هل يُسمح لك بانتقاد السلطة الحقيقية؟
رون أونز رون أونز

هل يُسمح لك بانتقاد السلطة الحقيقية؟

منذ سنوات طفولتي، كنت دائماً على دراية بأن النشاط السياسي والاحتجاجات كانت سمة منتظمة للحياة الجامعية، حيث تمثل حركة الستينيات ضد حرب فيتنام إحدى قممها. بدت الاحتجاجات السياسية جزءاً طبيعياً من سنوات الكلية، مثل الامتحانات النهائية. على مدار العقد الماضي أو نحو ذلك، رفعت حركة «حياة السود مهمة» مثل هذه الاحتجاجات على مستوى البلاد من قبل طلاب الجامعات إلى آفاق جديدة، سواء داخل الحرم الجامعي أو خارجه، وغالباً ما تضمنت مسيرات كبيرة أو اعتصامات أو تخريباً، وربما كان هذا مدفوعاً بتزايد تأثير الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي. وعلى عكس الحقبة السابقة، نددت معظم وسائل الإعلام والطبقة السياسية في مؤسستنا بشدة بأي اقتراحات لنشر الشرطة لقمع العنف. في الواقع، في كثير من الحالات أو معظمها، تنحّت قوات إنفاذ القانون المحلية ولم تفعل شيئاً.

ترجمة: قاسيون

أصبحت العديد من الجامعات متورطة بشدة في مثل هذه الاحتجاجات. أعادت جامعة ييل تسمية كلية كالهون السكنية الخاصة بها في أوائل عام 2017، وقائمة تغييرات الأسماء بسبب احتجاجات جورج فلويد عام 2020 طويلة جداً لدرجة أنها تمتلك صفحة ويكيبيديا خاصة بها. أصبحت الهجمات اللفظية أو حتى الجسدية ضد رموز وتماثيل أشهر رؤساء أمريكا والأبطال الوطنيين شائعة جدًا، وغالباً ما تم الإبلاغ عنها بشكل إيجابي في وسائل الإعلام. دعا مقال رأي رئيسي في صحيفة نيويورك تايمز إلى استبدال نصب جيفرسون التذكاري بتمثال شاهق لامرأة سوداء بينما طالب أحد كتاب الأعمدة المنتظمين في التايمز مراراً وتكراراً بأن تعاني جميع المعالم الأثرية التي تكرم جورج واشنطن من مصير مماثل. زعم العديد من المراقبين أن أمريكا بدت وكأنها تمر بنسختها الخاصة من الثورة الثقافية الصينية، وسط ادعاءات واسعة النطاق بأن قسماً كبيراً من ماضينا التاريخي بأكمله ملوث بشكل لا يمكن إصلاحه، وبالتالي كان لا بد من محوه من الساحة العامة.
من الطبيعي أن يستوعب طلاب الجامعات الشباب الذين بدأوا دروسهم في سبتمبر/أيلول 2023 هذا التاريخ الطويل من السماح، أو حتى تمجيد الاحتجاجات العامة ضد الظلم بأنّه عام على جميع القضايا. ثم في غضون أسابيع، شن مسلحو حماس غارة مفاجئة جريئة بشكل ملحوظ. لقد فاجأت غزة المحاصرة «الإسرائيليين» وتغلبت على الدفاعات عالية التقنية التي ربما كلفت بنائها نصف مليار دولار. وقُتل عدة مئات من الجنود وضباط الأمن «الإسرائيليين». وتم أسر نحو 240 جندياً ومدنياً «إسرائيلياً» وإعادتهم إلى غزة كسجناء، حيث كانت حماس تأمل في مبادلتهم بإطلاق سراح الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الذين احتُجزوا لسنوات في السجون «الإسرائيلية»، وفي ظل ظروف وحشية غالباً.
كالعادة، صورت وسائل الإعلام الرئيسية المؤيدة «لإسرائيل» بأغلبية ساحقة الهجوم بطريقة أحادية الجانب للغاية، وخالية من أي سياق تاريخي، وهو النمط الذي تم اتباعه على مدى ثلاثة أجيال. ونتيجة لذلك، تلقت «إسرائيل» تدفقاً هائلاً من التعاطف الشعبي والنخبوي أثناء حشدها لشن هجوم انتقامي على غزة.
وبينما كانت الجسور الجوية الأمريكية توفر طوفاناً لا ينتهي من الذخائر الضرورية، بدأ «الإسرائيليون» حملة قصف جوي ضخمة ضد غزة المكتظة بالسكان، وسكانها الذين لا حول لهم ولا قوة. تكبدوا خسائر فادحة، معظمها بسبب القنابل التي يبلغ وزنها ألفي رطل، والتي لم يتم استخدامها من قبل ضد أهداف مدنية. وسرعان ما تحولت أجزاء كبيرة من غزة إلى قمر، مع تدمير حوالي 100 ألف مبنى، بما في ذلك المستشفيات والكنائس والمساجد والمدارس والجامعات والمكاتب الحكومية والمخابز، وجميع البنية التحتية الأخرى اللازمة للحفاظ على الحياة المدنية.
ومع إعلان قادة «إسرائيل» علناً عن خططهم للإبادة الجماعية لأعدائهم الفلسطينيين، وارتكاب القوات «الإسرائيلية» أكبر مذبحة متلفزة للمدنيين العاجزين في تاريخ العالم، تعرضت المنظمات الدولية تدريجياً لضغوط قوية لحملها على التورط في الصراع الدائر. وفي أواخر ديسمبر/كانون الأول، قدمت جنوب إفريقيا مذكرة قانونية من 91 صفحة إلى محكمة العدل الدولية، تتهم فيها «إسرائيل» بارتكاب جرائم إبادة جماعية. وفي غضون بضعة أسابيع، أصدر فقهاء محكمة العدل الدولية سلسلة من الأحكام شبه الإجماعية، التي تدعم هذه الاتهامات وتعلن أن سكان غزة معرضون لخطر جسيم من التعرض لإبادة جماعية محتملة على أيدي «إسرائيل».
في العقود الماضية، ربما مرت هذه الأحداث المروعة دون أن يلاحظها أحد نسبياً، حيث كان حراس وسائل الإعلام الرئيسية المؤيدين لإسرائيل بأغلبية ساحقة يضمنون عدم وصول سوى القليل من هذه المعلومات المؤلمة إلى أعين أو آذان الأمريكيين العاديين. لكن التطورات التكنولوجية غيرت هذا المشهد الإعلامي، حيث أصبحت مقاطع الفيديو المنشورة على منصات التواصل الاجتماعي غير الخاضعة للرقابة نسبياً، مثل: تيك توك وتويتر التابع لإيلون ماسك، تتحايل بسهولة على هذا الحصار. على الرغم من عقود من المعاناة والقمع، كان الفلسطينيون في غزة شعباً عصرياً تماماً، ومجهزين جيداً بالهواتف الذكية، وتمت مشاركة المشاهد التي صوروها في جميع أنحاء العالم، وسرعان ما اجتذبت جماهير ضخمة بين الشباب الأمريكيين الذين اعتمدوا على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيسي للأخبار..
إنّ التدمير الكامل لغزة والذبح الجماعي أو التجويع المتعمد للملايين من سكانها يشكل بشكل واضح «إبادة جماعية» هائلة، وفي غضون أسابيع تبنى الناشطون الطلابيون في جميع أنحاء حرم الجامعات هذه الصرخة، وبدأوا في تنظيم احتجاجات عامة ضد المجزرة البشعة التي ترتكبها «إسرائيل». لكن تمّ قمعهم بشكل فاق أيّ تصوّر، سواء من قبل الشرطة أو الأمن، أو حتّى بالسماح للمجموعات الصهيونية بمهاجمتهم والإساءة لهم. لم أسمع من قبل عن السماح لحشود منظمة من البلطجية الخارجيين بالاعتداء العنيف على المتظاهرين الطلاب الأمريكيين المسالمين في حرمهم الجامعي.
قبل بضع سنوات، تفاخَرَ أحد كبار المسؤولين السابقين في لجنة الشؤون العامة «الإسرائيلية» (إيباك) أمام صحفي صديق بأنه إذا كتب أي شيء على منديل بسيط، فإنه يستطيع في غضون 24 ساعة الحصول على توقيعات سبعين عضواً في مجلس الشيوخ لتأييده، ولا تقل القوة السياسية التي تتمتع بها «رابطة مكافحة التشهير» عنه في القوة. لذلك لم يكن مفاجئاً أن الأغلبية الساحقة من الحزبين 320-91 في مجلس النواب أقرت الأسبوع الماضي مشروع قانون يوسع معنى معاداة الصهيونية ومعاداة السامية في السياسات المناهضة للتمييز التي تتبعها وزارة التعليم من خلال تقنين التعريفات المستخدمة في حقوقنا المدنية لتصنيف تلك الأفكار على أنها تمييزية.
يُظهر هذا لنا بشكل جلي أنّ النخبة الأمريكية الحاكمة مستعدة لأي وسيلة قمع لحماية «مواطن السلطة الحقيقية»، والمشاريع والدول التي تخدم هذه السلطة. ولأسباب مماثلة، أعتقد أن عشرات الآلاف من القتلى من سكان غزة لم يفقدوا حياتهم عبثاً. وبدلاً من ذلك، هيمن استشهادهم على وسائل الإعلام العالمية طيلة الأشهر الخمسة الماضية، الأمر الذي كشف للعالم أجمع بشكل قاطع عن الإفلاس الأخلاقي للنظام الدولي الذي حكم عليهم بمصيرهم. ربما بدأ الآن مئات الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم يطرحون على أنفسهم أسئلة لم يفكروا فيها من قبل. أظن أن المسؤولين عن تدمير غزة قد يندمون على اليوم الذي ساعدوا فيه على فتح الأبواب التي ربما كانوا يرغبون في نهاية المطاف في إبقائها مغلقة بإحكام.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1175
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 13:00