من الدستور إلى الإعلان الدستوري... مقاربة قانونية: هل تغيّر الجوهر؟!
ريم عيسى ريم عيسى

من الدستور إلى الإعلان الدستوري... مقاربة قانونية: هل تغيّر الجوهر؟!

ما زال تشكيل «مجلس الشعب» قيد الاستكمال، ومعه يزداد الكلام حول مراجعة المنظومة القانونية القائمة. في الوقت ذاته، ما زال هناك الكثير من عدم الوضوح حول وضع المنظومة القانونية النافذة، ما الذي يجب تعديله أو إلغاؤه، وما علاقة ذلك بتعليق الدستور السابق، وإقرار الإعلان الدستوري الساري، وما هو موقع ما تقوم به السلطة الحالية من القرارات والإجراءات التي تتخذها.

وتبرز ضرورة مراجعة كل ما سبق، وضمن السياق الحالي والطريقة التي تم فيها استخدام الإعلان الدستوري منذ إقراره في منتصف آذار الماضي، فإن الإعلان الدستوري لا يضع قيوداً على السلطة الحالية، بل إنها تستخدمه كأداة تمنحها مرونة أعلى وحيّزاً من «المرونة الدستورية» لإعادة هندسة المنظومة القانونية بما يخدم مصالحها وتصوراتها ودون أي رقابة حقيقية.


خلفية نظرية مختصرة


يُعتبر الدستور القانون الأعلى في الدولة، أي أنه يعلو على جميع القوانين والتشريعات الأخرى، والتي يجب ألا تخالف المبادئ الواردة في الدستور، وإلا فإنها تُعتبر «غير دستورية». كما يحدد الدستور مصادر التشريع، وشكل نظام الحكم، ويُرسّخ المبادئ الأساسية، ويضمن الحقوق والحريات للمواطنين، ويحدد واجباتهم تجاه الدولة، وواجبات الدولة تجاههم، وينظّم العلاقة بين السلطات الثلاث– التشريعية والتنفيذية والقضائية– ويحدد صلاحيات كل منها. ويعتبر البعض الدستور الوثيقة القانونية التي تجسّد العقد الاجتماعي الذي يمثل إرادة الشعب.
تتم صياغة الدساتير بطرق مختلفة، أبرزها: تشكيل هيئة مختصة– جمعية تأسيسية منتخبة أو لجنة مختصة– تناقش المضامين الدستورية، بطريقة توافقية، وتحولها إلى وثيقة بصياغة قانونية، تُعتبر مسودة دستور إلى أن يتم إقرارها وتدخل حيّز التنفيذ. غالباً ما يتم إقرارها من خلال آلية معينة تعطي المجال للشعب– بشكل مباشر أو غير مباشر– لاتخاذ القرار، حيث يمكن أن يكون ذلك من خلال مجلس تشريعي أو «برلمان» منتخب من الشعب، أو من خلال استفتاء شعبي مباشر.


الإعلان الدستوري


يتم وضع الإعلان الدستوري، وهو وثيقة مؤقتة يتم استخدامها لسدّ فراغ دستوري خلال فترات انتقالية، وعادة تضعه سلطة تسلّمت الحكم، أو استولت على الحكم من سلطة سابقة من خلال انقلاب أو عمل عسكري، أو طريقة أخرى في أعقاب أزمة سياسية، وتقوم السلطة الجديدة بتعليق الدستور السابق. وفي هذه الحالات، تقوم السلطة المؤقتة من خلال قيادتها– رئيس انتقالي، قيادة ثورية، أو جسم حكم انتقالي– بوضع الإعلان الدستوري، والذي يشمل عدداً محدوداً من المواد– أي أنه أقل تفصيلاً من دستور دائم– بهدف تنظيم الدولة ومؤسساتها الانتقالية، وإيصال البلاد إلى حالة استقرار إلى أن يتم إقرار دستور دائم.
عادةً، ينظم الإعلان الدستوري السلطات الانتقالية، ويضع المبادئ العامة للحكم، ويضمن بعض الحقوق الأساسية، وبعض المواد المرتبطة بالمرحلة الانتقالية، والأسباب التي أدت إلى التغيير في السلطة. وتكون مدة الإعلان الدستوري محدودة بفترة زمنية تحدد المرحلة الانتقالية. يكون الإعلان الدستوري عاماً ومختصراً، ولا توجد فيه الكثير من التفاصيل، حيث إنه لا يحظى بالشرعية الشعبية التي يجب أن يستوفيها الدستور الدائم. ولذلك يمكن فهم الهدف منه من خلال طريقة استخدامه من قبل السلطة التي تضعه: هل فعلاً وضعته للوصول إلى استقرار في البلاد إلى حين إقرار دستور دائم، أم وضعته لتحصل شكلياً على الشرعية، ولتقوم بتثبيت الوضع المؤقت وتحويل سلطتها إلى حالة «دائمة».


سورية – لمحة سريعة عن التاريخ الدستوري


لدى سورية تاريخ غني بالتجارب الدستورية، بدأ بدستور المملكة السورية لعام 1920، وشمل هذا التاريخ عدداً من الدساتير أتت في ظروف سياسية مختلفة وتحولات في السلطة، كان لها تأثير كبير على طريقة كتابة وإقرار الدستور، وكذلك تفاوت في مدى احترامه والالتزام به. وأبرز هذه الدساتير، بالإضافة إلى دستور 1920، كانت دساتير 1930، و1950، ودساتير البعث المؤقتة بعد الانفصال، وحتى 1973، ولاحقاً دستور 2012.
كما تغيرت أنظمة الحكم في سورية وبموجبها الدساتير، منذ إعلان الاستقلال في 8 آذار 1920، من البرلماني إلى المختلط الأقرب إلى الرئاسي، والذي كان النظام المعتمد– على الأقل نظرياً– منذ دستور 1973، والذي كان له دورٌ في وضع الأسس لوصول الوضع في سورية إلى ما وصل إليه عند انفجار الأزمة في 2011. حيث رسخ ذلك الدستور، غياب التعددية السياسية وتغول السلطة التنفيذية، وبالأخص الرئاسة، على السلطات الأخرى، والرقابة الأمنية على كل ما يحصل في البلاد.
رغم أنه بموجب دستور 2012 تم إلغاء المادة 8، والتي نصت على أن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة»، إلا أن جوهر النظام وصلاحيات الرئاسة المطلقة، والتي مكّنتها من السيطرة على كافة مفاصل الدولة
ومؤسساتها، والسلطات التشريعية والقضائية، فعلياً لم تتغير. بكلام آخر، كانت التغييرات في دستور 2012، شكلية ولم تؤدِ إلى أي إصلاح حقيقي، أو إفساح المجال للتغيير الجذري المطلوب.
لن نناقش التاريخ الدستوري السوري في هذه المادة، ولكنه يستحق المراجعة للاستفادة من التجارب المختلفة، وبالأخص في عملية صياغة الدستور.
بعد هروب الأسد في 8 كانون الأول 2024، وبالتحديد في 29 كانون الثاني 2025، أي بعد ما يقارب الشهرين، أعلن الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية، ضمن «مؤتمر النصر»، تعيين أحمد الشرع، رئيساً لسورية للمرحلة الانتقالية، وفوضّه بتشكيل مجلس تشريعي. في ذلك المؤتمر، تم كذلك تعليق الدستور السوري لعام 2012، وحل مجلس الشعب، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية. في 2 آذار 2025، أعلن الشرع، تشكيل لجنة لصياغة إعلان دستوري، والذي في شكله النهائي ضمّ 53 مادة، وتم إقراره، ودخل حيّز التنفيذ في 13 آذار، أي 11 يوماً بعد إعلان تشكيل لجنة الصياغة.

__________result


سورية – من الدستورإلى الإعلان الدستوري


عند الانتقال من دستور إلى دستور جديد، تبقى جميع القوانين السابقة نافذة ما لم تتعارض مع الدستور، ويتم إلغاء القوانين المخالفة للدستور الجديد أو تعديلها بموجبه. هنا يمكن فهم عودة معظم القوانين السورية إلى أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، مثلاً: قانون العقوبات السوري لعام 1949، وقانون الجنسية السورية لعام 1969، مع بعض التعديلات التي تم إقرارها لاحقاً لبعض المواد في هذه القوانين وغيرها.
عند الانتقال من دستور إلى إعلان دستوري، تبقى جميع القوانين السابقة نافذة إلى أن يتم تعديلها أو إلغاؤها، ولكنها لا تُعتبر ملغاة إلا في حال تم إقرار ذلك بشكل واضح، أو تم وضع مبادئ معينة في الإعلان الدستوري، بموجبها تصبح القوانين النافذة مخالفة للوثيقة الدستورية، ولا يمكن إبطال جميع القوانين السابقة، لأن الإعلان الدستوري بطبيعته غير مفصّل، ولا يمكن أن يعطي أساساً كافياً لإنتاج نظام قانوني متكامل. ولذلك، فإن الخطر الأساسي في الإعلان الدستوري هو القدرة على إعادة إنتاج النظام القانوني السابق تحت غطاء المرحلة الانتقالية، وبموجب إعلان دستوري تم وضعه من قبل سلطة استولت على السلطة وأزاحت سلطة من المفترض أنها معادية لها.
في الحالة السورية الراهنة، لا يوجد في الإعلان الدستوري ما يمكن أن يشكّل أساساً لتغيير بعض التشريعات، وتكاد تكون المادة 12(2) الوحيدة التي يمكن استخدامها لإحداث أي تغيير حقيقي في القوانين على أساس الإعلان الدستوري، ووفق تلك المادة، «تُعدّ جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها الجمهورية العربية السورية جزءاً لا يتجزأ من هذا الإعلان الدستوري». ولكن بموجب الإعلان الدستوري يمكن إبقاء بعض التشريعات التمييزية، وإبقاء المنظومة الأمنية، دون أي مساءلة أو محاسبة أو ضوابط لعملها– وإن تغيّر شكلها وهيكلها.
كما يفتقر الإعلان الدستوري إلى تحديد كيفية تشكيل محكمة دستورية مستقلة، أو ضمانات حقيقية لاستقلالية القضاء، أو وضع آليات واضحة لإلغاء القوانين القمعية والتمييزية. وفي حال عدم وجود آليات واضحة لإلغاء القوانين، فإن ذلك يعني أيضاً عدم وجود آليات واضحة أو ضوابط لإقرار أو سنّ قوانين جديدة، وإحداث تغييرات جذرية في المنظومة القانونية، وبالأخص في حالة عدم وجود محكمة دستورية أو جهة مستقلة عن السلطة التنفيذية لديها صلاحية الرقابة على دستورية القوانين.
المادة 30 من الإعلان الدستوري تنص على مهام مجلس الشعب، والتي تشمل «اقتراح القوانين وإقرارها» و«تعديل أو إلغاء القوانين السابقة»، إلا أن هناك عدداً من الإشكاليات، ومنها أن مجلس الشعب لم يتم انتخابه من قبل الشعب، بل تم تشكيله من خلال اختيار أعضائه بشكل مباشر أو غير مباشر من قبل رئيس المرحلة الانتقالية، أي أنه ليس مجلساً تشريعياً تمثيلياً. في هذه الحالة، يجب تحديد المجالات التي يمكن لمجلس تشريعي بهذا الشكل النظر فيها فيما يتعلق بالمنظومة القانونية، بالأخص في ظل عدم وجود شرعية تمثيلية له.
كذلك، بما أن الإعلان الدستوري يشكّل مرجعية مؤقتة،
وفي الوقت ذاته يمتلك سمواً قانونياً، فإنه يصبح المرجعية الأساسية للمنظومة القانونية، ويجب تعديل أي نص قانوني يخالفه، ولكنه يفتقر للتفاصيل اللازمة لإحداث تغييرات حقيقية في القوانين.
ربطاً بالدستور السابق، عند تعليقه، يتم تعليق سموه في المنظومة القانونية، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة إلغاء القوانين التي تم سنها، أو إبقاؤها استناداً إليه، أي أنها تبقى نافذة وإن تم تعليق الدستور الذي استندت إليه في «دستوريتها»، والطريقة الوحيدة لتغييرها هي في حال تمت معالجتها بشكل صريح ومن خلال نصوص صريحة في الإعلان الدستوري.
هذا غير متوفر في كثير من المواد في الإعلان الدستوري الحالي، وبالأخص أنه لا توجد آليات رقابية أو معايير للطعن بدستورية القوانين سواء بشكلها القائم أو في حال تغييرها من قبل مجلس الشعب الجاري تشكيله.
بكلام آخر، السلطة اليوم تستخدم الإعلان الدستوري لخدمة مصالحها من خلال التالي:
السلطة التنفيذية وضعت من خلال الإعلان الدستوري مساحةً رمادية لا توجد فيها رقابة حقيقية من خلال محكمة دستورية مستقلة، أو مجلس تشريعي حقيقي.
القدرة على تعديل قوانين أساسية وإحداث تغييرات جذرية– إدارية، اقتصادية / مالية، أمنية– دون نقاش عام، أو رقابة من خلال جسم مستقل، أو ذي شرعية تمثيلية حقيقية، وذلك بموجب «الضرورة» و«تحقيق الاستقرار»، ما يعني أنه على الرغم من أن الإعلان الدستوري ينص على الفصل بين السلطات، فإن الممارسة تفرغه من ذلك المضمون.
القدرة على الحفاظ على القوانين التي تخدم السلطة، بما أنها تبقى نافذة ما لم تكن مخالفة بشكل صريح للإعلان الدستوري.
بما أن الإعلان الدستوري يفتقر إلى الكثير من التفاصيل التي يمكن بموجبها إلغاء القوانين القمعية، فإنه فعلياً أداة في يد أي سلطة لإدارة القوانين ذاتها وإعادة هندستها بشكل مناسب لتحقيق مصالحها دون المساس بجوهرها ذي التأثير القمعي، وبالتحديد بطريقة لا تغيّر آثارها على الشعب والمجتمع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1258