القاعدة البريطانية في البحرين: عودة الاستعمار إلى «شرق السويس!»

القاعدة البريطانية في البحرين: عودة الاستعمار إلى «شرق السويس!»

في العام 1971، كرّس إغلاق القاعدة البحرية البريطانية في البحرين أفول مرحلة الاستعمار التقليدي، أقله من الناحية الرمزية، وقد جاء ذلك تتويجاً لكفاح طويل خاضته شعوب العالم، في إطار معركة التحرر الوطني، التي كان الوطن العربي جبهة أمامية لميدانها، بدءاً بلبنان وسوريا والعراق، مروراً بمصر والجزائر، وصولاً إلى دول الخليج.

وبعد 43 عاماً من هذا الحدث، وغداة عقود من التحولات الجيوسياسية شهدها العالم، وكان أشدها زلزال انهيار الاتحاد السوفياتي في مثل هذا اليوم من العام 1991، وما أعقب ذلك من احادية قطبية اسهمت في عودة الاستعمار الى الوطن العربي بمسمّيات جديدة، يأتي الاتفاق البريطاني ـــ البحريني المتعلق بإقامة قاعدة عسكرية للبحرية الملكية في المنامة بمثابة خطوة رمزية جديدة، تعكس ما آلت اليه أحوال العرب الذين تُستباح أجواؤهم وأراضيهم ومياههم كل يوم.
ويمثّل الاتفاق البريطاني ــ البحريني، الذي يسمح للبحرية الملكية بالعودة الى الخليج بقاعدة عسكرية ضخمة، وبميزانية تقارب 23 مليون دولار أميركي (ستدفع السلطات البحرينية 80 في المئة منها)، رسالة بريطانية تصب في اتجاهات عدة، أبرزها إيران، خصوصاً أن هذه القاعدة البحرية ستجهّز بحاملة طائرات أو أكثر.
وستشكل القاعدة موطئ قدم عسكرياً محورياً للغربيين الى جانب القاعدة العسكرية التي تستخدمها البحرية الاميركية كمركز قيادة للأسطول الخامس في البحرين، الى جانب قواعد عسكرية اخرى منتشرة في دول خليجية عدّة، ابرزها قطر والكويت.
ووقع الاتفاقية عن الجانب البريطاني وزير الخارجية فيليب هاموند وعن الجانب البحريني وزير الخارجية خالد آل خليفة، وذلك على هامش «قمة التعاون الأمني»، المعروفة بـ«حوار المنامة».
وبالرغم من ان بعض المحللين الغربيين يرون ان الاتفاق البريطاني ـ البحريني عديم الجدوى من الناحية العسكرية العملانية، وخصوصاً في ما يتعلق بالهدف المعلن من قبل لندن والمنامة، وهو حماية الأمن الإقليمي من التهديدات المحدقة، فإنّ آخرين رأوا أن للخطوة أبعاداً إستراتيجية، تتعلق بتوزيع الأدوار على المستوى الدولي بين بريطانيا وحليفتها على الضفة الأخرى من الأطلسي، الولايات المتحدة، التي تسعى خلال المرحلة المقبلة الى نقل تموضعها العسكري شرقاً، نحو آسيا، لاحتواء التنين الصيني.


«تواجد مستمر»
وبحسب وزارة الدفاع البريطانية، فإن الاتفاقية العسكرية ستسمح بتحسين المنشآت الموجودة في ميناء سلمان في البحرين، حيث تتمركز لبريطانيا أربع سفن حربية بشكل دائم، على ان يتم توسيع القاعدة العسكرية كي تشمل مركز عمليات جديداً ومتقدماً، ومنشآت لتخزين المعدات للعمليات البحرية وإيواء أفراد البحرية الملكية البريطانية.
وفي هذا الإطار، أكد وزير الدفاع مايكل فالون أن «هذه القاعدة تشكل توسعاً دائماً للبحرية الملكية وستسمح لبريطانيا بإرسال سفن أكبر لتعزيز استقرار الخليج»، وأضاف «سنتمركز من جديد في الخليج لفترة طويلة».
وفي كلمة ألقاها أمام منتدى «حوار المنامة،، قال هاموند إن الاتفاقية ستسمح بتوسيع وجود قوات بلاده في المنطقة، بما يكفل لبريطانيا بالاحتفاظ بسفنها وطواقمها في «منشآت دائمة»، معتبراً أن الاتفاق مؤشر على «التزام» بريطانيا بالتواجد بشكل «مستمر» في «شرق السويس».
ولعبارة «شرق السويس»، التي استخدمها وزير الخارجية البريطاني، وكذلك زميله وزير الدفاع في اكثر من مناسبة، رمزية كبيرة، فهي تشير الى ما يعرف بـ«قرار شرق السويس» الذي اتخذته الحكومة البريطانية في العام 1968، الذي شكّل علامة فارقة إبان القوة الاستعمارية التي تمتعت بها بريطانيا سابقاً، وأغلقت بموجبه قواعد بريطانية في شرقي قناة السويس بحلول العام 1971.
بدوره، أكد وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة أن بلاده «تتطلع إلى تطبيق الاتفاق ومواصلة العمل مع بريطانيا والشركاء الآخرين لمواجهة التهديدات للأمن الإقليمي»، موجهاً في الوقت ذاته اتهاماً لإيران بـ»العمل مع وكلاء وأشخاص يحملون السلاح في المنطقة»، ومؤكداً ان الخلافات بين «دول مجلس التعاون الخليجي وإيران لا تقتصر على الملف النووي، بل إن هناك «خلافات خطيرة بشأن التدخل الإيراني السافر في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية».
التصويب على إيران لم يقتصر على الوزير البحريني، بل تعداه إلى هاموند، الذي دعا إلى موقف أكثر تشدداً في المفاوضات النووية مع إيران، قائلا إن على الدول الغربية أن تختار «المثابرة بديلاً عن المواءمة» في هذه المفاوضات، وأن تدعّم «موقفها المبدئي» بشأن تخصيب اليورانيوم بدلاً من «الإذعان لإغراء تقديم تنازلات تفتقر للحكمة في سبيل إبرام اتفاق» نووي.


توزيع أدوار
ولكن ما جدوى إنشاء القاعدة البريطانية الجديدة؟
في تقرير نشرته «صنداي تلغراف»، رأى ريتشارد سبنسر أن «القاعدة الجديدة تمثل عودة قوية لبريطانيا في منطقة شرق السويس والخليج العربي وهي خطوة إستراتيجية للبحرية الملكية البريطانية».
ونقل سبنسر عن هاموند قوله إن «بريطانيا وفرنسا تتجهان الى تولي مزيد من المسؤوليات الأمنية بشكل أوسع في منطقة الشرق الأوسط تزامناً مع تزايد التركيز الاميركي على آسيا»، موضحاً «بينما تركز الولايات المتحدة بشكل اكبر على مناطق آسيا والمحيط الهادئ فمن المنتظر ان تتولى بريطانيا وشركاؤها في اوروبا مزيداً من الاعباء الامنية في الخليج والشرق الادنى وشمال أفريقيا».
يذكر ان صحيفة «التايمز» سبق ان ذكرت، في تقرير نشرته في ايلول الماضي، ان بريطانيا تسعى لتعزيز وجودها العسكري في الخليج، وذلك في إطار «إعادة رسم الإستراتيجية العسكرية البريطانية بعد الخروج من أفغانستان، وإعادة توزيع القوات البريطانية في البؤر المهمة حول العالم». وأشارت «التايمز» حينها إلى ان «فرنسا سبق أن افتتحت قاعدة عسكرية في الامارات في 2009، ضمن خطة لم تكتمل للانتشار العسكري في الخليج، وتعتبر تلك القاعدة هي الأولى لفرنسا خارج أفريقيا».
ويعكس ذلك سياسة «أطلسية» لإعادة توزيع الأدوار على المسرح العالمي، في مواجهة التحالف القائم بين روسيا والصين، وهو ما يمكن رصده من خلال تصريحات وزير الدفاع البريطاني.
اما الكاتب باتريك كوكبورن فرأى، في تقرير نشرته «اندبندنت اون صنداي» أن القاعدة البحرية في البحرين ستستخدم لدعم عمليات سلاح الجو البريطاني ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، ولكنها تأتي على نطاق ضيق لن يفعل الكثير للتأثير على الارتدادات المحتملة من الحرب على «داعش».
ورأى كوكبورن أن أغلب الكوارث البريطانية في الشرق الأوسط خلال القرن الماضي، أتت من رغبة بريطانيا في أن تكون لاعباً أساسياً، في ظل سوء تقدير للموارد والخطوات الصحيحة المطلوبة للقيام بذلك.
وذكّر كوكبورن، بالتدخل البريطاني في العراق في العام 2003، حيث اشار الى ان القوات البريطانية لم تنجح في السيطرة على مدينة البصرة، عازياً الفشل البريطاني إلى وجود فشل سياسي في تقدير ما قد تواجه هذه القوات من مقاومة شعبية، وهو الأمر الذي تكرر في إقليم هلمند في جنوب أفغانستان بعد العام 2006.
أما «صنداي تلغراف» فرأت، في معرض قراءتها للاتفاق البريطاني ـ البحريني، أن الاتفاقية البريطانية - البحرينية تؤكد أن «القواعد القديمة الحاكمة لمنطقة الشرق الأوسط، تتهاوى».
وأشارت «صنداي تلغراف»، في تقرير لرئيس مراسلي الشؤون الخارجية ديفيد بلير، إلى ان من بين هذه القواعد القديمة قرار إغلاق بريطانيا قواعدها في شرق السويس، في عام 1971، قبل أن تقرر إعادة بنائها في البحرين مرّة اخرى.
ولفت بلير الى ان الخليج العربي أصبح يعج بمليارات الجنيهات من الاستثمارات البريطانية والصادرات، فضلا عن كونه موطناً لنحو 175 ألف مغترب بريطاني على أقل تقدير، ما يجعل المملكة المتحدة معنية بأي كارثة مفاجئة قد تحدث في هذه المنطقة، مشيراً الى ان الحكومة البريطانية ترغب في أن تكون على استعداد لأي كارثة محتملة بأن تكون لها قوات مسلحة هناك.
ورأى بلير أن هذه القاعدة البحرية الجديدة لن تكون ذات منفعة في الحملة الجوية الحالية ضد «داعش»، لكنها ستسمح لبريطانيا بنشر المزيد من السفن الحربية في منطقة الخليج، بما في ذلك حاملات الطائرات الجديدة العملاقة الخاصة بالبحرية الملكية البريطانية.
وأضاف أن الاتفاق بين لندن والمنامة يسمح لبريطانيا ببسط نفوذها في منطقة حيوية بأقل حد أدني من النفقات، خصوصاً أن الحكومة البحرينية تكفلت بفاتورة إعادة بناء القاعدة البحرية، في حين تقتصر مسؤولية وزارة الدفاع البريطانية على تأمين تكاليف التشغيل فحسب.


مكافأة على «القمع»
ويبقى السؤال، لماذا تتحمل البحرين تكلفة هائلة على بناء قاعدة عسكرية أجنبية، وبريطانية بالذات؟
لا شك ان الامر ينطوي على سببين، اولهما الاستقواء بالغرب ضد إيران، والثاني تأمين غطاء دولي للقمع الذي يمارسه النظام ضد المعارضين.
وفي هذا الإطار، رأت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أن إنشاء القاعدة العسكرية هو مكافأة للحكومة البريطانية جراء الصمت على التعذيب والاعتداءات والاعتقالات التعسفية.
وذكرت الصحيفة بأن الولايات المتحدة وبريطانيا دعمتا النظام البحيرني لقمع احتجاجات الغالبية الشعبية بعنف.
واعتبر «ائتلاف شباب الرابع عشر من فبراير»، الذي يمثل الحراك الشعبي في البحرين، أن «الاتفاقيّة السوداء»، تكشف «مدى عمق الارتماء الكامل للكيان الخليفيّ في أحضان الاحتلال والاستعمار الأجنبيّ»، معتبراً أن الهدف منها هو «حماية العرش الخليفيّ»، ومؤكداً أن «الاحتلال قد عاد إلى البحرين».
من جهته، كرر سبنسر عبارة هاموند امام مؤتمر المعهد الدولي في البحرين بخصوص ملفات المنطقة، حين قال إن «أمنكم هو أمننا»، مستدلاً بهذه المقولة على إصرار بريطانيا على توطيد علاقاتها بالأنظمة الحاكمة في الخليج.

«لا تنسحب امة للأبد». عبارة لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر استحضرها ديفيد بلير، ليشير الى انه في عمليات الانسحاب من المستعمرات انشغلت بريطانيا بإغلاق قاعدة عسكرية بعد الأخرى، ولكن في لحظة حرجة، أعلن وزير الخارجية فيليب هاموند إلغاء قرار هارولد ويلسون في العام 1968، الذي قضى بإغلاق كل قاعدة عسكرية في المناطق الواقعة شرقي قناة السويس... «بجرّة قلم!»

 

 

المصدر: السفير