تونس بين مصاعب تشكيل الحكومة وانتظارات الشعب
رغم أن تونس اجتازت مرحلة الانتقال الديمقراطي بنجاح، عبر إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في كنف من الديمقراطية والشفافية، التي مرّ عليها قرابة ثلاثة أشهر للأولى، وثلاثة أسابع للثانية، فإن البلاد لا تزال تعيش في ظل الحكومة المؤقتة الموروثة من المرحلة السابقة، مع تواصل معاناة المواطنين من جراء غلاء المعيشة، وتواصل المخاوف الأمنية والفوضى والانفلات في بعض المجالات، وتزايد المماطلة في تشكيل الحكومة الجديدة، وما رافقها من تمطيط في الفترة الانتقالية.
في الأعراف الديمقراطية، وطبقًا لمواد الدستور التونسي الجديد، فإن الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، والحال هذه، حزب نداء تونس، هو المعني بتشكيل الحكومة الجديدة بصرف النظر عن التحالفات التي يعقدها في سبيل الحصول على الغالبية المعنية التي سيحكم بها. لكن رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي الذي كان زعيما ل«حزب نداء تونس»، الفائز في الانتخابات الأخيرة، اختار المهندس الحبيب الصيد وهو سياسي مخضرم وخبير قديم في الشؤون الاقتصادية والأمنية لرئاسة «أول حكومة في عهد الجمهورية الثانية».
1- لماذا اختار «حزب النداء» سياسة التوافق مع حزب «النهضة» الإسلامي
العارفون بالشؤون السياسية التونسية يعتقدون أن تكليف رئيس الجمهورية السيد الباجي قايد السبسي، وزعيم نداء تونس، الحبيب الصيد، وهو وزير داخلية سابق في الخامس من الشهر الجاري بتشكيل حكومة -وينص الدستور على أن يشكل رئيس الوزراء حكومته في مدة لا تتجاوز الشهر- لترؤس الحكومة الجديدة، كان يهدف إلى قطع الطريق أمام بعض الأجنحة المتصارعة داخل حزب نداء تونس، التي باتت تمارس ضغوطات لفرض هذا المرشح أو ذاك. وجاء اختيار رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي، وأقرب المقربين إليه من المستشارين، ورئيس البرلمان السيد محمد الناصر لشخصية مثل الأستاذ الحبيب الصيد كرسالة واضحة للجميع، بأن الملفات الاقتصادية والأمنية والتنموية المطروحة هي التي يجب أن تحتل الأولوية بالنسبة لـ«سيد قصر القصبة الجديد»، ضمن تقاسم وظيفي: السياسة الداخلية والخارجية من مشمولات قصر قرطاج، والاقتصاد والأمن لقصر القصبة.
قد يحتل هذا التحليل جانبا من الحقيقة، لكن الجانب الأهم الذي لا يجب أن يكون مخفياً على أحد في رؤية المشهد السياسي التونسي، هو دخول مفهوم التوافق في الديمقراطية التونسية الناشئة. فمنذ أن فاز «حزب نداء تونس» في الانتخابات التشريعية، وزعيمه في الانتخابات الرئاسية، شنت حركة النهضة وحلفاؤها حملة سياسية تحذيرية قوامها العودة إلى إنتاج التغول في الحياة السياسية التونسية، عبر سيطرة الحزب الحاكم على مفاصل ومؤسسات الدولة: الرئاسة والبرلمان والحكومة. وكانت حركة النهضة تنادي دائما بتشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة توافق، وغيرها من المسميات. وكان بإمكان رئيس الجمهورية أن يكلف شخصية قيادية من حزبه السابق بتشكيل الحكومة الجديدة، وفق ما تقتضيه الأعراف الديمقراطية، لكنه فضل انتهاج سياسة التوافق، وعدم إقصاء أي طرف سياسي خصوصا الحزب الثاني حركة النهضة والعمل على عدم استبعاد الجبهة الشعبية، لكي يصبح بمقدور السيد حبيب الصيد المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة جمع أكبر عدد ممكن من الأحزاب حول حكومته أو فتح أبواب مصيرها بثقة أغلبية النواب.
هذا الخيار الجديد في تكليف شخصية سياسية من خارج حزب نداء تونس، لتشكيل الحكومة الجديدة، ولّد معارضة داخلية، لا سيما بين أقطاب الحزب الفائز في الانتخابات، التي ترفض مشاركة حزب النهضة في الحكومة الجديدة، كيف لا وأن الناخبين صوتوا لحزب نداء تونس، وللباجي قائد السبسي، من أجل قطع الطريق على عودة النهضة من جديد إلى الحكم. وإذا كان هذا الراي موجوداً بقوة داخل حزب نداء تونس، ويجد من يدافع عنه من القيادات النافذة، فإن الكلمة الأخيرة في موقف حزب نداء تونس، يحددها السيد الباجي قائد السبسي، الذي يجد نفسه منذ اجتماع باريس في 13 أوت 2013، عقب الأزمة السياسية الكبيرة التي شهدتها البلاد، والتي جمعته بالشيخ راشد الغنوشي بإشراف إقليمي جزائري، محكوما بما تمخض عنه ذلك الاجتماع، لا سيما الشراكة في الحكم. فهناك قسمات مشتركة تجمع بين حزب «النهضة» الإسلامي، الممثل لليمين الديني، وحزب «نداء تونس»، الممثل لليمين الليبرالي بشقيه الاقتصادي والسياسي، والذي بات يشكل استعادة لبقايا النظام السابق، حيث يتبين يوماً بعد يوم استعداد هذين الحزبين، لإدارة الحكم وفق صيغة جديدة.
في مواجهة هذا الوضع يتساءل المدافعون عن أهداف الثورة التونسية، ماذا نقول للأجيال التي ناضلت من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وحرية التعبير والتفكير وإرساء قواعد التعامل الديمقراطي وتكافؤ الفرص في الدّولة والأحزاب، ورفعت شعارات فصل الحزب عن الدولة، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وتكريس مفهوم دولة القانون والمؤسّسات. أي كل التقاطعات والشعارات والأحلام الموءودة التي طفت إثر 14 جانفي2011 وامتزجت بشعار الكرامة الوطنية كي تصبح رايات لبناء مستقبل البلاد والحفاظ على المكتسبات الّتي حقّقتها الأجيال السّابقة .فأين ربيع الشعارات الّتي حملتها الأجيال، بعد سنوات أربع في ربوع تونس والّتي تجمّعت كلّها حول بناء أسس الجمهورية الثانية؟
رغم أن بعض القيادات في حزب النداء ترفض جملة وتفصيلاً مشاركة حزب النهضة في الحكومة الجديدة، فإن أغلبية القاعدة لحزب النداء التي تتشكل من الدساترة والتجمعيين ومعظم القيادة من الروافد الأخرى، تلتزم بالخط الذي رسمه الباجي قائد السبسي بوصفه رئيسا للبلاد دون حسابات ودون تفكير في المحاصصات الحزبية. فالمهم المشاركة البناءة في بناء الجمهورية الثانية وفقا لما وضعه الدستور. ويرى المدافعون عن خط التوافق من قيادات حزب النداء، أن الشعب الذي غير الموازين لم يعط حزب النداء الأغلبية النيابية . وفي هذه الحالة لابد من التعايش أو التحالف أو التقارب لإعطاء مجال فسيح لعمل الحكومة التي صار في عهدتها تحقيق أهداف الثورة وما أكثرها !!ولو تحصل حزب نداء تونس على الأغلبية المريحة لكان الأمر مختلفا... لو كان ذلك كذلك لقدم حكومته من الأسبوع الأول ولشرع في العمل من اليوم الأول لإنجاز مشروعه الانتخابي بأولوياته وركائزه الأساسية .
و في حقيقة الأمر هذا ما يتم عادة في الديمقراطيات العريقة . من فاز بأغلبية يحكم ومن أخفق في الانتخابات يبقى في المعارضة إلى أن يأتي ما يخالف ذلك وذلك هو التداول على الحكم والسلطة ولكن لا يجب أن يغيب عنا أن الوضع في تونس غير هذا الوضع الواضح في الديمقراطيات الغربية. لقد خرجت تونس من أربع سنوات أنهكت الاقتصاد وأثقلت كاهل المواطن ونشرت الارهاب وحرّرت العقول والأفواه ولم يعد في استطاعة الشعب أن ينتظر.
فلا بد من الشروع في البناء بكل قوة وبوحدة صماء تجمع التونسيين والتونسيات في إطار حكومة توافقية. ولا لوم على نداء تونس وقد صرح رئيسه وقتها – السيد الباجي قائد السبسي الرئيس الحالي للجمهورية - أنه لا يقصي أحدا وسيتشاور مع الجميع.
2- تمرد داخل «حزب نداء تونس» بسبب مشاركة النهضة في الحكومة
برزت في الفترة الأخيرة معارضة داخل «حزب نداء تونس» جوهرها الحقيقي، يتمثل في رفض مشاركة حزب النهضة الإسلامي في الحكومة الجديدة. فقد ظهر انقسام حقيقي داخل حزب الأغلبية حول موضوع مشاركة النهضة في الحكم، فهناك قسم داخل النداء يرغب في تشريك النهضة في الحكومة بحجة تغليب مصلحة البلاد على المصلحة الحزبية الضيقة (رأي زعيم الحزب الباجي قايد السبسي ومحمد الناصر رئيس البرلمان، ومحسن مرزوق المستشار السياسي للرئيس ولزهر العكرمي والناجي جلول القيادات المؤسسة للحزب...) وهناك قسم آخر يرفض النهضة بحجة احترام القواعد ونتائج الانتخابات ورد الجميل لمن اختار الاقتراع الموجه أو الفعال ضد النهضة وإقامة التوازن الحزبي في البلاد (رأي النائب خميس قسيلة والمنذر بالحاج علي وخالد شوكات وعبد العزيز القطي....).
هذا التضارب في الرأي ولد تلاسنا علنيا واتهامات داخل قيادة الحزب لعل أشهرها إعلان خميس قسيلة في تصريح إذاعي أن «أكبر ضرر لتونس وللنداء تواجد محسن مرزوق ورافع بنعاشور في قرطاج». وفي هذا الصدد قال القيادي البارزلزهر العكرمي :إن حزب نداء تونس يحكمه «الاختلاف في الرأي والوحدة في المواقف»، وأوضح أن الآراء تختلف من قيادي إلى آخر وتتضارب، وأن البعض يتشنج أحيانا لكن يتم في النهاية التوافق حول موقف واحد. وقد قلل بالمناسبة من خطورة الاختلاف في الرأي قائلا إن الحزب عاش طيلة عمره العديد من الخلافات والعديد من التسويات والتوافقات وأن التسويات ستحصل حسب رأيه في القريب العاجل. وتشير بعض المصادر المقربة من الحزب الحاكم أن عدد الرافضين للنهضة أقل بكثير مما رُوِجَ إليه إعلامياً، وأنّ عدد النواب ذوي المرجعية الدستوريّة والتجمعية داخل حزب النداء يُناهز الخمسين وأنّ هؤلاء حزموا أمرهم في القبول بمشاركة النهضة اعباء الحكم ورفض إقصائها.
من الواضح أن برنامج حزب نداء تونس لا يتعارض كثيرا مع برنامج حزب النهضة، إذ يتفق هذا الأخير وحلفاؤه من جهة، وحزب «نداء تونس» وأغلب حلفائه من جهة ثانية، على نموذج الاقتصاد الليبرالي، والانخراط في نظام العولمة الليبرالية. فكما هو معروف يتبنّى حزب «نداء تونس» ومجمل القوى الليبرالية المتحالفة معه والتي يمكن أن تحذو حذوه نمطاً عصرانياً حداثياً للمجتمع يُكَرِّسُ مفهوماً خاصاً للحريات العامة والفردية على الطريقة الغربية بمضمونها البرجوازي الاستهلاكي، والذي يبقى قابلاً للتكييف والتطويع ما بين الطابع الديمقراطي الليبرالي والشكل الاستبدادي حسب تقلب موازين القوى .
بينما تعمل حركة النهضة وكل القوى المتغلفة بالدين وطائفة من الأحزاب المتحالفة معها والقريبة منها، علاوة على تمسكها بالخيارات الليبرالية المملاة من الدوائر الغربية الأوروبية والأميركية، على فرض نموذج جديد على المجتمع التونسي يقوم على قيم محافظة تجاوزها الزمن يريدون إحياءها وتفعيلها في العلاقات الاجتماعية العامة .
هناك مجموعة من الأسباب التي جعلت «حزب نداء تونس» يذهب لتشكيل حكومة توافقية تشارك فيها حركة النهضة: أولاً، حجم التحديات الداخلية، لا سيما الاقتصادية والأمنية التي تواجه أية سلطة قادمة. وثانياً، استخلاص حزب النداء الدروس من تجربة حكم «الترويكا» واستفراد النهضة بالحكم وما آلت إليه من صدامات وفشل واحتقان اجتماعي وضريبة سياسية، فيها من اندثر وفيها من تراجع حجمه في المشهد السياسي. وثالثاً، الابتعاد عن شبهة التغول والاستفراد بكل مفاصل الدولة والحكم.
ولذلك اختار حزب الأغلبية داخل مجلس الشعب منهجية معقدة في تشكيل الحكومة تهدف إلى تحقيق غايتين أساسيتين هما محاولة بناء حكومة قوية تحظى بأكبر غطاء ورضاء سياسي من ناحية، وعدم تحمل نداء تونس المسؤولية السياسية لوحده خلال المرحلة القادمة أو الوقوف أمام إمكانية حصد نتائج الانتخابات المقبلة التي قد تعصف به كحزب إذا عجز عن إدارة المرحلة بنجاعة. ولما كان حزب النداء مقبلاً على إجراء إصلاحات كبيرة في البلاد، فإنه يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء البرلمان لتمريرها، وبالتالي يحتاج إلى غطاء سياسي موسع ومتنوع يسنده ويدافع عن برنامج الحكومة المقبلة، من أجل تحقيق الإصلاحات الهيكلية التي عجزت الحكومات المتعاقبة على التجرؤ عليها رغم ضرورياتها واستعجاليتها ومن غير الممكن الاستمرار في هذا الوضع في السنوات الخمس المقبلة، لا سيما أنه لا يوجد اختلاف كبير في برنامجي النهضة والنداء باستثناء الجانب الثقافي على غرار الجبهة الشعبية التي يعكس برنامجها اختلافا عميقا بينها وبين الحزبين المحتلين المراتب الأولى.
هناك رأي عام تونسي، هو في معظمه ينتمي إلى مكونات المجتمع المدني الحديث ينظر بمنظور سلبي جدا، للطريقة المتبعة في تشكيل الحكومة الجديدة، باعتبارها نفس طريقة المحاصصة الحزبية التي اتبعتها الحكومات السابقة في عهد حكم «الترويكا» بقيادة حزب النهضة الإسلامي، والتي أثبتت إخفاقها المدوي في معالجة المعضلات الاستراتيجية التي قامت عليها الثورة فتركتها في مرتبة ثانوية وهو مؤشر سيئ للغاية. وفضلاً عن ذلك، يعتقد الرأي العام التونسي الآنف الذكر أن عودة حزب النهضة إلى الحكم من خلال الشراكة القائمة بينه وبين «حزب نداء تونس» في الحكومة الجديدة، يشكل إحباطاً جديداً للآمال وللطموحات التي حملها الناخب والشارع السياسي التونسي من خلال تصويته المفيد ل«حزب النداء وللباجي قائد السبسي .و إذا كان لهذا التوافق –التحالف بين حزبي «النداء» و«النهضة» من جدوى على مستوى المنظور لجهة تشكيل حكومة وحدة وطنية تحقق الاستقرار السياسي، فإن نتائجه السياسية ستكون مدمرة على «حزب النداء» في المستقبل باعتبار أنه بنى شرعيته وخطابه ووجوده على التضاد مع مشروع «حزب النهضة»، سياسياً وأيديولوجيا واجتماعياُ، لا سيما أن هذا التحالف من وجهة نظر الأخلاق السياسية والرأي العام يعتبر تحالفاً مدمراً وقاتلاً لصورة «حزب نداء تونس» في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
أما الجبهة الشعبية، فقد أبدت مُنذ تكليف الحبيب الصّيد بمنصب رئاسة الحكومة تحفظاتها إزاء هذه الشخصية، معتبرة أنه يعد «وجها من وجوه المنظومة القديمة وأنه لن يقدّم الجديد في كل ما يتعلق من ملفات عالقة وعاجلة على غرار الأمن وملف الاغتيالات السّياسية والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعية»، وأبدت أيضاً رفضها ومعارضتها تشريك حركة النهضة في الحكومة الجديدة. وقال القيادي بالجبهة الشعبية، زياد الأخضر، في هذا الصدد : أن «موقف الجبهة واضح فهي تعتبر أن وجود النهضة في الحكم لا يخدم مصلحة تونس في اللحظة الراهنة، وأن التونسيين بتصويتهم الكثيف لنداء تونس تصوروا أنه سيحمي البلاد من حركة النهضة، وما ألحقته بها من خسائر طيلة فترة حكمها». إن «حركة النهضة متشبثة بالحكم مهما كانت الخيارات ومهما كان الحلفاء». وأضاف الأخضر أن «موقف حركة النهضة دليل قاطع على ازدواجية الخطاب السياسي لديها، فبعد أن كانت تقر، فيما مضى، بأن حركة «نداء تونس» أخطر حتى من السلفية ذاتها، وأنها وجه آخر من أوجه النظام السابق، ها هي اليوم تقبل بالتحالف معها وبالمشاركة في حكومتها».
3- الحكومة التحديات التي تواجه الحكومة
إلى حد الآن، لم يعلن في تونس عن تشكيل الحكومة الجديدة، ويبدو أن المشاورات جارية على قدم وساق من أجل الانتهاء من تشكيلها وعرضها على مجلس النواب يوم 27 جانفي الجاري لنيل ثقة نواب الشعب. ولو تمعنا جيدا في الوضع ما قبل الإعلان عن الحكومة لاتضحت صبغة المحاصصة الحزبية، فـ«حزب نداء تونس» قدره أن يحكم لكنه مشتت بين خيارات التحالفات وبين أن يكون بديلا بين الحكم في إطار التوافق أي محاولة التأليف بين المتناقضات، بين الفشل المجسد في النهضة أحد أبرز أركان الترويكا السابقة وبين الحماس للنجاح الذي نجده مجسدا لدى آفاق تونس، بين تهافت أحزاب على الحكم مثل الوطني الحر وضبط نفس تجاهه على طريقة الجبهة الشعبية. النهضة التي قبلت المشاركة في الحكومة الجديدة حتى لا تبقى في المعارضة حسب بيان مجلس الشورى اشترطت تحييد وزارات السيادة: العدل، والداخلية، والخارجية، والدفاع، وهي التي يفترض أن يتولى أغلبها نداء تونس الحزب الأول في الانتخابات التشريعية، لكن تحييدها يعيدنا مرة أخرى إلى مربع سابق يوم كان الحوار الوطني يسعى لإنقاذ البلاد وتشكيل حكومة تخلف حكومة الترويكا، وهنا تعيد النهضة فرض هذا المقترح/ الشرط وربما لديها أسبابها.
ففي آخر الأخبار المتعلقة بتشكيل الحكومة الجديدة، يبدو أن حزب الاتحاد الوطني الحر الذي يقوده الميلياردير سليم الرياحي، والحاصل على 17 مقعدا في البرلمان، لن يكون داخل التشكيلة الحكومية الجديدة، بينما نجد «حزب آفاق تونس» الذي يتبنى الليبرالية المتوحشة، والحاصل على 8مقاعد في البرلمان، حاضرا بقوة في الحكومة الجديدة بثلاث حقائب وزارية، ومن المرجح إلى أربع، وبحضور قيادات بارزة في الحزب على رأسها أمينها العام ياسين إبراهيم والذي سيتولى الإشراف على وزارة في غاية من الحساسية: وزارة التربية، وسوف يكون معه أيضاً سميرة المرعي (وزارة المرأة) ونعمان الفهري، وقد يلتحق بهذا الثالوث فوزي عبد الرحمان في وزارة الفلاحة أو في وزارة التجارة.
أما بالنسبة للوزارات السيادية، قد تأكد بصفة رسمية، إسناد حقيبة وزارة الداخلية إلى رفيق الشلي الذي شغل منصب الإدارة العامة للأمن الوطني... أما حركة النهضة فستكتفي على الأرجح، بأربع كتابات للدولة، وهكذا يكون حضورها العددي هاما نسبياً، دون أن تحتل المواقع الأولى في التشكيلة الحكومية. أما القيادات من «حزب نداء تونس»، فلها نصيب الأسد، إذ أسندت وزارة الخارجية إلى الأمين العام للحزب السيد الطيب البكوش، الأمر الذي يؤكد لنا أن ملف السياسة الخارجية سيكون من اختصاص الرئيس عبر التعاطي بشكل مباشر مع وزير الخارجية، فيما أسندت وزارة النقل إلى السيد لزهر العكرمي، والتكنولوجيا إلى سعيد العابدي.
ولاشك أن الرئيس الجديد لتونس السيد الباجي قائد السبسي سيوسع صلاحيات رئيس الجمهورية ولن يختزلها في الإشراف على المؤسستين العسكرية والديبلوماسية، على حد القيادي في حزب نداء تونس الأستاذ بوجمعة الرميلي المدير التنفيذي الجديد للحزب.. وهناك تصريحات أخرى للسيد محسن مزروق ـ المستشار السياسي الجديد في قصر قرطاج، تقول ـ أن «الرئيس التزم بأن يكون رئيسا لكل التونسيين والتونسيات بما في ذلك الذين لم ينتخبوه وهو ما يعني اضطلاعه بدور سياسي أكبر ومسؤول عن تكريس الوحدة الوطنية». ويعتبر تعيين «خبير في التنمية الاقتصادية والجهوية والشؤون الزراعية والأمنية» على رأس الحكومة الجديدة مؤشرا إضافيا على أن الملفات السياسية والديبلوماسية والعسكرية ستكون أساسا من أنظار الديوان الرئاسي بينما، ستكون أولوية الحكومة محاولة رفع التحديات الاقتصادية الاجتماعية والأمنية.
الامتحان الحقيقي للحكومة الجديدة يتمثل في قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية في شقيها الاقتصادي والأمني التي تعاني منها تونس. فهل ستقدم الحكومة الجديدة «حلولاً سحرية» للأزمة الاقتصادية الناجمة بصورة رئيسة عن وصول الأنموذج التنموي السابق الذي كان سائدا منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن إلى مأزقه الأخير مع اندلاع الثورة، الأمر الذي بات يتطلب من حكام تونس الجدد، انتهاج خيار جديد من التنمية قادر على تحقيق نسب نمو مرتفعة، لا يدفع المواطن البسيط فاتورته من «دمه».
لكن المراقب للمشهد السياسي التونسي، يلمس بوضوح، أن الأطراف الأساسية التي تتكون منها هذه الحكومة الجديدة، تتبنى نهج الليبرالية، وبالتالي فإن الحكومة الجديدة موضوعة –رغم إرادتها- أمام خيارات صعبة، لا سيما فيما يتعلق بتطبيق الإصلاحات الهيكلية التي تشترطها المؤسسات الدولية المانحة (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية) لمعالجة الواقع الاقتصادي التونسي .
فالحكومة الجديدة ستسير في نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية المتوحشة، والحال هذه، فهي ستسير في نفس النهج الاقتصادي، ونفس منوال التنمية التي سارت فيه معظم الحكومات التونسية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي ولغاية جانفي 2015، بصرف النظر عن طبيعة النظام التي اشتغلت تحت لوائه هذه الحكومات المتعاقبة. وهذا النهج الاقتصادي القديم – الجديد يتناقض بصورة جذرية مع أهداف الثورة التونسية: المتمثلة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وانتهاج تونس أنموذج جديد للتنمية يحمي القدرة الشرائية للمواطن، ويسمح بتكوين الثروة، وتطبيق مبادئ السوق الاجتماعي، وإنقاذ البقية الباقية من الطبقة المتوسطة عماد أي اقتصاد قوي في العالم.. أنموذج من التنمية جديد قادر على إخراج تونس من الوضع الاقتصادي المتأزم، ويكون قادراً على مواجهة «غول» الفقر الذي بات يضرب الطبقات الشعبية، والشرائح المتوسطة والدنيا من الطبقة المتوسطة.
المصدر: صحيفة الشرق