الفلسطينيون وتدهور مكانة «إسرائيل» الدولية
ليس قلق «إسرائيل» الدبلوماسي أقل من قلقها الأمني. صحيح أنها قلقة وخائفة من التداعيات الأمنية لعملية القنيطرة العدوانية، لكنها قلقة أيضاً من تدهور مكانتها في الساحة الدولية، ولاسيما بعد إعلان المدعية العامة لدى المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة، بدء التحقيق الأولي في احتمال ارتكاب «إسرائيل» جرائم حرب لم يمرّ عليها الزمن في فلسطين بعد انضمامها لمعاهدة روما.
بنيامين نتنياهو كان أصيب بصدمة بعد قبول طلب دولة فلسطين الانضمام إلى معاهدة روما . سارع إلى طلب النجدة من باراك أوباما الذي تجاوب معه بسرعة قياسية بإعلانه أن السلطة الفلسطينية ليست دولة ذات سيادة، وبالتالي فهي غير مؤهلة للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية .
المحكمة تجاوزت رفض نتنياهو وأوباما لها بإقرار صلاحيتها للنظر في طلبات للتحقيق تقدّمت بها فلسطين . ذلك أن فلسطين أضحت دولة بقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بقبولها دولة لها صفة المراقب لديها . الإقرار بصلاحية المحكمة يوليها الحق ببدء تحقيق قضائي دولي يضع قيادات "إسرائيلية" عدّة أمامها بتهم ليس أقلها ارتكابها جرائم حرب في الاعتداءات على غزة، كما بتنفيذها أعمال استيطان في الضفة الغربية المحتلة، وتعذيب المعتقلين، وتقييد الحريات . إلى ذلك، لن يمضي وقت طويل قبل أن تتقدم دولة فلسطين بطلب التحقيق أيضاً بقيام مسؤولين "إسرائيليين" بالامتناع عن تسليم السلطة الفلسطينية حصتها من الضرائب التي تجبيها حكومة "إسرائيل" لمصلحة السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة . ثمة موقفان في "إسرائيل" إزاء إقرار المحكمة الجنائية الدولية بصلاحيتها حيال طلبات تحقيق وادعاءات يجري تقديمها ضد المسؤولين "الإسرائيليين" . الأول، يقوده نتنياهو وأركان الشبكة الحاكمة، ويتعهد بمنع المحكمة من التحقيق مع ضباط وجنود "إسرائيليين" أو إطلاق أحكام بحقهم . الثاني، يدعو إلى التعقل والقبول بصلاحية المحكمة، وبالتالي الاستعداد قضائياً لمواجهة تحقيقاتها واتهاماتها، ومن ثم إعداد ملفات الشكاوى الممكن تقديمها بحق مسؤولين فلسطينيين عن مخالفات ارتكبوها بحق "مدنيين إسرائيليين" .
اللافت، أن وزارة الخارجية في تل أبيب استشعرت مؤخراً تدهور مكانة "إسرائيل" في الساحة الدولية، فعممت، بحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت" (13-1-2015)، وثيقة سرية تتضمن توقعات بأن تتعرض مكانة "إسرائيل" إلى مزيد من التدهور عالمياً، في حال استمرار الجمود السياسي إزاء الفلسطينيين وحقوقهم . كما تشير الوثيقة إلى احتمال تشديد المقاطعة الأوروبية للمنتجات من المستوطنات في الضفة الغربية والجولان المحتل، واحتمال تقلّص صادرات الأسلحة "الإسرائيلية"، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، واتساع رقعة المقاطعة الأكاديمية ل "إسرائيل" . أكثر من ذلك، تشير الوثيقة إلى أنه ليس واضحاً ما إذا كانت الولايات المتحدة ستواصل استخدام الفيتو في مجلس الأمن تأييداً ل"إسرائيل" بعد الانتخابات العامة للكنيست في شهر مارس/ آذار المقبل .
لعل هذه الوثيقة كانت أحد دوافع أستاذ القانون في جامعة تل أبيب إيال غروس، إلى نشر مقالة في صحيفة "هآرتس" (18-1-2015) يدعو فيها "إسرائيل" إلى استيعاب حقيقة واضحة، هي أن قواعد اللعبة قد تغيّرت . يقول غروس: "يجب أن يعرف قادة "إسرائيل" أن صلاحيات المحكمة تنبع من أحد ثلاثة: الانضمام إلى المحكمة (معاهدة روما)، أو قبول أحكامها، أو التوجه إليها من جانب مجلس الأمن الدولي ( . . .) . فلسطين انضمت إلى معاهدة روما وتستطيع طلب البحث فيما يجري على أرضها ( . . .) . إذا كان وزير الخارجية "الإسرائيلي" متفاجئاً من ذلك، فلأنه لم يستوعب بعد أن الموقف القضائي "الإسرائيلي" بشأن عدة مسائل، ابتداء من سياسة الجيش "الإسرائيلي" في غزة وصولاً إلى الاستيطان، بعيدة بأبعاد كثيرة بُعد الشرق عن الغرب بصدد الموقف المقبول عالمياً" .
حسناً، قد يستوعب القادة الصهاينة أن قواعد اللعبة قد تغيّرت، وأن تحقيقات قد تُجرى وأحكاماً قد تصدر عن المحكمة الجنائية الدولية بحق مسؤولين "إسرائيليين"، ولكن هل استوعب المسؤولون الفلسطينيون الحقائق الجديدة؟
لقد صدر في الماضي رأي استشاري عن محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن لا شرعية جدار الفصل الذي أقامته "إسرائيل" ضمن الأراضي المحتلة في الضفة الغربية، فهل عرف القادة الفلسطينيون كيف يستفيدون منه؟ كذلك صدر تقرير لجنة غولدستون الاتهامي بحق "إسرائيل" نتيجة حربها العدوانية الأولى ضد قطاع غزة، فهل تمكّنت السلطة الفلسطينية من توظيفه في مصلحة قضية فلسطين؟ ألم تطلب حذفه من جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف؟
هبْ أن أحكاماً بتجريم المسؤولين "الإسرائيليين" صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية، فهل بإمكان دولة فلسطين الاستفادة منها في مواجهة الكيان الصهيوني؟
ليس ما يشير إلى أن القيادات الفلسطينية في وضعها الراهن قادرة على الاستفادة بشكل فاعل من تدهور مكانة "إسرائيل" الدولية، أو من الأحكام التي يمكن أن تصدر عن المحاكم الدولية . السبب؟ لأن فلسطين، في ظل قياداتها الحالية، عجزت عن تحقيق الوحدة الوطنية، أو إعادة تنظيم وتفعيل منظمة التحرير، أو التفاهم على تأليف حكومة وطنية جامعة تمثل جميع الفصائل والجماعات الفلسطينية الفاعلة، أو التوافق على استراتيجية متكاملة تكون المقاومة المدنية، كما المقاومة الميدانية جزءاً من نضال موصول لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وبناء دولة مدنية ديمقراطية لكل الشعب الفلسطيني في وطنه وشتاته .
بكلمة، لم تشكّل فلسطين، حتى الآن، قوة وازنة، شعبية وسياسية، تفرض نفسها على المجتمع الدولي والرأي العام العالمي وتحمل القوى الحية فيه، كما الحكومات الأكثر تحسساً بعدالة قضية الشعب الفلسطيني، على اتخاذ المزيد من مواقف الدعم والتأييد من جهة، وتدابير المقاطعة السياسية والاقتصادية والأكاديمية ل "إسرائيل" من جهة أخرى.
الكرة الآن، كما دائماً، في ملعب الفلسطينيين والعرب.
المصدر: الخليج