«وكالة الأناضول للأنباء»: القوّة التركيّة «الناعمة»
ربى الحسيني ربى الحسيني

«وكالة الأناضول للأنباء»: القوّة التركيّة «الناعمة»

ليس باستطاعة أنقرة الاكتفاء بدهاء سياسييها لتفرض نفسها مجدّداً، كإحدى القوى البارزة في تحديد مستقبل المنطقة العربية. وقد شكّل الصعود القوّي لـ«وكالة الأناضول التركية» خلال السنوات القليلة الماضية عاملاً أساسياً في تعزيز الحضور التركي. ونجحت الوكالة بقسمها العربي في فرض نفسها كإحدى مصادر الأنباء الأساسيّة في المنطقة

وبرز ذلك في أمثلة عدّة بدءاً من سوريا، مروراً بمصر، وصولاً إلى أزمة العسكريين المختطفين في عرسال اللبنانية.
لا ينطبق ذلك على «وكالة الأناضول» وحدها، فقد برزت أيضاً مواقع إخبارية تركية ناطقة باللغة العربية مثل «يني شفق»، وجريدة «زمان عربي»، كما تنشط وكالات تركية أخرى في الدول العربية مثل وكالتي «دوغان»، و«جيهان»، والأخيرة تابعة للجبهة الإسلامية بقيادة فتح الله غولن، عدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأول حالياً. لكنّ «الأناضول» تبقى الأكثر تأثيراً وحضوراً، والأكثر إثارة للجدل أيضاً، بعد ما تردّد من أسئلة مؤخراً حول توسعها ودورها، وحتى مصادر أخبارها.

16 مكتباً عربياً

تأسّست «وكالة الأناضول» في العام 1920، وقد وضعت لنفسها اليوم هدفاً، أن تصبح بين أهم خمس وكالات أنباء إخبارية في العالم، بحلول العام 2020. وتسعى الوكالة لبثّ خدماتها بـ11 لغة مختلفة لدى بلوغها عامها المئة. وبما أنّها وكالة أنباء رسمية، فمن البديهي أن تتبع «الأناضول» خطّاً تحريرياً يتناسب وسياسة الحكومة التركيّة. لكنّ المفاجئ أنّ الوكالة تعتبر نفسها «مستقلّة بنسبة 90 في المئة عن القرار الحكومي، وإن كانت تضع مصلحة تركيا أولوية لها»، كما يقول مدير مكتبها في بيروت أيوب جوشكان لـ«السفير».
تنشط الخدمة العربيّة للوكالة عبر مكتبها الرئيسي في القاهرة، إلى جانب 15 مكتباً موزّعاً في دول عربيّة أخرى، يعمل فيها نحو 200 موظّف بين مراسلين ومصوّرين وإداريين. تواجد المكتب المركزي للوكالة في العاصمة المصريّة، يثير الاستغراب، نظراً للعلاقة المتوترة بين الحكومتين التركية والمصرية، إثر عزل الرئيس المنتمي الى جماعة «الإخوان المسلمين» محمد مرسي. وبحسب جوشكان، ترسل كافة المكاتب المنتشرة في المدن العربيّة موادها وأخبارها إلى مكتب القاهرة، حيث يتمّ تحديد ما إذا كانت صالحة للنشر، أو ما إذا كانت تستوجب إجراء تعديلات تحريريّة طفيفة عليها، ولكن «من الممكن القول انه يتم نشر 95 في المئة تقريباً من تلك المواد».

السياسة وحدها لا تكفي

ومن السهل على أي مطلع على التغييرات الأخيرة حولنا أن يربط بين النزوح الإعلامي التركي إلى منطقتنا، وبين تطلعات أنقرة الساعية إلى المزيد من النفوذ. لا ينفي جوشكان ذلك، بل يقول إنّ «هذا التطور له علاقة بالسياسة التركية». ويضيف: «تواصل تركيا تعزيز علاقاتها مع الدول العربية على مختلف الصعد، السياسي منها والاقتصادي بشكل خاص، ففي السابق لم يكن لرجال الأعمال أي علاقات مع بعض الدول الإفريقية أو الشرق أوسطية. وفي السنوات العشر الماضية (وهي تحديداً سنوات حكم اردوغان وفريقه من حزب العدالة والتنمية) حصلت تغيرات كثيرة. والسياسة لا تكفي وحدها لبناء علاقات جيدة مع تلك الدول، ومن هنا تنشط المنظمات التركية غير الحكومية، ووكالات الأنباء التركيّة أيضاً».
خلال زيارته إلى مكتب الوكالة في العاصمة المغربية الرباط الأسبوع الماضي، أكد نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورتولموش أوغلو أن «افتتاح وكالة الأناضول للأنباء مكاتب لها في عواصم عربيّة عدّة، يعزّز الحضور التركي في هذه البلدان»، وأنّ هذا الانفتاح الإعلامي «يظهر جلياً تطوّر تركيا وقوتها على الصعيد الدولي».
ولأنّ الطموحات التركية لا تقتصر على الدول العربية، تسعى الوكالة أيضاً للتوسع في القارة السمراء أيضاً، إذ افتتحت مؤخراً مكتباً لها «في إثيوبيا وسيفتتح آخر في السنغال ودول إفريقية أخرى»، بحسب جوشكان.

مصدر من «النصرة»

تنشط خدمة «الأناضول» العربيّة، في منطقة تتنازعها الحروب والتفجيرات والهجمات «الإرهابية»، منطقة تحوّلت إلى أرض خصبة لدول «الخلافة والولايات»، ذلك ما جعل خطّها التحريري مثار جدل دائم. ففي لبنان مثلاً، يبدو دور الوكالة محاطاً بالشكوك، خصوصاً بعدما نشرت معلومات حول قضية العسكريين المخطوفين في عرسال بالاعتماد على مصدر من «جبهة النصرة».
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ أنقرة أدرجت «النصرة» على لائحتها للتنظيمات الإرهابية في شهر حزيران / يونيو الماضي. كما تنصّ المبادئ الأخلاقية لـ«وكالة الأناضول» على «الامتناع عن نشر الأخبار التي تشكّل دعاية مباشرة أو غير مباشرة للمنظمات الإرهابية»، إضافةً إلى «نشر الأخبار المتعلقة بالهجمات الإرهابية وأحداث العنف من دون تهويل، وبناء على معلومات موضوعية، مع إسنادها إلى مصدر مسؤول، كلما كان ذلك ممكناً».
يقول جوشكان إنّه فوجئ بالانتقادات التي لاحقت وكالته وخاصة مكتبها في بيروت، بعد نشر خبر العسكريين المخطوفين. ويقول إنّه على كل وسيلة إعلامية مهنية أن تبحث عن المصدر، وتنشر الخبر إذا تأكدت من مصداقيته، وليس هناك في هذا المجال أي فرق بين مؤسسة خاصة وأخرى حكومية. وبالتالي لا يمنع تصنيف «النصرة» كتنظيم إرهابي الوكالة التركية الرسمية من التواصل معها إذا لزم الأمر. ويضيف جوشكان في هذا السياق: «نحن نعمل بمهنية، وكوننا وكالة حكومية لا يمنعنا من التطرّق إلى قضايا مرتبطة بالنصرة مثلاً، ما نقوم به هو تماماً ما يفعله الصحافيون المهنيون، إن كان لديهم مصدر موثوق. على سبيل المثال زميلنا في مكتب دمشق، لديه مصادر جيدة داخل النظام، الأمر ذاته ينطبق على الجهات الأخرى ومنها النصرة».
ولكن هل الأمور حقاً بهذه البساطة؟ فمن السهل على من يقرأ خبراً نقلته «الأناضول»، عن مصدر في «النصرة»، أن يربط الأمر بما يتمّ تداوله عن دعم تقدمه الحكومة التركية لتلك الجبهة تحديداً، بين تنظيمات ومجموعات أخرى تقاتل في سوريا. هنا، يعود جوشكان ويؤكد، «أنّ السياسة التحريريّة للوكالة مستقلّة بنسبة 90 في المئة، وان كان مجلس إدارتها يضمّ ممثلين حكوميين». ويقول «على الأرض، لا نتلقى أي أوامر حكومية، نحضر أجندتنا الخاصة بنفسنا. لا نسأل المركز الرئيسي في تركيا ان كان علينا ان نغطي هذه القصة او لا، ولكننا نعرف دورنا وحدودنا». يبدو أنّ هذا الدور وهذه الحدود مرسومة بوضوح في القاهرة اليوم.

حذر في مصر

يمكن القول إنّ وكالة «الأناضول» أصبحت أشبه بالمتحدث الرسمي باسم النظام «الاخواني» في مصر، سواء في عهد محمد مرسي، أو في الفترة التي تلت عزله مباشرة. أحياناً، كانت الوكالة تبدو وكأنّها ترفع «إشارة رابعة» الشهيرة، مع الرئيس أردوغان. لكنّ الأمور لم تبق على حالها، وبدت الخدمة العربيّة من «الأناضول» مدركةً للتغييرات الجذرية التي كانت ستمسّ مكتبها الرئيسي، لو تابعت على المنوال ذاته. وفي هذا الصدد يقول جوشكان إنّ العاملين في مكتب القاهرة وغالبيتهم من المصريين، حريصون جداً على نشر المعلومات الدقيقة، تفادياً لأي مشكلة مع الحكومة المصرية، ولكي لا تواجه الوكالة المصير ذاته الذي وصلت إليه قناة «الجزيرة».
الوكالة إذاً حذرة في طريقة التعاطي مع الأخبار المنشورة عن دول معروفة بعلاقتها المتوترة مع تركيا حالياً. ولكنها أيضاً حذرة في تعاملها مع دول أخرى صديقة، ومنها «إسرائيل» على سبيل المثال. فما السياسة التحريريّة التي تنتهجها «الأناضول» في الخبر الإسرائيلي؟ يردّ جوشكان بسؤال: «هل من الممكن أن نقوم بمهاجمة دولة على علاقة جيّدة بالحكومة التركية؟».
في كتابه «قصة الإعلام» يقول جان نويل جينيني، الباحث الفرنسي في التاريخ المعاصر، إن طموح وسائل الإعلام بالازدهار والتأثير، يفرض عليها أن تأخذ دائماً بالاعتبار «اللعبة المعقّدة للقوى المختلفة التي تعتمد عليها في العلن أحياناً، وفي السرّ أحياناً أخرى». ولا تختلف «الأناضول» عن أي وسيلة إعلامية أخرى، لذلك تبدو «استقلاليتها الواسعة» عن القرار الحكومي التركي، أمراً مبالغاً به إلى حد ما.

المصدر: جريدة السفير