النووي الإيراني.. والتوازن الدولي الجديد!
شكّل الوصول إلى اتفاق أولي لحل «الملف النووي الإيراني» محطة جديدة في عملية تبلور ميزان القوى الدولي الجديد، الذي تتراجع فيه الولايات المتحدة الأمريكية لصالح ظهور عالم متعدد الأقطاب، وتغلب فيه الحلول السياسية على العسكرية.
توصل وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، ووزراء خارجية مجموعة دول الـ5+1، إلى اتفاق أولي بخصوص حل الملف النووي الإيراني، في الثاني من نيسان الجاري في مدينة لوزان السويسرية. الاتفاق نص على رفع العقوبات الدولية عن طهران مقابل التزامها ببرنامج نووي سلمي تحت رقابة دولية. ومن المفترض أن تخضع الصيغة الأولية للاتفاق لجولات تفاوضية إضافية، ليتم أقراره بشكل نهائي في الـ30 من شهر حزيران القادم.
بعيداً عن تفاصيل الاتفاق ومجرياته، لا بدّ من الخوض في دلالاته العميقة من حيث علاقته بميزان القوى الدولي، وتوقيته، وارتباطه ببقية الملفات الدولية «العالقة»، أو المعلقة أمريكياً..
تفكيك نقاط الاستعصاء
ليس مصادفة أن يجري التوصل إلى مثل هذا الاتفاق. فهذا الأخير يأتي كإشارة جديدة على نشوء توازن دولي جديد، يختلف عن سابقه الذي ساد في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الفائت، والذي كانت سمته الأساسية هي هيمنة الإرادة الأمريكية على القرار الدولي.
التوازن الجديد يرسم ملامح عالم متعدد الأقطاب، ويتراجع فيه الدور الأمريكي إلى الحدود التي رسمتها وترسمها الأزمة الاقتصادية الرأسمالية، التي بدأت بالظهور على السطح منذ عقد من الزمن. وتجري عملية تظهير ميزان القوى الجديد من خلال تفكيك نقاط الاستعصاء، المصطنعة أمريكياً، في الملفات الدولية الساخنة، ومنها الملف النووي الإيراني، الذي ظل في أدراج النظام الدولي لأكثر من 11 عاماً.
الملف النووي؟!
ماذا يعني «الملف النووي الإيراني»؟! تقول الرواية الغربية أن إيران تسعى لامتلاك سلاح نووي، وأن ذلك يهدد التوازنات الدولية القائمة، والتي تسعى أمريكا للحفاظ عليها بطبيعة الحال. فهل كانت القضية فعلاً كذلك؟
في الحقيقة، إن أي متتبع جدّي للسياق الذي جاء فيه الزعم الغربي، يدرك بسهولة أن سعي أمريكا لتخويف العالم من إيران، جاء متوازياً ومتلازماً مع «حربها» المزعومة على «الإرهاب»، التي أعلنتها لتبرير حروبها وصراعاتها السياسية والعسكرية مع الأطراف الصاعدة، أو المرشحة لاستعادة دورها في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ولم تكن المسألة في أن تمتلك إيران قنبلة نووية، أو أن نظامها يشكل خطراً على السلم العالمي، بقدر ما تمثلت في أن إيران كانت تواصل صعودها على المستوى الإقليمي، وكانت مرشحة لبناء تحالفات جدية في مقابل الهيمنة الأمريكية، لذا فقد كان من الضروري أمريكياً استباق ذلك الصعود وقطع طريقه، بصناعة ذريعة تسمح بتحجيم ذلك الدور، من خلال اصطناع ملف مستعصٍ و«عالق» هو «الملف النووي»، فلم يكن «السلاح النووي» سوى التعبير الخارجي عن جوهر المسألة المتمثل بدور إيران ومستقبل تحالفاتها.
ماذا يعني حل الملف؟!
أما الوصول اليوم إلى اتفاق أولي حول الملف النووي الإيراني، فإنه يعني بالدرجة الأولى بداية اعتراف أمريكا بوجود لاعبين جدد على الساحات الإقليمية والدولية، كأحدى تعابير انتهاء عالم القطب الواحد، ويشكل محطة جديدة من محطات تظهير ميزان القوى الدولي الجديد. فليس انجاز التفاصيل هو الذي صنع الاتفاق، بقدر ما صنعته اللحظة التاريخية التي تواصل فيها أمريكا تراجعها. وهذه الأخيرة باتت مضطرة إلى استخدام أدوات أخرى غير المواجهة المباشرة، أو التلويح بالقوة والحصار.. الخ، في تعاطيها مع السياسة الدولية. ولا يعني ذلك بالضرورة تخلي أمريكا عن أدواتها العنيفة، بقدر ما يعكس أن ضرورة باتت تنشأ أمامها، بالتعاطي بأدوات أخرى مع الملفات الدولية، تقوم على أساس التفاوض والحلول السياسية، نتيجة انسداد الأفق أمام أساليبها السابقة.
هبوط.. بين الفاشي و«العقلاني»!
موضوعياً، إن النجاح في حل الملف النووي الإيراني، يفتح الباب واسعاً أمام إمكانية حل الملفات الأخرى في الساحة الدولية، كالأزمة السورية والأوكرانية، ولاسيما وأن أطر الحل في تلك الملفات موجودة وقائمة، وجرى قطع أشواط فيها، الأمر الذي يعكس عموماً تسارع عملية تبلور ميزان القوى الدولي الجديد. أما بالملموس، فإنه لا يزال من غير المستبعد أن تسعى القوى المتشددة والفاشية في الإدارة الأمريكية، ومن خلال أدواتها الإقليمية، بإعاقة ذلك الاتجاه الموضوعي المتراجع للدور الأمريكي. وقد يكون استكمال الاتفاق النووي الإيراني بحد ذاته عرضة للانتكاسات التي قد تفتعلها تلك القوى، وقد ينسحب الأمر على الملفات الأخرى، وفي هذه الحال فإن التيار «العقلاني» في الإدارة الأمريكية، المنخرط في عمليات التفاوض والتسويات السياسية، سيكون بموقع المتفرج، بانتظار أن تحسن تحركات القوى الفاشية من وضعها التفاوضي. إلا أن الأمر برمته يعكس بداية الهبوط التدريجي للوزن الأمريكي، وتفكك السياسة الأمريكية القائمة، وتحولها شيئاً فشيئاً إلى حدود حجمها الموضوعي في التوازن الدولي الجديد.