افتتاحية قاسيون 1172: احتجاجات أمريكا: بدايةٌ، والقادم أعظم!
يعلّمنا تاريخ الحركات الطلابية في الدول الغربية، وفي العالم كلّه أيضاً، أنّ الأسباب العميقة لها كانت دائماً داخليةً لا خارجية. ورغم أنّ الزناد القادح لها في كثير من الأحيان كان متعلقاً بالسياسات الخارجية، كما في حالة فيتنام أو جنوب إفريقيا والآن فلسطين، فإنّ أساسها العميق كان مرتبطاً دائماً بالأزمات الداخلية، وخاصة ببعديها الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي-الديمقراطي.
هذا الكلام لا يقلل بحالٍ من الأحوال من أهمية وجوهرية حضور القضية الفلسطينية في قلب الحركة الطلابية الجديدة في الولايات المتحدة، ولكنه يضع الأمور في نصابها بالمعنى الموضوعي، ويسعى لكشف أعماقها وأبعادها الفعلية؛ فوجود فلسطين في مركز الحدث، ليس أمراً تصادفياً بحالٍ من الأحوال؛ فـ«إسرائيل» هي التجسيد الأكثر وضوحاً لقبح النظام الدولي القائم بمركزه الغربي، وهي التجسيد الملموس لانعدام العدالة الاجتماعية وللمعايير المزدوجة وللنفاق الأخلاقي و«الديمقراطي»، وفي الحقيقة للانحطاط والتعفن الكامل للمنظومة السابقة وانتقالها الشامل نحو العنف السافر المعادي للبشرية بأسرها، بما فيها الشعوب الغربية نفسها.
يعلّمنا أيضاً، تاريخ الحركات الطلابية في الغرب في القرن العشرين، أنها تعمل بمفعول الدومينو، وأنها بالتالي لن تبقى محصورة في الولايات المتحدة وإنما ستعم عمّا قريب الجامعات الأوروبية، وربما تمتد أبعد من ذلك.
يعلّمنا أيضاً، أنّ هذه الاحتجاجات، وإنْ بدأت طلابيةً، إلا أنها في معظم الأحيان، تمتد نحو شرائح أوسع من المجتمع، وخاصة نحو الطبقة العاملة التي تملك كل الأسباب التي تدفعها للاحتجاج ولرص الصفوف عبر أشكالٍ تنظيمية معاصرة أشد تعقيداً، ومرونة في الوقت نفسه، من الصيغ التنظيمية التي كانت سائدةً ضمن الفضاء السياسي القديم، وبما يسهم بشكلٍ ملموس في خلق الفضاء السياسي الجديد.
تجارب الحركات الطلابية السابقة، وخاصة في فرنسا 1968، هي أيضاً، تعلّمنا وتعلم الحركة الصاعدة ألا تقع في أخطائها، وألا يتم حرفها واستخدامها من جانب النخبة نفسها التي انتفضت ضدها، وذلك في إطار النضج الموضوعي المتعاظم للثلاثية الثورية الأساسية: أ. أولئك الذين فوق لم يعودوا قادرين على مواصلة الحكم بالطرق السابقة (وهذا يعبّر عن أحد أوجهه الانقسامُ العميق غير المسبوق، والذاهب نحو مزيد من الحدة، ضمن النخبة الأمريكية)، ب. الذين تحت يرفضون استمرار الحكم بالطرق السابقة، (والنخب عالمياً، ترى في محكوميها الداخليين عدوها الأخطر والأكثر أساسية، وهذا ينطبق بشكلٍ أوضح في الحالة الأمريكية)، ج. نشاط سياسي متصاعد للجماهير. وفي إطار استكمال وتنضيج هذه الثلاثية، يبرز عنصرها الأهم؛ العامل الذاتي المتمثل ليس فقط بنشاط سياسي متصاعد لمن هم تحت، بل ومنظّم.
رغم أنّ الحركة ما تزال في بداياتها الأولى، إلا أنّ تلمُّس عمقها وجوهرها، يسمح بالقول إنها تمظهر سافرٌ للأزمة الأمريكية الداخلية من جهة، وأهم من ذلك أنها تمظهر لأزمة المنظومة العالمية بأسرها ليس ببعدها السياسي فحسب، بل وأيضاً بوصفها أزمة في النموذج الاقتصادي-الاجتماعي السائد في الكوكب؛ النموذج الرأسمالي.
التأثيرات التي ستحملها هذه الحركة، وتداعياتها القادمة، من شأنها أن تسهم إسهاماً جدياً في عملية التحول العالمي الكبرى الجارية، ومن شأنها أن تساهم في تسريعها؛ وإذا كانت الحركات الطلابية قد تمّ الالتفاف عليها عام 1968، فإنها مضت نحو غاياتها النهائية في مناسبات أخرى عديدة -ليس كفاعل وحيد، ولكن كفاعل مهم- بينها إنهاء دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وإنهاء حرب فيتنام. وليس بعيداً، أن تمضي -في نهاية المطاف- نحو ما ترفعه من شعارات اليوم بخصوص فلسطين، وربما أبعد وأعمق من ذلك، ما تعد به من شعارات لم ترفع بعد تخص الداخل الأمريكي نفسه.
هذا كلّه، يؤكد ليس فقط أنّ العالم كلّه يعيش مرحلة تحول كبرى، بل يعيد إلقاء الضوء على أننا في سورية نسير حتى الآن عكس التاريخ، وأنّ استمرار المصالح الضيقة الأنانية في تحديد اتجاهنا يجب أن يتوقف فوراً، عبر حلٍّ سياسي شامل بالاستناد إلى 2254، يعيد توحيد الشعب والبلاد، وينقلنا من هامش التاريخ والأحداث إلى متنهما!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1172