إدارة أوباما: الذلّ الموصوف
لن يستغرق من يتابع التحركات الأخيرة للإدارة الأمريكية الحالية وقتاً طويلاً للاستنتاج بأن إدارة الرئيس باراك أوباما قد تجاوزت في سلوكها ومنذ فترة بعيدة «التخبط التقليدي» المعروف في الأوساط الأمريكية باسم «مرحلة البطة العرجاء»، وأنها قد وصلت خلال الأيام الماضية إلى ما يمكن وصفه، بالدلائل، بالذلّ الموصوف.
عبَّر اتفاق «جنيف1» لعام 2012 حول الوضع السوري تعبيراً بالغ الدقة عن التغير الذي طرأ على صعيد موازين القوى الدولية. ففي حينه، اضطرت واشنطن اضطراراً، وبحكم الموازين الجديدة، للتوقيع على الاتفاق الذي يلزمها فعلياً بالمسار السياسي لحل الأزمة السورية. وعلى هذه الأرضية، كان لزاماً على «الأمريكي» أن «يبلع» كل تصريحاته وتصعيداته السابقة حول إمكانية حسم الوضع في سورية عسكرياً، وغير ذلك من الاشتراطات المسبقة.
منذ ذلك الوقت، انتقلت الإدارة الأمريكية، التي بدا أنها لا تريد الاحتكام إلى منطق الموازين الجديدة، إلى انتهاج سياسة التأجيل والعرقلة، وإن لم يكن بوسعها أن تتحمل المسؤولية السياسية المباشرة عن هذه العراقيل، فقد دفعت حلفاءها وأدواتها في المنطقة وفي الداخل السوري إلى لعب هذا الدور تحديداً. ففي حين قدمت هذه الدول الدعم اللوجستي اللازم للتنظيمات المصنفة دولياً على أنها إرهابية، وأمّنت في مراحل محددة حرية الحركة والمرور للعناصر المنضوية في إطار هذه التنظيمات من وإلى سورية، عملت الولايات المتحدة وأدواتها من فصائل «المعارضة السورية» على اتخاذ الموقف المعرقل والمؤخر لجميع الاستحقاقات السياسية التي تخللت ذلك، ابتداءً من «جنيف2» ومحاولة إقصاء المعارضة الوطنية عنه، مروراً بـ«جنيف3» ومحاولة تعويم «الهيئة العليا للمفاوضات»، واستمرار محاولات عرقلة تطبيق الاتفاق الدولي «2254» الذي شكّل عملياً انكساراً أمريكياً قاسياً، وليس انتهاءً بالمفاوضات الأخيرة المتعلقة بإيجاد صيغة للتوافق حول الوضع في مدينة حلب السورية.
استدعى هذا السلوك الأمريكي ولا يزال يستدعي ردوداً قاسية من قبل المحور الصاعد، وهو ما انعكس في عدد من «الفيتوات» الروسية الصينية المزدوجة المكررة، التي كبحت عملياً جماح المتشددين في الإدارة الأمريكية، إلى جانب مواصلة العمل على مساري الحل السياسي ومكافحة الإرهاب مكافحة جدية استطاعت أن تعرّي عملية الدعم والتبني الأمريكي الواضح للتنظيمات المصنفة دولياً على أنها إرهابية. غير أن ما ينبغي الوقوف عنده، هو أنه ونتيجة لـ«الوقائع العنيدة» التي لم ترحم متشددي واشنطن، كانت الولايات المتحدة تضطر للوصول إلى اتفاقات مذلة مع الجانب الروسي. ومن ذلك اتفاق 9/أيلول الماضي، الذي بقي فيه وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، وفريقه، حوالي 14 ساعة في مفاوضات ماراثونية مع الجانب الروسي، الذي نجح في نهاية المطاف بإجبار واشنطن على التوقيع على اتفاق «الوثائق الخمسة» الذي شكّل، مرة جديدة بعد «جنيف1»، تعبيراً عن الوزن الأمريكي المتداعي، الذي ينعكس بطبيعة الأحوال كوارثاً على الدول الحليفة لواشنطن.
على الأثر، سبحت الولايات المتحدة عكس التيار مجدداً، معبّرة عن ذلك في العدوان الذي شنته مقاتلاتها على مواقع عسكرية للجيش السوري في دير الزور، في تدخل واضح لمصلحة تنظيم «داعش» الذي تمكن، في حينه، من السيطرة على جبل ثردة في محيط مطار المدينة.
على هذا الأساس، يمكن القول أن إدارة أوباما قد تلقت مؤخراً ضربتين مذلتين موجعتين، وفي حين جاءتها الأولى من الداخل الأمريكي ذاته، من خلال استحقاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز فيها أكثر المرشحين تعبيراً عن مرحلة التراجع الأمريكي، دونالد ترامب، تمثلت الضربة الكبيرة مؤخراً، بالإذلال الذي تكبدته هذه الإدارة خلال الأيام الماضية، لا سيما فيما يتعلق بوصول معركة حلب إلى نهايتها المنطقية، وهنا نذكر تحديداً التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، جون كيربي، يوم أمس حول أن الاتفاق بشأن مدينة حلب السورية قد جاء برعاية روسية وتركية، وتم دون مشاركة الولايات المتحدة. وهو ما يؤكد الحقيقة المرة على الجانب الأمريكي، والتي تقول بأن الحلول والاتفاقات باتت ممكنة التحقيق دون «واشنطن المتعنتة»..!