رداً على ناهض حتر، في حوار مع “اليسار” الملكي
صحيح أن الأرشيف الأردني عن تاريخ الأردن فقير، فمنذ بضعة سنوات انطلقت مشاريع تهدف إلى توثيق عرار، أو وصفي التل، أو مواقف النظام السياسي في الأحداث السياسية الحساسة، أو حتى تاريخ الأحزاب السياسية التي انطلقت منذ الخمسينيات.
هذا الشح يتيح الفرصة للكثيرين، إما لاختلاق أحداث تاريخية لم تحدث بالأساس أو حدثت بصورة معكوسة، وإما أن يتم تظهيرها خارج السياق التاريخي العام فتعطي معنى مضللاً ومعكوساً. هذا بالضبط ما فعله الكاتب ناهض حتر، مراهناً على نتائج الشح وأسبابه، في مقالته “ليس دفاعاً عن الحسين“.
نشر الكاتب ناهض حتر مؤخراً مجموعة من المقالات، التي تحمل كماً هائلاً من التناقضات، تشير إلى حد كبير أن الكاتب بات عاجزاً اليوم عن تقديم أطروحة متماسكة. فمن التشتت في الدفاع عن أطروحته التقليدية المتمثلة في قوننة فك الارتباط، إلى الاستناد إلى مقدمات ومن ثم نقضها في حواره مع الكاتب زياد منى على صفحات الأخبار (مثل الانتقال من الحديث عن الإشكالية الأردنية-الفلسطينية إلى الحديث عن وحدة مشرقية كحل أساسي والتخبط بينهما)، وخاتمتها كانت مقالته التي يدافع بها عن الملك الحسين بن طلال، وبعنوان على النقيض من ذلك تماماً.
في مستهل مقالته، تحدث ناهض عن حادثة إنسانية، بكل تأكيد أتعاطف معه فيها، فالتعرض للضرب المبرح الذي يودي بالمتعرض له إلى غرفة العمليات لاستئصال 240 سنتمتراً من أمعائه، ليس أبداً بالأمر السهل. ولكن، الحديث عن تلك الحادثة التي أقرأها للمرة الثالثة أو الرابعة في مقالات حتر جديرة كذلك بنقل مستوى الحديث عنها إلى مناطق متعددة حتى لا تضعنا مع أوج التعاطف في خانة وحيدة اسمها المهدي بن بركة أو حتى خالد سعيد.
العديد من المناضلين الشيوعيين والقوميين في الأردن، وفي ظل الأحكام العرفية تعرضوا للعذابات الطويلة في سجون الجفر، ومختلف المعتقلات. ولكن حادثة الضرب المبرح المباغت لشخصية بارزة في الحقل السياسي ليست من الأولويات في سلم العقوبات التي يتبعها النظام في الأردن، وإن لم تكن غائبة تماماً عن أدبياته. أحداث التصفية المباشرة أو العقوبة المباشرة من هذا الشكل تبناها النظام في الأغلب إثر خلافات داخلية محضة.
مقال حتر “ليس دفاعاً عن الملك حسين“، يفتح الباب على سؤالين أساسيين، أو على عنوانيين كبيرين في الحوار: دور حقبة الملك حسين على المستوى السياسي، وتحديداً فيما يتعلق بأحداث الحروب والعدوان (حرب عام 1967م، معركة الكرامة، أحداث أيلول، الحرب على العراق في بداية التسعينيات،… إلخ)، ودور هذه الحقبة في البعد الاقتصادي والسياسي الداخلي (المهمات التنموية، تطوير الصناعة، القطاع العام والخصخصة، … إلخ).
على المستوى السياسي
تناول حتر عدداً من الميزات التي تمتعت بها حقبة الملك الحسين بن طلال، تناول هذه الميزات بخطوطها العريضة، والرهان الأكبر في الاكتفاء بها، هو نحن، القراء، الذين لم يقرأوا أو حتى لم يعيشوا تلك الحقبة. ولكن لنتوقف للحظات، للمرور على تلك الميزات، في معناها ومغزاها السياسي في ظرفها السياسي من جهة، وفي صحتها التاريخية من جهة أخرى.
لنتوقف قليلاً عند موقف الأردن الرسمي من الحرب على العراق في بداية التسعينيات، وهذه المحطة التي لربما ستكون الأوضح في حنكة الملك حسين بعد تعريب الجيش. ففي عام 1956م، صدر القرار التاريخي لتعريب الجيش في الأردن، بعد دخول اثنين من الضباط الأردنيين الشرفاء، اللذين نسي التاريخ اسميهما، وقالا له “نريد تعريب هذا الجيش، والتخلص من كل القيادات البريطانية المشرفة عليه”، فكان رد الحسين: “وإن لم أقبل بذلك؟”، فرد الضابطان “سنضطر لإزاحتكما، كليكما، أنت والقيادة البريطانية!”. أدرك الملك الحسين أن خطوة التعريب باتت ضرورة تاريخية لا يمكن تجاوزها، فكان القرار، وكان خطابه المعروف في الإعلان عن تعريب الجيش.
لا يختلف هذا القرار في سببية إنتاجه عن القرار السياسي بخصوص الحرب على العراق، ولكن في الحالة الثانية، ثمة أكثر من ضابط أو اثنان. حالة الغليان الشعبي التي سببها الجنوب في هبة نيسان، هي ذاتها أو لربما أكثر كانت على الأبواب، ومن نفس الطرف، الجنوب العاشق للعراق، وأكثر تحديداً العاشق للرئيس الراحل صدام حسين فيما لو قرر الملك الحسين اتخاذ أي موقف معاد للعراق في الحرب عليه.
لم يكن الحسين ليسمح لنفسه ولعرشه أن يكون تجربة شاه إيران جديدة، رجل الأمريكان الأول في المنطقة الذي رفضت الولايات المتحدة لاحقاً استقباله حتى للعلاج بعد انتصار الخميني! أمريكا تبيع أصدقاءها في حال فشلهم، وإن كانت هي نفسها (أمريكا) المسبب في ذلك الفشل. الملك حسين أدرك جيداً هذه المعادلة، وفي نفس الوقت حافظ على العلاقة الوطيدة التي تربط هذا البلد بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا كداعم أساسي لها. لم يكن الملك حسين ليجعل من نفسه شاه إيران آخر، ولا ضياء الحق آخر الذي فجرت المخابرات الأمريكية طائرته في الباكستان بعد نهاية دوره. في الحديث عن موقف الملك حسين في أحداث العراق، بإمكانك أن تنطلق من بوابة الموقف الوطني والعروبي (الذي قد يغالي البعض أحياناً، ،لتأكيده، بوصفه بالمتهور)، ويمكنك الانطلاق من الأسباب المادية المتمثلة في الحفاظ على العرش… ما يحسم هذا الجدل هو الاطلاع على المواقف التاريخية الأخرى، وعلى طبيعة العلاقة مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.. عندها تصبح محاولات العديد من الكتاب والمثقفين في تثبيت الأولى (الموقف الوطني أو حتى الموقف الوطني المتهور)، تصبح محاولات بائسة.
عودة قليلاً إلى الوراء إذن، إلى الستينيات والسبعينيات، حيت اعتمد النظام الأردني شعار “الطريق الثالث”، الذي عملياً، لو تجاوزنا محاولات اللعب على اللغة، إنما هو عداء لحركة التحرر العربي، وإنكار لمنجزاتها، وتوطيد إضافي للعلاقة مع الإمبريالية. إذن لم تكن مسألة اقتراح النكوص عن المشاركة في الحرب عام 1967م استراتيجية قتالية اقترحها وصفي التل أو غيره، إنما كانت استمرار لسياسة النظام المعتمد على الإمبريالية العالمية، والمنفذ الجيد لمتطلباتها. لم يكن أبداً من السهل أن تنكشف هذه الصيغة عربياً، لذلك كان شعار “الطريق الثالث” هو الغطاء لهذه السياسة، تماماً كما كانت السرية المطلقة غطاءً لرسائل الملك الحسين إلى كسينجر في أحداث عام 1970م.
من الواضح أن رواية ضغط الجيش على النظام في الكرامة للدخول في الحرب، هي الأكثر منطقية، إذا ما قورنت بحدث تعريب الجيش وشعارات الطريق الثالث وحرب عام 1967. الأمر الذي يضع تفسير الكاتب حتر لموقف الأردن الرسمي من الحرب على العراق في بداية التسعينيات موضع جدل كبير كذلك.
على المستوى الداخلي، سياسياً واقتصادياً
وهم الولاية العامة
ينظر حتر إلى الولاية العامة لمجلس الوزراء على أنها منجزاً تاريخياً، ولكن هل تحقق ذلك المنجز التاريخي عملياً وبالمعنى السياسي؟ وهل يمكن أساساً الحديث عن أفضلية تقدمية للولاية العامة لمجلس وزراء في بلد كان قد أعلنت فيه الأحكام العرفية وجمدت الانتخابات النيابية، وبالتالي فرض شكلاً واحداً لآلية تشكيل مجلس الوزراء؟ عندها، ماذا يعني أن تُعطى الولاية العامة “لو كانت تحققت بالفعل” لمجلس وزراء معين؟ وهذا عملياً يشكل تراجعاً واضحاً عن حقبة سليمان النابلسي، وله دوافعه في دوائر الحكم نفسها.
لقد غادر الأردنيون عقد الخمسينيات بصراع حاد وواضح أطاح في نهايته بحكومة سليمان النابلسي، التي كانت تؤسس لمعنى سياسي عملي في مفهوم الولاية العامة التي تحدث عنها حتر، أما ما جرى بعد ذلك، وانطلاقاً من آلية تأسيس الحكومات، فلا يعدو زيادة مؤسسات الحكم لغايات تنظيمية فقط.
تزوير حقائق في تاريخ الاقتصاد الأردني
أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، والحفاظ على دور الدولة الاجتماعي. فهنا لا بد من الإشارة إلى مسائل أساسية منها: تاريخية الديون في الأردن، وجدوى الموجودات، التي تناولها حتر، اقتصادياً، ومحاولات التزوير في التاريخ (وعلى رأسها أنه لم يجري خصخصة المؤسسات الوطنية في حقبة الملك حسين !!)
تعرض بشير البرغوثي في كتابه “بعض قضايا الصراع الاجتماعي في الأردن” لمسألة العلاقة بين البرجوازية البيروقراطية والملاكين العقاريين وأصحاب المصانع الصغيرة والمتوسطة إبان أحداث أيلول. لقد كانت نتيجة أحداث أيلول صعود ما أسماه بشير البرغوثي “البرجوازية البيروقراطية” التي ظفرت بـ “الانتصار” على فصائل المقاومة الفلسطينية. لقد تمكنت باختصار من السيطرة على مؤسسات الدولة وإدارتها واعتمدت الأسس التالية في إدارتها:
أولاً: على مستوى التصريحات الرسمية، صرّح رئيس الوزراء الأردني للصحافة في شباط عام 1964 “إن الحكومة الأردنية تؤمن بالحرية الاقتصادية وليس لديها أية فكرة للجوء للتأميم”، كما صرح مصدر أردني كبير لجريدة الصفاء اللبنانية “إننا في الأردن نؤمن بالاقتصاد الحر الذي يشجع المبادرات الفردية”. كما صرح وزير الخارجية في الأردن عام 1971م لوفد بريطاني أن الأردن مستعد لتأمين مليون لاجئ فلسطيني لو توفر المال (وهذا يؤكد النظرة التاريخية للنظام للقضية الفلسطينية بما تؤمن له من دخل). هذه التصريحات تجاوزت في وضوحها شعارات الطريق الثالث التي حاولت إخفاء الموقف الواضح المعادي لحركة التحرر العربي والمرتبط بالإمبريالية العالمية. وعلى كل حال لم يجري تطبيق الصيغة الاقتصادية المعلن عنها في هذه التصريحات لأسباب سنتحدث عنها لاحقاً في هذه المقالة.
ثانياً: فرضت طبقة الحكم مجموعة من القوانين المتعلقة بضريبة الدخل والتأمين والحماية الإغلاقية وقانون الزراعة، لتأمين الإيرادات المطلوبة للقائد الجديد للدولة من المصادر الداخلية والخارجية، وفتحت الباب للعديد من أصحاب رأس المال لإقامة المصانع الصغيرة، واعتمدت بشكل كبير على المساعدات التي بلغت عام 1970م، 70 مليون دينار مقابل 37 مليون من المصادر الداخلية. لقد كان اتساع بند النفقات في موازنة الدولة عاملاً أساسياً لتثبيت حكم الفئة “المنتصرة”، من خلال زيادة عدد المنتفعين وبالتحديد في قطاعات، بعضها غير منتج كالجيش الذي لم يعد إعداده لحرب قادمة مسألة محتملة، ويتم الإنفاق عليه من خلال المساعدات.
ولكن، على الرغم من كل التصريحات التي تؤكد أن الأردن سيتبنى نموذج الاقتصاد الحر، لم يتم تكريس هذا الواقع في الأردن، وثمة مؤسسات قطاع عام أبصرت النور، فقد كانت الملكية في الأردن تنقسم إلى ملكية حكومية، وخاصة ومختلطة. ولكن ثمة أسباب موضوعية أجبرت النظام في الأردن على السير في هذا الطريق، وهي بالتأكيد ذات صلة بمحاولات تثبيت مؤسسة العرش:
1. مكانة مشروع التحرر الوطني والقومي في ذاك الوقت يتعارض مباشرةً مع مشروع السوق الحر المرتبط بالكيان الصهيوني. ولا سيما أن حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، هي حقبة هذا النموذج، في مصر (التي تراجعت في السبعينيات عنه)، والعراق وسوريا. الخروج عن هذا النموذج يعني بالضرورة خطوة انتحارية لصاحبها. فلا المحيط الإقليمي ولا حتى الظرف العالمي، الذي نزعت فيه دول رأسمالية إلى تبني حلول اشتراكية في الرعاية الاجتماعية، كان يسمح بخطوة بديلة في الأردن.
2. لم يكن من الممكن أبداً إرضاء الجمهور الأردني، ضمن أنماط إنتاجه التي يعرفها، وثقافته، إلا من خلال دولة قطاع عام وتوجه رعوي اعتمد على المساعدات أكثر من اعتماده على المصادر الداخلية أو المساعدات العربية.
لاحقاً في عام 1989م، في ظل حكم الملك الحسين، عاماً عاصفاً بالتغيرات الاقتصادية، وأهمها تبني برنامج التصحيح الاقتصادي، وكانت نتيجته الكبرى قبيل وفاة الملك الراحل بثلاث سنوات عام 1996م حين تم الإعلان عن برنامج الخصخصة الكبير (ولا أجد داع للكراهية هنا من قبل الليبراليين للملك الراحل)، وقد تأثرت بذلك البرنامج المؤسسات الأهم: مصانع الإسمنت الأردنية، شركة الاتصالات الأردنية، مؤسسة النقل العام، سلطة المياه الأردنية، محفظة المؤسسة الأردنية للاستثمار، منتجع حمامات ماعين، الأسواق الحرة في المطارات، شركة مركز تموين المطار، إضافة إلى شركة مناجم الفوسفات الأردنية وشركة البوتاس العربية، كذلك شركة توليد وتوزيع الكهرباء، الملكية الأردنية ومشروعات وزارة التموين سابقاً (الصوامع، المطحنة، المستودعات العادية والمبردة)، ومستودعات جمارك عمّان. كما تم بيع مساهمات الحكومة في الماريوت وشركة المسالخ والدواجن، الشركة الوطنية للتصنيع الغذائي، الشركة الأردنية للنقل السياحي (جت)، الشركة العامة للتعدين وشركة الصيانة العامة وشركة تأجير وصيانة الآليات.
خلاصة
إن المواقف السياسية للنظام في الأردن لها أسبابها الموضوعية، ولا يمكن الاعتماد على صورة الموقف من الخارج للانطلاق إلى استنتاجات واهمة. فالموقف السياسي من العراق يشبه الموقف من تعريب الجيش، وقد أخذ النظام في إنتاجه لتلك المواقف الظرف الموضوعي بعين الاعتبار. واتخاذ قرار المشاركة في حرب عام 1967م كان بطلب أمريكي-إسرائيلي ليس أكثر، واقتراح النكوص عن المشاركة لم يكن يعني تبني سياسة قتالية بديلة بقدر ما يعني سياسة النأي بالذات (في سياق استرضاء الملك حسين لجمال عبدالناصر قبيل الحرب، وحسب الكاتب البريطاني مايكل أوبراين، تم عزل وصفي التل من منصبه في الديوان الملكي).
وعلى الصعيد الاقتصادي، فلقد كانت كل القرارات الاقتصادية منسجمة مع ممكنات الواقع المحلي والإقليمي، ولكنها بالتأكيد سمحت في نهاية المطاف في الوصول إلى الهدف الذي تم تحقيقه عامي 1989م و1996م، في ظل الانهيار الكبير لمشروع التحرر العربي والمنظومة الاشتراكية في العالم.
مجلة راديكال/ العدد الخامس والأربعين 16-28 شباط 2014