الحركة الاحتجاجية الطلابية في الولايات المتحدة بعد أسبوع ... معالمها ومطالبها الأساسية، وأيّ أفقٍ تعد به؟
مرّ أكثر من أسبوع على انطلاق الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الجامعات الأمريكية، ولا تزال في طور التوسع والصعود؛ فالاحتجاجات التي بدأت في جامعة كولومبيا، قد ضمت حتى الآن أكثر من 60 جامعة في مختلف أرجاء الولايات المتحدة، وباشتراك عشرات الألوف من الطلاب ومن الكوادر التدريسية والإدارية ضمن الجامعات.
وبدأت تتصاعد بالتوازي عمليات قمع هذه الاحتجاجات وترهيبها وتخويفها، وضمناً تم اعتقال قرابة 600 طالب ومدرس خلال الأسبوع الأول، مع تدخلات لا تزال محدودة للشرطة وتهديدات بنزول «الحرس الوطني» إلى الجامعات لفض الاعتصامات بالقوة، وهو السيناريو الذي إنْ حدث فعلاً، فستكون وصفة فيتنام والاحتجاجات الطلابية بين 1968-1970 قد اكتملت بكل وجوهها. وذلك مع العلم أنّ الحركة الحالية، ورغم أنها لا تزال في أسبوعها الأول، قد تجاوزت بالفعل ما جرى أيام فيتنام من حيث طبيعة الشعارات والمطالب المرفوعة.
في هذه المادة، نحاول قراءة هذه الحركة واستشراف آفاقها، عبر محطتين أساسيتين؛ الأولى هي تثبيت الوقائع والمعطيات، بما في ذلك ما تتداوله الصحافة الأمريكية حول الحدث، والثانية هي محاولة للخروج ببعض الاستنتاجات الأولية في ضوء المعطيات.
أولاً: المعطيات وما قالته الصحف
1-ما هي المطالب؟
إضافة إلى الشعارات السياسية الواضحة المطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الإبادة الجماعية التي تمارسها «إسرائيل»، فإنّ مطلباً أساسياً مشتركاً لم يتم إلقاء الضوء عليه بما يكفي في التغطية العربية للاحتجاجات الطلابية الأمريكية؛ يمتاز المطلب المقصود بأنه ملموس وذو تأثير مباشر، وهو السياسة المالية للجامعات الأمريكية، ومطالب الطلاب بفك ارتباط الجامعات مع كل من الكيان بمؤسساته المختلفة من جهة، وأكثر من ذلك، فك ارتباط الجامعات مالياً مع المجمع الصناعي العسكري الأمريكي... فمن المعروف أنّ معظم الجامعات في الولايات المتحدة تستند في تمويلها (وبالتالي في سياساتها) إلى شركات عملاقة، قسم أساسي منها مرتبط بالمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وبمنظمات صهيونية مثل آيباك وبمنظمات من طراز منظمات سوروس، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإنّ هذه الجامعات تستثمر التمويل الذي تتلقاه ضمن مجموعة من النشاطات وصناديق التحوط، هي الأخرى مرتبطة بالجهات السابقة، ما يغلق الدارة بشكلٍ كامل، ويجعل الجامعات وإداراتها وتوجهاتها محكومة بأشكال مباشرة وغير مباشرة لسياسات هذه الجهات.
وفق مقالة نشرها موقع «الغارديان» في 27 نيسان: «يستمر ظهور مطلب واحد من الطلاب في جميع المدارس: سحب الاستثمارات من «إسرائيل». وبحسب المقالة فإن «الجامعات تعتمد على الهبات لتمويل الأبحاث والمنح الدراسية، وعادة ما يتم استثمار هذه الهبات في الشركات وفئات الأصول البديلة، مثل الأسهم الخاصة وصناديق التحوط... والدعوات لسحب الاستثمارات هي مطالبات ببيع الاستثمارات في الشركات التي يقول الطلاب إنها متواطئة في الحرب».
وبحسب المقالة «في جامعة كولومبيا، يطالب الطلاب الجامعة بإسقاط استثماراتها المباشرة في الشركات التي تمارس أعمالاً تجارية في (إسرائيل) أو معها، بما في ذلك أمازون وجوجل... وبالمثل، دعا الطلاب في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إلى سحب الاستثمارات من (إسرائيل) في جميع المجالات، كما فعلت المجموعات الطلابية في جامعة نيويورك... بينما تدفع مجموعات أخرى، مثل تحالف العدالة في جامعة ييل والمجموعات الطلابية في جامعة كورنيل، المسؤولين إلى إسقاط الاستثمارات في شركات تصنيع الأسلحة على وجه التحديد»، كما وسعت بعض الاحتجاجات مطالبها إلى مطالب ذات طابع بيئي، رابطين ما تقوم به «إسرائيل» في سياق حربها على غزة بآثار بيئية كارثية.
وفق مقالة نشرها موقع «أكسيوس» في 27 نيسان، تختلف أهداف هذه الاحتجاجات من جامعة إلى أخرى، ولكنها تتفق في مطلب أساسي؛ «في العديد منها، دعا المتظاهرون الجامعات إلى سحب استثماراتها من الشركات التي لها روابط «بإسرائيل». كما وضعت المقالة المطالب الأساسية للطلاب في خمس جامعات رئيسية مشاركة في الاحتجاجات وعلى رأسها جامعة كولومبيا في نيويورك، ومن بين هذه المطالب في جامعات كولومبيا وييل وبرينستون وجامعة جنوب كاليفورنيا وهارفارد:
• دعم وقف دائم لإطلاق النار في غزة.
• سحب الاستثمارات من الشركات التي تستفيد من الفصل العنصري «الإسرائيلي» والإبادة الجماعية والاحتلال في فلسطين، وتطبيق المزيد من الشفافية حول الاستثمارات...
• إنهاء أعمال الشرطة في الحرم الجامعي.
• سحب الاستثمارات من الشركات المصنعة للأسلحة العسكرية والكشف عن المكان الذي تستثمر فيه الجامعة أموالها...
• قطع العلاقات مع المؤسسات الأكاديمية «الإسرائيلية»، بما في ذلك مركز كولومبيا العالمي في تل أبيب وبرنامجها المزدوج مع جامعة تل أبيب، وإنهاء برامج الدراسة في الخارج في «إسرائيل».
• الكشف عن الشركات «الإسرائيلية» التي «تستفيد من الفصل العنصري الإسرائيلي والإبادة الجماعية والاحتلال في فلسطين، بما في ذلك الجيش الأمريكي وتصنيع الأسلحة» وسحب استثماراتها منها...
• الكشف عن أي استثمارات في «إسرائيل» وسحبها... و«إعادة استثمار الموارد في المبادرات الأكاديمية والمجتمعات والثقافة الفلسطينية».
2- أرقام...
وفق الخارطة التي وردت في المقالة السابقة، وصل عدد الجامعات التي خرجت فيها الاحتجاجات الطلابية إلى ما يقارب 60 جامعة في أنحاء الولايات المتحدة.
نشر موقع «أكسيوس» مقالة في 27 نيسان بيّن فيها مواقع التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة. ووفق المقال، تم حتى تاريخه «اعتقال حوالي 600 شخص في الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في 15 حرماً جامعياً على الأقل في جميع أنحاء الولايات المتحدة خلال ما يزيد قليلاً عن أسبوع... وحدثت غالبية الاعتقالات في الاحتجاجات التي أخذت شكل التخييم والاعتصام».
3- التأثير المعنوي-السياسي أكبر من الاقتصادي
عدد كبير من الجهات الإعلامية، وبالأخص الغربية، تغطي بشكل واسع الاحتجاجات التي تستمر وتتوسع إلى عدد أكبر من الجامعات في الولايات المتحدة، إضافة إلى بدء ظهور تحركات مشابهة في جامعات في دول غربية أخرى مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وأستراليا.
تتفاوت الآراء الواردة في الإعلام الغربي حول الموضوع. ولكن ما هو واضح هو أن الاحتجاجات أصبحت بؤرة اهتمام عام، إلى ذلك الحد أن معظم الجهات الإعلامية، بالأخص الأمريكية، وضعت على مواقعها الرسمية بوابة خاصة لمتابعة آخر المستجدات المرتبطة بهذه الاحتجاجات.
إحدى النقاط التي تتحدث عنها بعض الجهات الإعلامية تتعلق بمدى التأثير الذي يمكن أن يحدثه التجاوب مع مطالب المحتجين، وبالأخص موضوع سحب الجامعات للاستثمارات ذات الصلة بـ «إسرائيل». ويمكن القول إن هناك شبه إجماع في التحليلات المقدمة، أنّ التأثير الاقتصادي- في حال الاستجابة لهذه المطالب- سيكون أقل خطراً بكثير من التأثيرات الأخرى السياسية والمعنوية لمثل هذه المطالب...
في مقالة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أيام، يقول أحد الخبراء: «إذا كان الهدف من سحب الاستثمارات هو تحقيق هدف اجتماعي معين من خلال تغيير سلوك الشركات المستهدفة، فمن المرجح أن يفشل هذا الهدف»، ويضيف «إذا كانت منظمة مثل الجامعة تبيع حصتها في شركة مقابل قيمها، فمن المرجح أن يهتم المشتري بالقضية بشكل أقل من اهتمام الجامعة. وهذا بدوره يعني أن صاحب المصلحة الجديد سيمارس ضغوطاً أقل على الشركة لتغيير ممارساتها بشأن قضية مثل بيع الأسلحة «لإسرائيل»... ولكن إذا تم تعريف هدف سحب الاستثمارات على نطاق أوسع كجزء من تحالف الجهود لتغيير القلوب والعقول، فمن الممكن أن ينجح الهدف»، ويقول «إذا كان الهدف هو تعبئة حركة ما، وإظهار الغضب الأخلاقي، فإن الحملات تكون فعالة».
ومع ذلك، فإن الجامعات، وفق المقالة، «ترفض رفضاً قاطعاً تعديل ممتلكاتها استجابةً لاحتجاجات الطلاب. والتقى بعض الإداريين مع الطلاب المطالبين بسحب الاستثمارات، لكن الرسالة العامة كانت أنهم لن يغيروا محافظهم الاستثمارية أو يبيعوا الأصول المرتبطة (بإسرائيل)».
4-الكوادر الإدارية والتعليمية تشترك في الاحتجاجات
سلط الإعلام الضوء أيضاً على مشاركة الكوادر الأكاديمية من دكاترة الجامعة في هذه الاحتجاجات؛ حيث شارك بعضهم مع الطلاب في الاحتجاجات، بينما دافع البعض عن حق الطلاب بالاحتجاج، وكانت أبرز اللقطات التي تم تصويرها وانتشرت على نطاق واسع، هي حادثة اعتقال نويل مكافي، رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري في ولاية جورجيا. وفي فيديو آخر من الجامعة نفسها، يظهر بشكل واضح استخدام العنف في اعتقال المحتجين بما فيه استخدام مسدسات الصعق الكهربائي، كما كانت هناك أنباء عن استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. وفي فيديو من احتجاج في جامعة ولاية أوهايو، تظهر الشرطة وهي تهاجم الطلاب وتستخدم العنف في تقييدهم واعتقالهم.
وذكرت مقالة في موقع «غارديان» أن عدداً من أساتذة الجامعة تم اعتقالهم عندما شاركوا في الاحتجاجات مع طلابهم، من بين أولئك كانت مجموعة من أساتذة جامعة مدينة نيويورك الذين شكلوا حاجزاً بشرياً لحماية طلاب الجامعة المحتجين من الشرطة، وكانوا يهتفون: «للوصول إلى طلابنا، عليكم أن تمروا من خلالنا».
ووفق المقالة، فإن أساتذة عدد من الجامعات التي شهدت احتجاجات طلابية انتقدوا إدارة جامعاتهم التي دعت قوات شرطية وجهات أمنية أخرى لفض الاحتجاجات، والتي استخدمت العنف لتفريق المحتجين السلميين.
5- نعمت شفيق!
وفق ما يمكن رصده، فإن رؤساء الجامعات وقفوا ضد الاحتجاجات، وقد تكون أبرزهم رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، وهي مصرية الأصل، والتي كان لموقفها المنحاز ضد الطلاب على طول الخط، وتهديداتها باستدعاء الحرس الوطني دورٌ كبيرٌ خدم في المحصلة تعزيز وتصاعد الاحتجاجات في جامعتها وفي عموم الجامعات الأمريكية؛ حيث إنها «أدلت بشهادتها أمام مجلس النواب... حول فشلها المزعوم في منع حالات معاداة السامية في الحرم الجامعي. وأثارت تصريحاتها أمام مجلس النواب انتقادات من أعضاء هيئة التدريس في جامعة كولومبيا، الذين انتقدوها لعدم قيامها بدفاع قوي بما فيه الكفاية عن الحرية الأكاديمية». وفي اليوم التالي، عندما بدأت الاحتجاجات بالتصاعد، دعت شفيق «قسم شرطة نيويورك إلى إخلاء المخيم الذي أنشأه الطلاب المحتجون في الجامعة. وتم القبض على مئات الطلاب وتعليق عضويتهم في الجامعة في مشهد فوضوي أثار اهتماماً دولياً وانتقاداً من أعضاء هيئة التدريس والطلاب والجمهور».
6-ذكريات فيتنام والمكارثية وأبارتهايد جنوب أفريقيا... حاضرة
قارنت بعض الجهات الإعلامية ما يحصل في الجامعات وطريقة التعامل مع أي خطاب مؤيد لفلسطين بعدة حوادث من تاريخ الولايات المتحدة، بما فيها الاحتجاجات الطلابية في أواخر ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، والتي خرجت ضد الحرب الأمريكية في فيتنام والتي تعاملت معها السلطات بالطريقة العنيفة ذاتها، وصولاً إلى إطلاق الرصاص الحي على الطلاب في حينه، والذي سقط على إثره 6 طلابٍ قتلى على الأقل.
وكذلك تم تشبيه الهجوم على الخطاب المؤيد لفلسطين والقضية الفلسطينية بما حصل في خمسينيات القرن الماضي بما عرف باسم «المكارثية»، والتي كانت حملة واسعة من القمع الذي أدارته السلطة الأمريكية ضد المثقفين والطلاب بشكلٍ خاص، ومن ثم ضد النقابات العمالية، بحجة ولائهم للشيوعية وللاتحاد السوفياتي.
في مقالة في جريدة «غارديان» في كانون الأول الماضي، تم التطرق إلى هذا الموضوع، حيث تقول المقالة: «لقد علّمنا عصر مكارثي أنه عندما تنخرط الجامعات في جهود ذات دوافع أيديولوجية لمراقبة خطاب الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، فإن هذه الجهود لا تأتي بنتائج عكسية فحسب، بل تلحق أضراراً بالغة بالأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الأكاديمية». وتضيف المقالة: «لقد أصبح الكونغرس الأمريكي وجامعات أيفي ليج ومراكز السلطة الأخرى واقعة في قبضة هستيريا مدبرة تهدف إلى إسكات وترهيب واستجواب الأشخاص والمؤسسات لعدم تأييدهم (لإسرائيل) بالقدر الكافي. من المؤكد أن الطبيعة السخيفة للادعاءات التي يتم طرحهاــ بما في ذلك الغضب الأدائي والاستعراض الساخر لعضوة الكونجرس إليز ستيفانيك، التي وبخت مؤخراً رؤساء العديد من مدارس رابطة آيفي لتسامحهم ظاهرياً مع معاداة السامية في حرمهم الجامعي، من شأنها أن تولد تشبيهات بالمكارثية والخوف الأحمر الثاني».
كما يستذكر البعض عبر ما يحصل اليوم وبالأخص فيما يتعلق بمطالبات المقاطعة وسحب الاستثمارات بالحراك المشابه المتعلق بجنوب إفريقيا ونظام الفصل العنصري فيها في ثمانينات القرن الماضي. وكانت جامعة كولومبيا ذاتها في المقدمة في ذلك الحراك أيضاً، الأمر الذي تحدثت عنه مقالة في «سي إن إن»: «في الثمانينيات، بدأت مجموعة من طلاب جامعة كولومبيا في دعوة المدرسة إلى قطع العلاقات المالية مع الشركات التي تمارس أعمالاً تجارية في جنوب إفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري التي تتبعها... وفي نيسان 1985، قاد الطلاب مظاهرة طلابية استمرت ثلاثة أسابيع ضد استثمارات جامعة كولومبيا في جنوب إفريقيا... بعد أشهر من هذا الاحتجاج، صوّت الأمناء على بيع غالبية أسهم الجامعة في الشركات الأمريكية التي تعمل في جنوب إفريقيا... كانت جامعة كولومبيا أول جامعة في رابطة آيفي تسحب استثماراتها من جنوب إفريقيا، وحذت حذوها العديد من الجامعات الأخرى».
ولكن قد يكون التشبيه الأوضح لما يحصل اليوم هو الاحتجاجات الطلابية في نهاية ستينيات القرن الماضي ضد الحرب الأمريكية في فيتنام، حيث قارنت مقالة على موقع «إن بي سي» ما حصل في جامعة كولومبيا وطلب رئيستها من الشرطة القدوم إلى حرم الجامعة للتصدي للطلاب، بما حصل في الجامعة ذاتها قبل عقود: «آخر مرة استدعى فيها رئيس جامعة كولومبيا الشرطة لتفريق المتظاهرين الطلاب كانت في عام 1968، في ذروة حرب فيتنام»، ويقول شخص كان طالباً عندما قام الطلاب بالاحتجاج ضد حرب فيتنام: «من الواضح أن الرئيسة شفيق ومستشاريها لم يتعلموا من التاريخ».
7-أمور إضافية جرى رصدها
• أظهرت وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى اصطفافها ضد احتجاجات الطلاب بأشكال ودرجات متفاوتة؛ لكنها جميعها أصرت على نسب كل ما يجري- وكما هي العادة مؤخراً- إلى هجوم 7 أكتوبر، في تغاضٍ ضمني وعلني أحياناً عن كل ما جرى بعد ذلك من إرهاب صهيوني وتهجير قسري وإبادة جماعية وجرائم حرب.
• هذه الوسائل نفسها، أفردت مقالات مطولة للترويج لما أسمته «الخوف الذي يشعر به الطلاب اليهود من هذه المظاهرات والاحتجاجات»، والقول بأن الهتافات المناهضة لـ «إسرائيل» تصب في تصاعد «معاداة السامية». إضافة إلى ترويج ادعاءات لا يوجد أي إثبات حولها- حتى ضمن تقاليد أكثر الصحف الصفراء انحطاطاً- من قبيل تعرض طلاب وأساتذة يهود للهجوم من قبل المحتجين. ومع محاولة للتعتيم على الاشتراك اليهودي الواسع النطاق ضمن الاحتجاجات المناصرة لفلسطين. وبين الأمثلة الأكثر وضوحاً على هذا النمط الأصفر من الصحافة، ما نشرته «The Hill»، في مقالة تدعي أنها تحلل «لماذا باتت الجامعات أماكن تجتاحها معاداة السامية»، وأول سبب تتكلم عنه المقالة هو أنه «في العقود الأخيرة، انجرفت مؤسساتنا التعليمية إلى اليسار، مشجعة وأحياناً متحالفة مع الجماعات الليبرالية المتطرفة التي تحتقر القيم التأسيسية للولايات المتحدة. ويدرس الشباب اليوم السياسة المتعلقة بالجندر... ولكنهم لا يتعلمون إلا القليل عن الحرب العالمية الثانية أو الهولوكوست... وهم لا يعرفون تقريباً أي شيء عن تأسيس (إسرائيل) وتاريخ الشرق الأوسط. وفي الفراغ، يمكن تضليلهم بسهولة».
• تبدو وسائل الإعلام الأمريكية ومعها المسؤولون الأمريكيون في أشد درجات الاستفزاز والخيبة من أنّ الاحتجاجات لا تهاجم حماس ولا تعتبرها سبباً فيما يجري؛ وذلك في قطعٍ معرفيٍ مع الدعاية المكثفة الإعلامية- السياسية الرسمية الأمريكية طوال نصف عامٍ مضى. في مقالة في «صوت أمريكا»، يعبر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن عن خيبته بالقول: «من الملاحظ [ضمن الاحتجاجات] أن هناك صمتاً تجاه حماس. يبدو الأمر كما لو أنه لم يكن جزءاً من القصة».
• ربما الأكثر طرافة ضمن الترويج الإعلامي المضاد للاحتجاجات (والذي بالمناسبة تلقفته جهات عربية مرتبطة بالأمريكي والصهيوني وروجت له بكثافة) هو محاولة ربط هذه الاحتجاجات بتمويل يدفع للطلاب، وخاصة من قبل الملياردير اليهودي جورج سوروس. والأمر طريف حقاً لأنّ مؤسسات سوروس بالذات هي أحد المستهدفين الأساسيين ضمن مطالب الطلاب، وكذلك فهو طريفٌ لأنّه يبدو تكراراً هزلياً لدعاية الأنظمة في منطقتنا عن أنّ كل تحرك ضدها هو مؤامرة خارجية ممولة ومدعومة. في مقالة «The Hill» المذكورة أعلاه، يقول الكاتب: «ربما تكون الاحتجاجات التي تجتاح بعض جامعاتنا المرموقة قد بدأت بشكل طبيعي، مع شعور الطلاب بالقلق الحقيقي بشأن مصير الفلسطينيين في غزة، ولكن يبدو أن الاضطرابات الآن موجهة على نحو متزايد من قبل محرضين محترفين»، ويضيف بأن البعض لاحظ بأن الخيم التي يستخدمها الطلاب للتخييم متشابهة جداً (طبعاً هي خيم تخييم عادية وعلى الأغلب لا يوجد الكثير من الخيارات لطلاب الجامعة، حيث إنه من المعروف أن الطلاب لا تكون لديهم عادة الكثير من الموارد، حتى أولئك في أمريكا وفي الجامعات المرموقة)، وعلى أساسه يستنتج وبكل ثقة: «هذا ليس مفاجئاً. هناك أولئك الذين، مثل جورج سوروس، سعداء بتمويل الاحتجاجات التي تناسب قضاياهم التقدمية والتي تتحدى المُثُل والقيم الأساسية لبلدنا. تم ربط أموال سوروس بالمجموعة المناهضة للرأسمالية Adbusters التي بدأت احتجاجات «احتلوا وول ستريت» في عام 2011؛ لقد أصبح الآن مرتبطاً بالمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في حرم جامعاتنا. وبما أن سوروس يهودي، فإن دعمه للجماعات المؤيدة لحماس أمر محير». فعلاً محيّر!
ثانياً: استنتاجات أولية
لا تزال الحركة في خطواتها الأولى فحسب، ولذا ربما من المبكر وضع استنتاجات نهائية حول معانيها وآفاقها المحتملة. مع ذلك، فإنه من الممكن وضع بعض الاستنتاجات الأولية انطلاقاً من سياق مقارن من جهة (أي دراسة هذه الظاهرة بالمقارنة مع الاحتجاجات الطلابية السابقة في الولايات المتحدة)، وفي سياق الظرف الراهن للصراع الدولي والوضع الأمريكي ضمنه.
وعليه، فإنّ بين الاستنتاجات الأولية التي يمكن تثبيتها، ما يلي:
أولاً: الاحتجاجات الطلابية في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، وإلى حد ما في كل الدول الغربية، مرتبطة ببعضها البعض بمعنى تأثير الدومينو، وليس بالمعنى التنظيمي؛ فكل حراك طلابي جرى خلال القرن الماضي في الولايات المتحدة أو في أوروبا، انتقل بعد فترة قصيرة ليعم الجامعات الغربية. ولذا ليس من المفاجئ أننا سنشهد -وبدأنا نشهد بالفعل- انتقال هذه الاحتجاجات نحو أوروبا وأستراليا وأماكن أخرى في العالم.
ثانياً: مع استثناءات قليلة، فإنّ الاحتجاجات الطلابية الكبرى في الولايات المتحدة، حتى وإنْ لم تكن هي السبب الأساسي، إلا أنها وصلت دائماً -وإنْ بعد حين- إلى تحقيق أهدافها؛ ينطبق ذلك على الموقف من العنصرية اتجاه السود، وعلى الموقف من حرب فيتنام، وعلى الموقف من دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وربما هذا بالذات ما يثير ذعر الكيان وذعر داعميه؛ ليس لأنّ هذه الاحتجاجات ستدمر «إسرائيل»، ولكن بالضبط، لأنها مؤشر تاريخي ذو دلالة عميقة بهذا الاتجاه.
ثالثاً: أيضاً عبر قراءة الحراكات الطلابية السابقة، في الولايات المتحدة، وفي أوروبا (لأنّ ظاهرة التوازي والتزامن بينها قد تكررت بما يكفي لاعتبارها قانوناً)، نرى أنّ الحركات دائماً ما كانت تبدأ طلابية وفي الجامعات، ولكنها في معظم الأحوال، تمتد إلى شرائح أوسع من المجتمع، وخاصة باتجاه الطبقة العاملة؛ واشتراك هذه الطبقة بشكلٍ واسع ومنظم (وخاصة بأشكالٍ شبكية متطورة تناسب العصر الراهن) هو الشبح الحقيقي الذي تحسب له النخب ألف حساب.
رابعاً: أكثر من ذلك، فإنّ القراءة التاريخية أيضاً، تفيد بأنّ كل حراكٍ طلابي واسع النطاق جرى في الولايات المتحدة أو في أوروبا خلال خمسين إلى سبعين سنة الماضية، ورغم أنّ شعاره العام قد يبدو متصلاً بقضايا السياسة الخارجية (فيتنام، جنوب إفريقيا، فلسطين، وإلخ)، إلا أنّ مولّده الأساسي كان دائماً داخلياً؛ وبشكل خاص اقتصادياً- اجتماعياً، وجاء متزامناً مع أزمات مالية واقتصادية داخلية، ومع تراجع حاد في القدرات الشرائية، وانغلاق متعاظم لآفاق المستقبل الآمن على المستويات الفردية والجماعية. ما يعني أنّ النخب والسلطات، لا تتعامل مع هذه الاحتجاجات- ومعها كامل الحق في ذلك- على أنها مرتبطة بحدث خارجي، بل بالأساس والجوهر بالوضع الداخلي.
خامساً: التحول السافر داخل الولايات المتحدة نحو القمع السياسي المباشر واسع النطاق أيام جوزيف مكارثي في أوائل خمسينيات القرن الماضي [1950-1954] جاء محمولاً على صعودٍ اقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية، بناء على مفاعيل بريتين وودز ومشروع مارشال والاستثمار بالحرب الباردة، وذلك في وقت أسهمت فيه الولايات المتحدة بما يتجاوز 30% من إجمالي الناتج العالمي. التحول نحو القمع المباشر اليوم، قصة أخرى مختلفة تماماً؛ فهو يأتي في ظل ظروفٍ تكاد تكون معاكسةً بالكامل؛ ظروف لا يرتفع فيها التضخم بشكلٍ مستمر فحسب، بل وتتراجع حصة الولايات المتحدة من الناتج العالمي، وتتعمق داخلها الهوة الاجتماعية، ويتم بشكلٍ سنويٍ تخفيض حصة الأجور من الناتج، وتخفيض مستوى الحريات السياسية والخدمات الاجتماعية اللتان كانتا أداتين أساسيتين في استيعاب الموجات السابقة من الحراكات الطلابية والشعبية على العموم... هذا الواقع، يعزز من احتمالات توسع الاحتجاجات خارج شريحة الطلاب وباتجاه الطبقة العاملة والفلاحين والمنتجين الصغار...
سادساً: تأتي هذه الاحتجاجات أيضاً عشية انتخابات رئاسية ربما تكون الأخطر في التاريخ الأمريكي، وربما تكون الأشد استقطابيةً وشراسة، وعلى خلفية انقسامٍ غير مسبوق بين الولايات الأمريكية بحيث بات توزع ألوانها بين أحمر وأزرق (جمهوري وديمقراطي)، أكثر ثباتاً ورسوخاً من أي مرحلة تاريخية سابقة؛ وضمناً انقسام بين ساحل وداخل، بين تكنولوجيا عالية وتقليدية، بين شركات عابرة للقارات، وشركات أكثر محلية. هذا كله من شأنه أن يفتح احتمالات واسعة أمام الطريقة التي يمكن أن تتطور ضمنها الحركة الطلابية؛ ولكن ما يبدو مؤكداً تقريباً هو أنّ الدور العالمي للولايات المتحدة سيقع تحت ضغط أكبر خلال الشهور والسنوات القليلة القادمة، مع احتمالات انتقال الفوضى التي نشرتها واشنطن في كل العالم إلى الداخل الأمريكي نفسه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1172