«المعركة المفترضة» في الشمال الشرقي... والإعلام يقلب الصورة!
مع اقتراب نهاية العام، ومعها انتهاء المهلة الزمنية التي حددها اتفاق 10 آذار لتنفيذ طرفي الاتفاق لالتزاماتهما (علماً أن هنالك قراءات متعددة لا ترى نهاية العام موعداً نهائياً قاطعاً)، تضج وسائل إعلامية عديدة، وخاصة في الفضاء الافتراضي وعبر ما يسمى بالـ«مؤثرين»، بمقولتين متكررتين، الأولى: هي أن هنالك معركة حاسمة قادمة لا ريب في قدومها. الثانية: هي أن تركيا تحضر وتحرض وتدفع وتحشد باتجاه هذه المعركة، في حين تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على ضبط الأتراك ومنعهم من خوض المعركة.
وظيفة هذه المادة هي تقديم صورة معاكسة تماماً، نزعم أنها هي الصورة الحقيقية، وأن الصورة أعلاه، المقدمة إعلامياً، هي صورة خاطئة تماماً، ومقلوبة 180 درجة.
من المستفيد؟
بعيداً عن ضجيج التصريحات الإعلامية والتجييش والتحريض على وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، فلنحاول أن نجيب بهدوء عن السؤال المفتاحي في أي تحليل سياسي موضوعي: «ما الذي يمكن أن يترتب على معركة في الشمال الشرقي السوريمنها ومن نتائجها؟» وللإجابة، علينا أن نبدأ بمحاولة اختصار السياق العام للوحة، وهو سياق شديد التعقيد يتضمن إحداثيات دولية وإقليمية ومحلية، سياسية واقتصادية وعسكرية...إلخ، ضمن بضع نقاط أساسية من الأكثر عمومية، وصولاً إلى الحالة الملموسة للشمال الشرقي السوري، وكالتالي:
: لا يكاد يختلف اثنان، في أن هنالك انقساماً حاداً ضمن النخبة الأمريكية؛ بين تيار ترامب الذي ينحو منحى الانكفاء (وقد تم التعبير بوضوح شديد عن هذه المسألة في استراتيجيته للأمن القومي المنشورة مؤخراً)، وبين تيار آخر يمكن تسميته بالتيار العولمي، الذي يصر على القتال من أجل الحفاظ على هيمنة أمريكية مطلقة باتت من الماضي، ويضع أمامه هدف احتواء كل من الصين وروسيا.
: ورغم ما بين التيارين من تباين وتمايز وتناقض، إلا أنهما متفقان على أنه حتى حين يكون هنالك انكفاء اضطراري في هذه البقعة أو تلك من الكوكب، فينبغي عمل كل ما يمكن عمله كي لا يُملأ فراغ الانكفاء الأمريكي صينياً أو روسياً... وهذا الاتفاق ينطبق أفضل انطباق على منطقتنا؛ منطقة «الشرق الأوسط».
: ولأن منطقتنا، ورغم الخراب الذي تعرضت له، قد بدأت بتقديم ملامح نموذج جديد غير مناسب إطلاقاً للأمريكان، فإن ضرورة منع الصين وروسيا من ملء الفراغ، تصبح أكثر إلحاحاً؛ النموذج المقصود يتلخص بأن القوى الإقليمية الأساسية (السعودية، مصر، تركيا، إيران)، قد باتت تشترك في ثلاث مسائل حيوية:
هنالك عمليات تقارب بيني واسع النطاق، ومطرد، جرت وتجري خلال العقد الأخير، وخلال السنوات الخمس الماضية على وجه الخصوص، تكاد تكون غير مسبوقة تاريخياً؛ إذ كانت هذه الدول متعادية متخاصمة لعقود طويلة.
تتنامى بشكل كبير العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية لكل من هذه الدول مع الصين وروسيا، وبشكل مطرد.
المسألتان السابقتان، هما إلى حد غير قليل، نتيجة مباشرة للمسألة الثالثة المشتركة بين هذه الدول؛ وهي وقوعها تحت تهديد وابتزاز «إسرائيلي» متصاعد (وأمريكي في الخلفية، فليس الأمر بخافٍ على أحد، على الأقل ليس خافياً عن السلطات في تلك الدول). وقد وصل التهديد والابتزاز حد الحديث العلني عن تقسيم هذه الدول على أسس قومية وطائفية، وحتى عن ضم أجزاء منها لـ«إسرائيل»، وليست تصريحات نتنياهو الأخيرة عن تحالف «إسرائيلي/ قبرصي/ يوناني» ضد تركيا، إلا مؤشراً واحداً بين آلاف المؤشرات الأخرى (على سبيل المثال لا الحصر، الموقف «الإسرائيلي» الداعم لإثيوبيا ضد مصر، والاعتراف «الإسرائيلي» مؤخراً بأرض الصومال، أيضاً بالضد من مصر، ناهيك عن الأدوار الإماراتية المشتقة في كل من السودان (ضد مصر) واليمن (ضد السعودية))... محصلة هذه المسائل الثلاث، بتطورها الموضوعي المنظور، لا تقف عند احتواء «إسرائيل» فحسب، بل تتعداه إلى احتواء الدور والتأثير الأمريكي في المنطقة، وفتح الباب أمام المشروع الصيني الأضخم (الحزام والطريق)، كي يمر في المنطقة ويصبح جزءاً عضوياً من نهضة قادمة لها.
: في تركيا نفسها، والتي تعيش أوضاعاً شديدة الصعوبة على المستوى الاقتصادي والسياسي الداخلي، وتعيش تهديداً مباشراً يهدف لتفجيرها من الداخل وصولاً لتقسيمها، تكاد تكون عملية السلام التي بدأت بمبادرة عبدالله أوجلان والتي تلقفتها أوساط أساسية ضمن الدولة التركية، تكاد تكون أهم حدث استراتيجي تعيشه، بل وربما واحداً من الأمور الأكثر أهمية على مستوى الإقليم بأسره؛ فالسير باتجاه حل القضية الكردية حلاً ديمقراطياً عادلاً داخل تركيا (حيث الثقل البشري والسياسي الأساسي للشعب الكردي)، سيفتح الباب بالضرورة على حل القضية الكردية في البلدان الثلاثة الأخرى (إيران، العراق، سورية)، ما يعني بالمحصلة، نزع صاعق تفجير هائل طالما تمت الاستفادة منه ضد الشعب الكردي نفسه، وضد شعوب المنطقة بأسرها، ولمصلحة القوى الاستعمارية، ولمصلحة الأنظمة في هذه الدول، والتي كان يناسبها القمع القومي لأنه وفر إمكانيات نهب واستغلال كبرى، ولم يعد يناسبها اليوم لأنها هي نفسها باتت تحت التهديد، ولأن وحدة دولها باتت تحت التهديد، وبات استمرار القمع ثغرة كبرى يمكنها إدخال الأمريكي و«الإسرائيلي» لإنجاز عملية التفجير والتفتيت، وبالتالي بات إغلاق تلك الثغرة ضرورة وجودية، للدول كدول، وللأنظمة الحاكمة أيضاً؛ في هذا السياق بالذات، يمكن فهم تصريحات أردوغان الأخيرة، التي باتت نغمة ثابتة في كلامه خلال الأشهر الأخيرة، والتي يقول فيها: «نحن الأتراك والعرب والكرد والتركمان والسنة والعلويون شعب واحد نسكن هذه الأرض منذ ألف عام وسنواصل العيش معاً لقرون طويلة في إطار حسن الجوار... نعرف من هم الذين يحاولون تقسيمنا على أساس العِرق أو المذهب وسنظل يقظين إزاء فِخاخ تجار الدم والفوضى».
: في حال جرت معركة حقيقية في الشمال الشرقي، فإن دماً كثيراً سيسفك. وسواء تدخلت تركيا بشكل مباشر أم لم تتدخل، فإن عملية السلام ستتوقف لأشهر ولسنوات، وربما سيتم نسفها بالكامل، والعودة إلى وضع أسوأ مما قبلها؛ حيث سيقال للناس (عرباً وكرداً وتركاً وفرساً): «تفضلوا... هذه تجربة السلام! تجربة فاشلة والحل هو الحرب!». ما يعني أن فرصة السلام والاستقرار في المنطقة بأسرها، يمكن أن تتحول إلى كارثة انفجارية في كامل المنطقة ابتداء من سورية، بوصفها خاصرة رخوة.
: إذا كانت النخبة الأمريكية منقسمةً، فإن النخب في بلداننا أشد انقساماً؛ ويمكن القول دون تردد: إن داخل كل سلطة من السلطات الحاكمة في منطقتنا، بالضرورة، تياراً مرتبطاً عضوياً بالأمريكان وبالغرب، وهذا التيار تراجع حضوره ووزنه خلال السنوات القليلة الماضية تحت تأثير التخريب والتعنت الأمريكي/ «الإسرائيلي» في التعامل مع دول المنطقة، الذي أفرز موضوعياً تياراً آخر يسعى للانعتاق التدريجي من التبعية للأمريكي، الذي لم يعد لديه ما يقدمه لأحد (بحكم وضعه المأزوم والمتراجع اقتصادياً) إلا كف أذى العقوبات والتهديدات العسكرية وغير العسكرية. تفجير الأمور في تركيا على أساس صراع داخلي، ليس مصلحة «إسرائيلية»/ أمريكية فحسب، بل وأيضاً هو مصلحة للتيار المرتبط بالأمريكي.
: وأيضاً ضمن النخب والقيادات الكردية، وأسوة بالنخب في المنطقة بأسرها، هنالك نخب قريبة من الأمريكي، ومصالحها المباشرة مرتبطة باستمرار الصراع. وبالمقابل، هنالك نخب ترى الحل عبر الأخوة بين شعوب المنطقة، وعبر الانعتاق من أي تأثير أمريكي «إسرائيلي»، وهو تيار يتصاعد وزنه وتأثيره بشكل مطرد، وربما واحد من أبرز ممثليه اليوم هو أوجلان نفسه.
: من شأن تفجير الوضع في الشمال الشرقي أن يفجر سورية بأسرها، وأن يرفع بشكل غير مسبوق تاريخياً، احتمالات تقسيمها وإنهائها كوحدة جغرافية سياسية، وهذا يصب في صالح «الإسرائيلي» بطبيعة الحال، ولكن يصب أيضاً في مصالح فئة تجار الحرب الموجودين ضمن مختلف الأطراف السورية، وضمن مختلف «المكونات» القومية والدينية والطائفية، والذين سيعتبرون المعركة نقطة الانطلاق لتأسيس «إماراتهم» المعزولة الضيقة، والفقيرة والمنهوبة والمهيمن عليها أمريكياً/«إسرائيلياً»، ولكن ينوبهم من ذلك أن يتم ترسيمهم «أمراء» باسم هذه الطائفة أو تلك، هذه القومية أو تلك، وتكون لهم صلاحية المشاركة الفاعلة في نهب وقمع «أبناء جلدتهم»!
وإذاً؟
ضمن الإحداثيات أعلاه، يصبح من المفهوم تماماً، أن صاحب المصلحة في تفجير معركة في الشمال الشرقي السوري، هو بالدرجة الأولى «إسرائيل»، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية بتياريها، الانكفائي والعولمي، إضافة إلى تجار الحروب والنخب المرتبطة بالأمريكي.
ويصبح مفهوماً أيضاً، أن المصلحة التركية ليست في الدفع نحو المعركة، وليست حتى في الحياد تجاهها ومراقبتها من بعيد، بل هي بالضبط في منعها، والقيام بكل ما يلزم لمنعها، على العكس تماماً من الأمريكي الذي يمثل دور من يريد منع المعركة، ولكن يدفع بكل ما يلزم لتفجيرها...

هدف الصورة المقلوبة؟
ليس من الصعب تتبع المصادر الإعلامية التي تنشر الصورة المقلوبة القائلة بأن (أمريكا «حمامة السلام الأكبر في العالم» تسعى لمنع المعركة، بمقابل سعي تركيا لإشعالها)؛ هنالك الإعلام الإماراتي والشخصيات المرتبطة به، والإعلام «الإسرائيلي» والأمريكي بطبيعة الحال، إضافة إلى المنابر التحريضية الطائفية والقومية الموجودة عند مختلف الأطراف، والتي تمثل مصالح فئة تجار الحرب، فئة الحرامية، إضافة إلى وباء الكراهية المتحكم به عبر وسائل التخريب الاجتماعي، وخاصة فيسبوك. وهي الفئات نفسها التي سبق أن ذكرنا أنها جميعها تشترك في مصلحة واحدة، هي في نهاية المطاف مصلحة الحرامية الداخليين والخارجيين، وبالضد من مصلحة عموم شعوب المنطقة، بالضد من مصلحة فقرائها... والهدف واضح: الدفع المحموم نحو حصول المعركة عبر محاولة إقناع الأطراف المختلفة أنها قدر لا راد له، وعبر تنمية الكراهية وتعميقها وسد الأبواب بوجه التوافقات السلمية، ونحو نسف مبادرة السلام في تركيا، ونحو إدماء المنطقة بأسرها، والاستثمار بتلك الدماء، مع التبرؤ من المسؤولية المباشرة.
احتمالات المعركة؟
رغم ذلك كله، فإن المؤشرات المختلفة، وعلى العكس من قرع طبول الحرب إعلامياً، تشير إلى أن اليد العليا ما تزال للتيار الدولي والإقليمي الذي لا مصلحة له في تفجير سورية أو تفجير المنطقة، وبالتالي فإن احتمالات المعركة ما تزال منخفضة جداً، ولكن تصفيرها بشكل كامل غير ممكن دون السير بخطوات سريعة باتجاه حل سياسي حقيقي تشاركي في سورية، بعيداً عن الإقصاء، عبر مؤتمر وطني عام شامل وكامل الصلاحيات، وعبر تحقيق الأهداف والتوجهات الأساسية للقرار 2254، بما يُمكّن الشعب السوري من
تقرير مصيره بنفسه حقاً وفعلاً.
بالتوازي، فإن من الضروري الإسراع أيضاً باستكمال عملية السلام الداخلي في تركيا، لأنها ستحمل آثاراً إيجابية لكل المنطقة، إن اكتملت، وستنزع أكبر صاعق من صواعق التفجير التي زرعها البريطانيون والفرنسيون قبل أكثر من 100 عام، ويسعى الأمريكان و«الإسرائيليون» اليوم للاستفادة منها...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1258