ودرب المستقبل والبديل المُتوخى.
نعتقد أن تأصيل فكر المقاومة على مستوى الشارع العربي وبين طبقاته الشعبية (صاحبة المصلحة في النضال، والتي تدفع ثمنه من دماء أبنائها)، يحتاج، أكثر ما يحتاج، إلى خلق وعيٍ نقديٍ ثوري.
فعلى الرغم من كل ما مرّت به شعوبنا، لا نقول في السنوات الثلاث الأخيرة، بل لعله من الأدق أن نقول في العقود الأخيرة، ما زالت القضية المركزية غائبة ومغيبة ومرجأة وربما لم تندرج بعد على قائمة المهام والأولويات في حياتنا السياسية والاجتماعية. وهذه المسألة هي الإنسان ذاته ووعيه ودوره كونه محور وغاية النضال ضد الفقر والاستغلال. وبهذا المعنى، فإن أحزابنا وتنظيماتنا الاجتماعية والسياسية ومجمل البنى الثقافية والخطاب السائد لم يلتفت إلى هذه المسألة ولم يمنحها العناية التي تليق بها.
لقد غادرت أحزابنا مهمة التثقيف والتعبئة منذ زمن، وتركت الساحة خالية للأعداء الداخليين والخارجيين. وإلاّ فكيف نفسر تنامي قوى الدين السياسي وحركاته وترسخ الفكر الوهّابي والسلفي خلال العقود الأخيرة في العديد من مجتمعاتنا إن لم تكن كلها. لنأخذ على سبيل المثال، المجتمع السوري أو على الأقل الريف السوري. بالطبع هذا لا ينفي تسلل آلاف الإرهابيين من الخارج واختراقها للمجتمع بكافة الوسائل، ولكنه لا يعفينا من التساؤل عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الداخلية في سورية ومسؤولية السلطة الحاكمة والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية.
في غياب الوعي يستعصي الفصل بين الأكاذيب والأوهام من جهة، والوقائع المادية والموضوعية من جهة أخرى. وفي غياب الوعي، لا يقوى العقل على قراءة الواقع أصلًا. فهل من غرابة إذن أننا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم! وهل من قاعٍ أدنى من هذا السقوط! فلو قَرَنّا غياب الوعي وفشل الحزبية وغياب المثقف الملتزم ودوره بل خيانته لوظيفته في المجتمع، فإنه يصبح بمقدورنا أن نفهم أسباب وجذور الأوضاع التي انتهينا اليها.[2]
رابعًا: غياب البديل
وهو غياب الرؤية والبرنامج والحاملة الشعبية لمشروع الثورة والتغيير. وليس أفضل من الحضيض الذي انخفضنا اليه من دليل على ما نقول. ففي مصر حراك للملايين أسقط رئيسين، ولكنه لم يتصدَّ لسؤال: وماذا بعد؟ ولم يقدم عملية ثورية متكاملة في الرؤية والبرنامج والأهداف التي تلبي الحاجات الأساسية للطبقات الشعبية المصرية وترفع عنها الجوع والظلم والفقر. فما معنى وما الغاية من إسقاط مبارك ومن بعده مرسي والصمت أو القبول بنظام يراوح في مكانه دون أن يقدم ولا حتى تصورًا (كي لا نقول حلولًا) للمعضلات الأساسية التي تنهش لحم الشعب؟
في التحولات التاريخية الكبرى، هناك من ينادي بالثورة ويصنعها ويموت من أجلها، وهناك من يرافق الثورة محاذرًا بخبث ولكنه لا يدفع الثمن بل يسطو على تضحيات غيرة ويمتطي انتصاراته. وقد كان شى غيفارا من الصنف الأول. لذلك، ستبقى رسالته حاضرة على الدوام ومحتفظة براهنيتها، وسترى الأجيال القادمة القدوة الثورية، لا بسبب قناعاته السياسية أو بلائه في حرب الغوّار فحسب، بل لأنه كان رجلًا صادقًا مع نفسه، ولم يَخن قناعاته أبدًا، وظلّ ضميرًا للفقراء وهمومهم ولم يتوقف عن النضال لحظة من أجلهم بل دفع حياته ثمنًا لها دون أن يشكو. أما بعد رحليه فما زالت أفكاره حيّة تقض مضاجع أعدائه لسنوات قادمة، فمن يمُتْ في سبيل المستقبل، يبقَ حيًّا. وهنا، أختم بشهادة لفيديل كاسترو:” إن رفاقنا الشهداء ليسوا بمنسيّين ولا بميّتين، بل يحيون الآن أكثر من أي زمن مضى”!
المصدر: نشرة كنعان