ما هي احتمالات انسحاب القوات الأمريكية من سورية؟
بمجرد الإعلان عن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، طفت على السطح مجدداً، مسألة انسحاب القوات الأمريكية من سورية، لا سيما أن ترامب نفسه قد أعلن مرتين خلال رئاسته عن سحب قواته من سورية، وفي كلتيهما لم يتم الانسحاب، وإن كان قد جرى جزئياً.
وكان قد تبين فيما بعد أن «المؤسسة الأمريكية» قد رفضت الامتثال لأوامر ترامب في الانسحاب، وهو ما أعلن عنه المبعوث الأمريكي الأسبق إلى سورية جيمس جيفري صراحة بعد مغادرته منصبه في لقاء أجراه معه موقع Defense one بتاريخ 12/11/2020.
جيفري نفسه، وبعد غياب عن الساحة الإعلامية، عاد مؤخراً للتحذير من «مخاطر انسحاب القوات الأمريكية من سورية» معتبراً أن هذا الأمر إن جرى فإنه «سيصب في مصلحة إيران والأسد»، وذلك في تصريح له ضمن مقال لموقع ميدل إيست آي بتاريخ 8/11/2024. وفي المقال نفسه، ينقل الموقع عن روبرت كينيدي جونيور المرشح الرئاسي الخاسر، أن ترامب من المحتمل أن يسحب 500 جندي أمريكي من شمال شرق سورية [من أصل 900 جندي موجودين هناك، وفقاً للتصريحات الأمريكية الرسمية].
في السياق نفسه، نقلت صحيفة حرييت التركية قبل يومين عن الرئيس التركي أردوغان، أن اتصالاً هاتفياً سيجري بينه وبين الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، وفي هذا الاتصال: «سنجري تقييماً لمسألة سحب القوات الأمريكية من سورية».
يضاف إلى هذه التصريحات، جملة من التصريحات التي جرى تداولها نقلاً عن مقربين من ترامب ومن حملته الانتخابية، حول المسألة نفسها، أي حول مسألة انسحاب القوات الأمريكية من سورية.
على مقلبٍ آخر، وخاصة بين قسم من السوريين الذين يعتبرون أمريكا حليفهم، سواء منهم بعض من في الشمال الشرقي السوري، أو ضمن صفوف «المعارضة»، وخاصة في صفوف بعض التجمعات «السورية- الأمريكية» والأصح أن تسمى «الأمريكية- السورية»، بدأ إطلاق صفارات الإنذار والتحذير من «الكارثة» التي يمكن أن تترتب على انسحاب القوات الأمريكية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية محاولة إطلاق تطمينات أن عملية الانسحاب إن جرت، فإنها ستجري ضمن جدولٍ زمني طويل، وبشكلٍ تدريجي، وأن الولايات المتحدة لن «تتخلى» عن سورية.
ما الذي يمكن توقعه؟
في ظل هذه التصريحات والتسريبات والتوقعات، ما هي الاحتمالات الفعلية لانسحاب القوات الأمريكية من سورية، وللتطور المتوقع للأمور على أساس هذا الانسحاب؟
الإجابة القاطعة والنهائية هي ما ستقوله الأيام والأشهر القادمة، ولكن ما يمكن التفكير به حالياً، ربما يتخلص في الأفكار الأساسية التالية:
أولاً: لا ينبغي التسليم بشكلٍ قاطعٍ بأن ترامب هو شخص من «خارج المؤسسة»، أي من خارج المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة، أو من خارج الدولة العميقة. بكلامٍ أدق، حتى لو كان هذا صحيحاً، فإن وصوله لسدة الرئاسة مجدداً، ما كان ليحدث لولا أن الدولة العميقة قد قررت أنه الشخص المناسب لهذه المرحلة، وسمحت تالياً بوصوله. هذا أمر يمكن تأكيده من خلال فهم درجة سطوة المال السياسي على الإعلام الأمريكي ككل من جهة، إضافة إلى النظام الانتخابي المصمم بشكلٍ يمكن التلاعب به ببساطة من جانب «المؤسسة».
ثانياً: ينبغي أن نحاول فهم ما تريده «المؤسسة»، أي النخبة الحاكمة، رغم وجود الانقسامات ضمنها، من وصول ترامب للرئاسة مجدداً. ونعتقد أن كلمة السر في فهم المعادلة، هي استعصاء السير في الفوضى الهجينة الشاملة في منطقتنا وفي العالم ككل. بشكل أكثر وضوحاً، فإن المعارك المفتوحة في أوكرانيا، وفي منطقتنا، وعلى حدود الصين، وفي أفريقيا، كلها بالمجموع لم تتمكن حتى اللحظة من إيقاف التقدم والصعود الصيني-الروسي، ولم تتمكن من وقف تراجع حصة الغرب الجماعي من الناتج الإجمالي العالمي، ولا من وقف تراجع النفوذ السياسي للغرب، بما في ذلك خساراته على جبهة المعركة الثقافية العالمية... كل ذلك يتطلب تغييراً في التكتيك، وانعطافات قاسية في عدة جبهات، وأفضل إخراج لهذه الانعطافات هي أن يقوم بها شخص يعتبر «مجنوناً» ويعتبر «من خارج المؤسسة»، بما يسمح بإحداث تعديلات ضرورية على الاستراتيجيات بأكثر الأشكال الممكنة سلاسةً.
ثالثاً: دون توسع كبير، ولكن من المهم الإشارة إلى ما أوردناه في الفقرة السابقة لماماً حول «المعركة الثقافية» وخسارة الغرب فيها، (يمكن العودة إلى إيمانويل تود وتصريحاته حول المسألة). باختصار، فإن قيم «النيوليبرالية» المختلفة، وخاصة الثقافية منها، باتت نقطة تنفير عام من الغرب لشعوب الجنوب العالمي (الجنوب بالمعنى السياسي)، وقيم «المحافظة» التي تتبناها روسيا والصين، باتت نقطة تجميع لتلك الشعوب... ولذا فإن عودة ترامب «التقليدي» و«المحافظ»، يمكن أن تبدو كمحاولة لتقليل الخسائر، أو تجنبها على هذه الجبهة، وهو الأمر الذي لا يمكن لفريق بايدن أو هاريس أو الديمقراطيين ككل أن يقوموا به بحالٍ من الأحوال.
رابعاً: الاستراتيجية الأمريكية العامة تجاه منطقتنا لن تخضع لتغيير جذري، على الأقل ليس في وقت قريب. هذه الاستراتيجية هي الفوضى الهجينة الشاملة، والتي يشكل الوجود العسكري الأمريكي جزءاً من أدواتها حتى الآن، والتي يمكن أن يشكل انسحاب هذا الوجود إذا ما تم بطريقة محددة جزءاً منها أيضاً!
بكلامٍ آخر، فإن استمرار اشتعال النار في فلسطين ولبنان، وإنْ جرى ضبط درجة سخونتها، سيبقى عاملاً أساسياً في تسعير المنطقة، ودفعها نحو انفجارات داخلية على أساس الفوالق الداخلية، وعلى رأسها الفوالق القومية، وربما في المقدمة المسألة الكردية، والتي كان الغرب نفسه هو من أنتجها عبر سايكس بيكو، ثم لوزان وعاد بعد ذلك لذرف دموع التماسيح في إطار التجارة بها واستغلالها لتفجير المنطقة (من المفيد في هذا السياق العودة إلى مسودة الوثيقة التي نشرتها قاسيون في آذار 2016 حول «القضية الكردية وشعوب الشرق العظيم»). هذا لا ينفي طبعاً استمرار العمل على الفوالق الطائفية باستخدام أدوات من طراز داعش والنصرة وغيرها، ولكن فاعلية هذه الأدوات قد تراجعت بشكلٍ كبير، ليس من حيث الوجود المادي المباشر لها فحسب، بل وربما أهم من ذلك على مستوى الوعي العام لشعوب المنطقة... خاصة بعد 7 أكتوبر التي نحت جانباً، وبشكلٍ كبير، الفوالق الطائفية لمصلحة الصراع الفعلي لشعوب المنطقة مع الأمريكي و«الإسرائيلي»، خاصة بوجود قوتين، مثل: حماس وحزب الله على متراس واحد في معركة واحدة.
محاولة تفجير المسألة الكردية في دول المنطقة كلها، وخاصة في تركيا، هو اشتغال مشترك أمريكي/«إسرائيلي»، ولذا ليس مستغرباً أنهما ينظران بعين الخوف والقلق إلى الاحتمالات المترتبة على تسوية سياسية تجري في تركيا يكون طرفاها السلطة التركية وعبد الله أوجلان، وما يمكن أن ترتبه في المنطقة بأكملها، ويعملان تالياً على تفجير أي احتمال لتحقيق مثل هذه التسوية، بما في ذلك محاولة وضع انسحاب أمريكي جزئي أو كلي في سياق تفجيري دموي، يضعف أو ينهي احتمالات تسوية كهذه في أي وقت قريب. وبكلام أوضح، ليس مستبعداً إطلاقاً أن الأمريكيين ربما يحاولون اللجوء إلى شكل محدد من الانسحاب من سورية، يترتب عليه الدفع نحو اشتباكٍ دموي بين الشمال الشرقي في سورية وبين الأتراك، بما يخرب وينسف أي إمكانية لتحقيق تسوية تاريخية بما يخص القضية الكردية في تركيا... ويبدو أن هنالك قوى تدفع بهذا الاتجاه، أي نحو مقتلة جديدة، إما انطلاقاً من ضعف بصرها وبصيرتها، أو ببساطة انطلاقاً من مصالح ضيقة وآنية لا تتقاطع بأي حالٍ من الأحوال مع مصلحة السوريين، ومع مصلحة السوريين الكرد خاصة...
خامساً: ولكن المسألة نفسها لها وجوه أخرى؛ فـ «الجميع يفهم على الجميع»، ونقصد هنا أجهزة الدول المتصارعة ومراكز أبحاثها الجدية وراء الكواليس، ولن يكون صعباً لا على تركيا ولا على روسيا أو الصين أو إيران، فهم وتوقع ما يعمل عليه الأمريكي. وليس صعباً بالتالي، توقع أن هذه الدول، وفي إطار التقارب الموضوعي الذي تجد نفسها ضمنه، ليس انطلاقاً من رغباتها بقدر ما يأتي ذلك انطلاقاً من التهديد المشترك الذي تشكله واشنطن لها، ستقوم بنسج خطط مضادة، تستفيد فيها من المناورات الأمريكية، كي تصب في صالحها وضد الصالح الأمريكي... بكلام أوضح، ليس من الصعب توقع أن الضغط المشترك لثلاثي أستانا باتجاه خروج القوات الأمريكية من سورية، سيستمر ويتصاعد، وربما سيتم تكليف أردوغان ضمنياً وبالتراضي، بأن يفتح البازار مع ترامب حول الانسحاب، بالتوافق والتكافل بين ثلاثي أستانا، بالتوازي مع التجهيز لملء الفراغ، ليس عبر الحرب بل عبر التوافقات وعبر التسويات، وبالدرجة الأولى اتجاهان كبيران في عملية التسوية: تسوية للقضية الكردية في تركيا تفتح الباب لحل ديمقراطي للمسألة في المنطقة ككل، أساسها الموضوعي وبغض النظر عن المصالح الآنية الضيقة لهذا النظام أو ذاك، هو الإخوة بين شعوب المنطقة، وتسوية بين سورية وتركيا على المستوى الرسمي تكون أساساً في ضبط ومنع تفجير الشمال الغربي من جهة، وفي التأسيس والمضي في الحل السياسي الشامل في سورية على أساس 2254.
سادساً: لا ينبغي أيضاً أن نقلل من حجم الضغط المتراكم الذي تتعرض له قوات الاحتلال الأمريكي، سواء في العراق أو في سورية، وهو ضغط متدرج متصاعد ومتراكم، ويمكنه أن يتعمق بشكلٍ كبير في حال أصر الأمريكي على البقاء، وعلى تعميق الفوضى في المنطقة عبر بقائه... وما رأيناه حتى اللحظة ما يزال قدراً يسيراً من الإمكانيات الفعلية لتصاعد عملية الضغط العسكري والسياسي لإخراج الأمريكي من البلدين.
سابعاً: يضاف إلى ذلك كله، أن شراسة وتوحش الأمريكي والصهيوني، لا يمكنهما بأي حال من الأحوال أن يغطيا على حقيقة تراجعهما، وتراجع نفوذهما في المنطقة ككل، وهذا التراجع من شأنه أن يحصل على ترجماته السياسية المناسبة في نهاية المطاف.
ثامناً: ينبغي التفكير دائماً بأن الأمريكي والصهيوني لن يتخليا عن المشروع العام الخاص بسورية المسمى «خطوة مقابل خطوة»، والذي سبق أن كتبنا عنه مراراً، ويمكن التفكير أنه ضمن المخطط نفسه ستجري محاولة موضعة الانسحاب الأمريكي، بحيث يؤدي إلى تفجيرات متسلسلة، سيكون أول ضحاياها هم من وثقوا بالأمريكي وصدقوا وعوده، ولكنها مع ذلك لن تصل إلى غايتها النهائية، لأن الأمور باتت واضحة منذ وقت طويل، ولأن الأمريكي والصهيوني وفي إطار تراجعهما التاريخي قد فقدا بالفعل قدراً كبيراً من «قدراتهم الإبداعية» في حياكة المؤامرات المعقدة، وباتوا أكثر اعتماداً على «الدفاتر القديمة»...
محصلة
المحصلة العامة للاتجاهات والاحتمالات السابقة، هي أن احتمال انسحاب القوات الأمريكية من سورية يزداد حتى قبل وصول ترامب، وسيزداد أكثر مع وصوله. وهذا الانسحاب لن يؤدي إلى «فوضى وحرب فورية» كما يهدد وينذر ويتخوف بعض حلفاء الأمريكان، الذين باتوا بشكلٍ علني تقريباً يقدمون أنفسهم كامتداد للأمريكي، وكمستند إليه في الداخل السوري، ويربطون مصيرهم بشكل وجودي ببقائه. المؤكد أن الانسحاب، في حال لم يتم القيام بتعديلات جذرية في سلوك حلفاء وأتباع الأمريكان من كل الجهات السورية، بما فيهم غير المعلنين من المتشددين ضمن النظام وتجار الحرب الذين يأملون بالرضا الأمريكي وبالصفقة مع الأمريكي، هؤلاء سيكونون أكبر وأول الخاسرين، وربما لن يكون لهم أي مستقبل ضمن اللوحة السياسية لسورية المستقبل...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1200