الانتخابات المحلية التركية: سجال محتدم.. و«صفر برامج»
يصادف يوم الأحد 31 آذار الجاري موعد الانتخابات المحلية التركية، لانتخاب رؤساء بلديات الولايات والأحياء والبلدات والقرى. ويتنافس 12 حزباً سياسياً ومستقلون في كسب أصوات 57 مليون ناخب في هذه المعركة السياسية التي تتصدر عناوينها الأزمة الاقتصادية في البلاد المتمثلة بالتضخم وازدياد معدل البطالة وارتفاع الأسعار. ويأتي ذلك كله في ظل ظرف تشهد فيه البلاد تشابكاً معقداً للملفات الأساسية كالسياسية الخارجية وتأزم العلاقات التركية- الغربية وتوجه تركيا في المقابل نحو الشرق وانعكاسات ذلك كلّه على الوضع الاقتصادي والداخلي..
تعد الانتخابات المحلية الحالية، ثالث معركة سياسية تشهدها البلاد منذ عامين. سبقها الاستفتاء على التعديلات الدستورية نيسان 2017 والتي تحولت البلاد بموجبها من النظام البرلماني إلى الرئاسي، تلتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في 2018، وبموجب نتائج هذه الأخيرة تبلورت اللوحة الحالية لتحالفات القوى السياسية المختلفة: حزب العدالة والتنمية AKP، الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في تحالف وثيق مع الحركة القومية MHP بزعامة دولت بهتشلي، واللذان يؤلفان في الانتخابات المحلية الحالية «تحالف الشعب»، في مقابل «التحالف الجمهوري» المعارض المكوّن من حزب الشعب الجمهوري CHP برئاسة كمال كيليشدار أوغلو إلى جانب «الحزب الجيد» İYİ P والذي تأسس حديثاً بزعامة ميرال أكشنر، وهو بالأصل جزء من الحركة القومية التركية منشق عنها. في مقابل هذا المشهد، يأتي حزب الشعوب الديمقراطي HDP اليساري منفرداً في التوجه والبرنامج بزعامة صلاح الدين دميرتاش الذي يقبع حالياً في السجن بتهمة «دعم الإرهاب» التي حاكها له الحزب الحاكم لوقف التأثير المتزايد الذي استحوذ عليه تدريجياً على الساحة السياسية والجماهيرية منذ دخوله إلى البرلمان في الانتخابات البرلمانية قبل الماضية.
أزمة مع الغرب
بات تأزم العلاقات التركية- الأميركية معلناً منذ بداية العام الماضي على وجه التقريب، وذلك على خلفية تحول السياسة الخارجية التركية التدريجي نحو الشرق وتعزيز علاقاتها مع الاتحاد الروسي بعد عقود طويلة من ارتهان تركيا للسياسات الغربية وتأديتها دور الذراع المنفذة لتلك السياسات من خلال إثارة التناقضات والقلاقل مع الجوار وبالأخص المعسكر الشرقي. بالملموس، يبرز التوجه الجديد لتركيا من خلال مسار أستانة المتصل بالحل السياسي للأزمة السورية، وتوريد منظومة S400 الروسية للدفاع الجوي، وارتفاع التبادل التجاري مع روسيا ضمن خطة تهدف للوصول إلى رقم 100 مليار دولار، واحتمالية رفع التأشيرة بين البلدين، بحسب تصريحات وزيري خارجيتهما.
وفي المقابل فإن التدهور الحاصل في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية افتتح عقده مع شن «حرب عملات» على الليرة التركية ضلعت فيها السعودية والإمارات بضوء أخضر أميركي، بالإضافة الى تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير مرّة بتصريحات مثل «تدمير تركيا اقتصادياً» في سياق متصل بالملف السوري، وكذلك إلغاءه لاحقاً مزايا تجارية جمركية للصادرات التركية إلى الولايات المتحدة وفقاً لنظام «التفضيلات المعمم- GSP» كانت تركيا تتمتع بها منذ عام 1975م.
عملياً أدى ذلك كله إلى ارتفاع نسبة التضخم بمقدار 25%، بحسب بيانات رسمية، وارتفاع النشاط المضارب للتجّار، وارتفاع عدد المعطّلين عن العمل الى 8 مليون عامل، ما انعكس أزمة اقتصادية خانقة في المجتمع التركي، واحتقان جماهيري مع غياب البرامج الواضحة لتجاوز الأزمة وغموض التوجهات الاقتصادية لمختلف القوى السياسية.
أجواء مشحونة
تصدرت الأزمة الاقتصادية والمعيشية العناوين الرئيسية للسجال الانتخابي بين القوى السياسية التركية. ففي حين يتّهم الحزب الحاكم على لسان رئيسه إردوغان الغرب صراحة بالوقوف وراء هذه الأزمة للتأثير على مسار الانتخابات، معتبراً إياها «إملاءات سياسية» على تركيا، واعداً بتجاوز الأزمة في الصيف المقبل، يستثمر التحالف المعارض «التحالف الجمهوري» بحالة الاستياء الشعبي من الوضع الاقتصادي، واصفاً تركيا «بالبيت الذي اشتعل مطبخه بالحريق» على لسان كيليشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، في إشارة الى الأزمة المعيشية للمواطن التركي وحتمية امتداد «الحريق» الى بقية أرجاء المنزل، ويتهم كيليشدار الطرف المقابل بإساءة إدارة الدفة في البلاد منذ توليه الحكم غامزاً الى سياسة التحالفات الدولية التي تنتهجها تركيا مؤخراً. وتشاطر الشخصيات والأحزاب المعارضة التركية كيلشيدار أوغلو التصعيد الذي ابتدأه ضد التحالف الحاكم والذي بدوره يتصدى لها مطالباً إياها بتوضيح برامجها، في مشهد يتراشق فيه الطرفان الاتهامات بغياب الرؤية والبرنامج للتعامل مع الملفات المختلفة.
«السجال» الانتخابي
لا يختلف توجه التحالف المعارض الاقتصادي والسياسي بالجوهر عن نظيره لدى التحالف الحاكم. كلا الطرفين يتبعان نهج الليبرالية الاقتصادية، وتتمحور دعايتهما الانتخابية حول جذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط قطاع الخدمات والسياحة. مع ذلك توجد بعض الفوارق بينهما كانفتاح التحالف الحاكم على روسيا وإيران والعالم العربي ودول الاتحاد السوفييتي سابقاً، مقابل التزام سياسة حزب الشعب الجمهوري المعارض بالعلاقات التاريخية التقليدية مع السوق الغربية. لذلك لا يرتقي مستوى السجال الانتخابي بين الطرفين الى درجة طرح البرامج الاقتصادية بل ينحصر في كونه «سجالاً». فالخلاف إذن هو حول شكل تنفيذ البرنامج لا حوله بالذات. إلا أن الناخب التركي في هذا التفصيل يمنح أفضلية نسبية للاتجاه الذي تنتهجه الحكومة بالتوجه شرقاً كونه يقدم بديلاً وعزاءً لعقود طويلة من سياسة «الإذلال» التي مارسها الغرب، وبالأخص الأوربيين في ملف العضوية أو الشراكة مع «الاتحاد الأوربي»، ولا سيما في ظل التوجه الأميركي المعلن في إطباق الطوق اقتصادياً على تركيا.
اليسار ودوره
بشكل عام، يغرّد اتجاه حزب الشعوب الديمقراطي والقوى والأحزاب الشيوعية واليسارية التركية منفرداً خارج سرب القوى التقليدية ببرنامج مختلف نوعياً منحاز لقوى العمل، بمفردات متنوعة وملموسة وفقاً لأوضاع الولايات المختلفة. إلا أن الطريق الذي ينتهجه اليسار عموماً لا يخلو من بعض المطبات والمنزلقات والتي تقف عائقاً في كثير من الأحيان أمام اكتسابه للشارع والجمهور. أبرز تلك الأخطاء هو الوقوع في فخ التأطير الإيديولوجي والقومي الذي تدفعه إليه القوى اليمينية في المقلب الآخر، بشقيها الحاكم والمعارض. فيجري على سبيل المثال تصنيف حزب الشعوب الديمقراطي بأنه حزب يقتصر على قومية محددة (الكردية)، فيما تركز بعض الأحزاب الشيوعية على شعارات ثانوية مقارنة بالأزمات الاجتماعية الحاضرة، كتمحور برامجها حول حقوق المرأة والطفل وقضايا اللاجئين والبرامج الثقافية بالدرجة الأولى. ولا تبدو قوى اليسار التركي بصدد رد التهمة عن نفسها إذ ينخرط بعض مرشحيها وأعضاؤها في السجال مدافعين عن تلك البرامج دون إعطاء الأولوية للمسائل الطبقية والاجتماعية. ويعزو البعض القصور في أداء مرشحي وكادرات اليسار الى ابتعاد قيادة الحزب عن إدارة المهام وبالأخص صلاح الدين ديميرتاش ورفاقه القابعين في السجون.
حسابات عملية
وبغض النظر عن نتائج الانتخابات الحالية، فقد حقق التحالف الحاكم في استفتاء التعديلات الدستورية ابريل 2017 والانتخابات الرئاسية والبرلمانية 2018 سيطرته الفعلية على زمام السلطة في البلاد لسنوات مقبلة. حيث أن الصلاحيات الدستورية الواسعة التي حظي بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومن ثم تشكيله للحكومة في العام الماضي حسما معركة السلطة في البلاد الى حد كبير. ولم تستفد المعارضة التركية كثيراً من الاستمرار في توجيه الاتهام للسلطة في الفشل في إدارة البلاد، لأن المعارضة كان لها حصتها في إدارة العديد من ولايات البلاد ولم تنجح بدورها في حلحلة الأزمات المختلفة، وهذه نقطة لا يفوّت الحزب الحاكم فرصة تسجيلها على المعارضة في كل مناسبة.
من المرجح ألا تشهد اللوحة كثيراً من التغيرات في تركيا مهما كانت نتيجة الانتخابات المحلية. يرى المراقبون أن المعارضة على الأرجح ستحقق فوزاً في معاقلها التقليدية، وربما في العاصمة أنقرة، فيما تتزايد حظوظ مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدرم في مدينة اسطنبول كبرى مدن تركيا ومركزها الاقتصادي.