تقسيم الأمر الواقع... والاستقواء بالسوريين لا عليهم!

تقسيم الأمر الواقع... والاستقواء بالسوريين لا عليهم!

مرت أربعة أشهر تقريباً على سقوط الأسد، والشغل الشاغل خلال هذه الفترة لكل الوطنيين السوريين على امتداد البلاد وخارجها، كان العمل من أجل استعادة سورية واحدة موحدة.

هذا الهدف لم يتحقق بعد، ولم يحصل فيه تقدم ملموس حتى الآن، بل ويمكن القول -إنْ أردنا أن نكون موضوعيين وننظر إلى الواقع كما هو دون أي تجميل- إنّ ملف توحيد البلاد يواجه استعصاءً حقيقياً ومخاطر كبرى، لا يمكن تجاوزها دون إجراءات جذرية وحاسمة، ومن خارج المنطق السائد حتى اللحظة...

أيام الأسد، كانت البلاد تعيش حالة تقسيم أمر واقع بين 6 مناطق:

1- مناطق سيطرة النظام المباشرة التي تشمل الجزء الغربي من البلاد، وضمناً مدينة حلب ودمشق. 2- مناطق السيطرة الشكلية للنظام، والتي تعيش حالة خاصة مختلفة نسبياً عن الأولى، وتشمل الجنوب السوري بمحافظاته الثلاث. 3- مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام وتشمل إدلب المدينة وريفها وصولاً إلى جزء من ريف حلب الغربي وجزء من ريف حماة الشمالي. 4- مناطق سيطرة «الجيش الوطني» المتصلة المنفصلة في شمال البلاد (درع الفرات، نبع السلام، غصن الزيتون). 5- مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية في شمال شرقي البلاد. 6- منطقة الـ55 كم في الجنوب الشرقي للبلاد ومركزها التنف.

إذا حاولنا قراءة الخريطة اليوم، فإنها شبيهة إلى حد بعيد بما كانت عليه أيام الأسد؛ فرغم الاتفاق الأولي الذي تم توقيعه بين الإدارة الجديدة وقسد، ورغم الاتفاقات الجزئية في كل من السويداء ودرعا، ورغم إعلان الفصائل اللفظي عن حل نفسها في «مؤتمر النصر»، إلا أن الحالة الفصائلية ما تزال موجودة كأمر واقع لم يتم تجاوزه بشكل كامل بعد، ولم تنجز بعد عملية حصر السلاح، وما جرى في الساحل السوري من انتهاكات وجرائم جاء كمؤشر واضح على هذه المسألة، وحوّل الساحل السوري إلى ملف إضافي ضمن الوضع العام المعقد للبلاد، ناهيك عن موضوع المقاتلين الأجانب وما يترتب عليه من تعقيدات وصعوبات، سواء على المستوى الداخلي، أو على المستوى الإقليمي والدولي.

هذه الوقائع الملموسة التي يعرفها ويدركها السوريون، تعيد التأكيد على حقيقة لا يمكن القفز فوقها؛ وهي أن مجرد السيطرة على السلطة السياسية في دمشق، لا يعني بحال من الأحوال السيطرة السياسية والعسكرية على سورية واحدة موحدة؛ فتقسيم الأمر الواقع الذي استمر ما يقرب من 8 سنوات بشكله السابق، وأسس لتمايزات واختلافات عديدة بين المناطق المختلفة، بما في ذلك لأسواق اقتصادية مصغرة منفصلة عن بعضها البعض، ومتصلة عبر الحدود بالخارج... تقسيم الأمر الواقع هذا لا يمكن تخطيه بمنطق الغلبة والقوة، بل يحتاج منطقاً معاكساً تماماً، هو منطق التوافق والتفاهم بين كل السوريين، بكل اتجاهاتهم وفي كل مناطق وجودهم.

التخريب «الإسرائيلي»

الاعتداءات والتدخلات «الإسرائيلية» المعلنة وغير المعلنة، كانت عامل توتير وتخريب مستمر طوال السنوات الماضية، وتحولت إلى عامل أكثر خطورة في الأشهر الأخيرة، ابتداءً من تدمير القسم الأعظم من السلاح السوري خلال الأيام الأولى بعد سقوط الأسد، ومروراً بالتوغل البري في الجنوب السوري، ووصولاً إلى العمليات الإجرامية المباشرة الأخيرة ضد الأهالي في ريف درعا. يُضاف إلى ذلك العمل الواضح باتجاه التقسيم وباتجاه الاقتتال، عبر التحريض الطائفي المباشر، ومحاولة قسم السوريين ضد بعضهم البعض، وبالاستفادة من الانتهاكات والتجاوزات، وربما بالاشتراك غير المباشر في تحفيزها عبر الاختراقات العديدة ضمن مختلف الجهات السورية، بعد أن تحولت سورية خلال السنوات الماضية إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية بمختلف أنواعها.

الاستقواء بالسوريين أم الاستقواء عليهم؟

ربما واحدة من أكبر المشكلات، بل والمصائب، التي تعاني منها ذهنية «نخب» سورية عديدة، سواء ضمن السلطة، أو ضمن قوى سياسية في المجتمع، هي توجيه النظر والاهتمام نحو الخارج لا نحو الداخل.

نظام الأسد لم يهتم يوماً بحيازة الشرعية والقوة بالاستناد إلى الشعب السوري، بل دائماً ما كانت أنظاره موجهة نحو الخارج بقواه وتوازناته، وخاصة نحو الغرب في محاولة لنيل رضاه والوصول إلى توافقات معه، تكون هي الأداة في الاستمرار في السلطة.

اليوم أيضاً، نرى أن هذا النمط من التفكير ما يزال قائماً لدى بعض التيارات ضمن الإدارة الجديدة، ونراه أيضاً لدى بعض التيارات التي تعارض هذه الإدارة؛ فمن جهة بعض المسؤولين ضمن الإدارة، نرى الجهود كلها منصبة على محاولة رفع العقوبات باعتباره حبل النجاة الوحيد لسورية، بالتوازي مع محاولة الوصول إلى توافقات وتفاهمات مع الدول، تكون هي الأساس في استكمال توحيد البلاد، وبالأحرى في استكمال السيطرة على البلاد بمنطق الغلبة، لأن مفهوم البلاد الموحدة من وجهة نظر البعض هي السيطرة على البلاد، وليس الوحدة القائمة على تفاهم وتوافق وتعاون أبناء البلد الواحد.

على المقلب الآخر، تسعى أطراف وقوى سياسية، وخاصة منها بعض من يوجدون خارج البلاد، لا إلى محاولة الوصول إلى تفاهم بين السوريين، ولا إلى الاستقواء بالسوريين، بل إلى الاستقواء بالخارج، بما في ذلك عبر التلويح بملفات التقسيم بأشكال معلنة أو مواربة.

أبناء الـ90%

صاحب المصلحة الحقيقية في وحدة سورية هم أبناء الشعب السوري، هم بالضبط أبناء طبقة الـ90%، أي المفقرين المنهوبين الذين ينتمون لكل الطوائف والأديان والقوميات والمناطق في سورية، وهؤلاء وحدهم من يمكن التعويل عليهم وعلى تعاونهم وقوتهم للخروج بالبلاد من الأوضاع الصعبة والخطيرة التي تعيشها.

لتحقيق ذلك، فإن السلطة القائمة تتحمل مسؤولية أساسية في اتخاذ زمام المبادرة باتجاه الإصغاء لما يطرحه السوريون، وباتجاه تجميعهم عبر مؤتمر وطني عام يحقق حواراً حقيقياً بين السوريين، يعالجون فيه مختلف المشاكل، ويؤسسون معاً لحلها، وعبر حكومة وحدة وطنية وازنة وواسعة التمثيل.

القوى السياسية والمجتمعية التي خارج السلطة، عليها المسؤولية نفسها أيضاً، وينبغي أن تعمل بالاتجاه نفسه.

وسواء بالنسبة للسلطة أو بالنسبة للقوى التي خارجها، والمناطق التي خارج سيطرتها الفعلية أو داخلها، فإن الوصول إلى قناعة حقيقية وصادقة بقدرة الشعب السوري، وبأنه القوة الوحيدة التي يمكن الاستناد إليها، هو حبل النجاة الوحيد للسلطات والقوى والبلد ككل.

المجتمع السوري جاهز للدفاع عن بلاده وعن وحدتها، وهو القوة الأهم والأكبر، بل والقوة الوحيدة التي يمكنها تحقيق وحدة البلاد وسيادتها. وعدم الاعتماد المباشر عليها، وغياب القناعة بقوتها وقدرتها، لن يجر على البلاد سوى المزيد من الويلات والمشكلات...

العقل الثوري والوطني الحقيقي ينبغي أن ينطلق من هذه القناعة، وحين يستطيع توحيد المجتمع، فإن كل المشكلات الخارجية والضغوط الخارجية قابلة للحل، وللتعامل معها من موقع المقتدر، لا من موقع الضعيف أو المستقوي بالخارج...

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221