لماذا جنوب إفريقيا؟ ما هو المسار القانوني للقضية؟ ولماذا امتثلت «إسرائيل» للحضور؟
بدأت محكمة العدل الدولية يوم الخميس الماضي، 11 كانون الثاني، النظر في الطلب الذي تقدمت به جنوب إفريقيا في 29 كانون الأول 2023، والذي اتهمت فيه «إسرائيل» بارتكاب جريمة «الإبادة الجماعية» بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، على أساس انتهاك «إسرائيل» التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وعلى أساس عضوية الطرفين في الاتفاقية. وهذه المرة الأولى التي يتم فيها رفع قضية ضد الكيان الصهيوني في هذه المحكمة، ولكن في عام 2004 نظرت المحكمة في طلب لرأي استشاري متعلق بالكيان، وبالتحديد حول الجدار العازل الذي أقامه الكيان على أراضي الضفة الغربية المحتلة، والتي خلصت المحكمة إلى عدم قانونيته. كما يوجد أمام المحكمة طلب لرأي استشاري آخر– لم يتم إصدار قرار فيه بعد– وتمت إحالة هذا الطلب من الجمعية العامة في نهاية عام 2022 حول التبعات القانونية «للاحتلال الإسرائيلي والاستيطان والضم».
غطت الكثير من الجهات الإعلامية والسياسية والحقوقية الجلسات التي قدم فيها الطرفان مرافعتهما، كما تم تداول الكثير من المعلومات العامة حول محكمة العدل الدولية، واتفاقية منع الإبادة الجماعية، وما يحصل في غزة منذ 7 تشرين الأول الماضي. لن نقوم هنا بتغطية هذا النوع من المعلومات، إنما سنحاول أن نجيب عن بعض الأسئلة الأساسية بشكل مختصر، والتي يمكن التوسع بكل منها في مواد لاحقة.
لماذا جنوب إفريقيا؟
لدى دولة جنوب إفريقيا رمزية مهمة كدولة تحررت من أطول حكم لنظام فصل عنصري منذ عام 1948 وحتى عام 1994، وتخللت تلك الفترة حركة مقاومة مهمة تابعة للمؤتمر الوطني الإفريقي، ما يجعل جنوب إفريقيا، دولة تعي تماماً تداعيات العيش تحت سلطة نظام فصل عنصري– كما تم توصيف «إسرائيل» قانونياً من قبل العديد من الجهات الدولية والحقوقية– أي أن هناك جانباً أخلاقياً على أساس التاريخ المشترك في النضال لتقرير المصير.
ومن الجدير بالذكر، أن آخر ثلاث دول استمرت بدعم نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا كانت بريطانيا وأمريكا و«إسرائيل»، كما أن أمريكا لم تُزل مانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي من لوائح الإرهاب حتى عام 2008، أي بعد 14 سنة من زوال نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
بالمقابل، هناك تاريخياً علاقات مهمة بين جنوب إفريقيا وحركات التحرر في المنطقة، وبالتحديد مع فلسطين والجزائر وليبيا. على سبيل المثال: «رمح الأمة» وهو الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي، والذي تم تأسيسه في 1961 بعد عدم تلقي أي تجاوب لإحداث إصلاحات من خلال العمل السلمي، والوصول إلى قناعة بأنه لا يمكن الاستمرار في العمل السلمي وحده، تلقت كوادر هذا التنظيم تدريبات عسكرية في عدد من الدول، من بينها الجزائر. كما كانت منظمة التحرير الفلسطينية من الجهات الداعمة والمؤيدة لحق المؤتمر الوطني الإفريقي بالنضال بكافة الوسائل ضد نظام الفصل العنصري، وتعود هذه العلاقة إلى سبعينيات القرن الماضي.
من جانب آخر، تعد جنوب إفريقيا من أكبر مناصري القضية الفلسطينية، وأقامت جنوب إفريقيا علاقات دبلوماسية مع فلسطين في عام 1995، أي بعد عام من انتهاء نظام الفصل العنصري لديها. كما أن جنوب إفريقيا كانت وما زالت في طليعة الدول التي تنتقد ممارسات الكيان الصهيوني في فلسطين وبحق الشعب الفلسطيني. على سبيل المثال: في شهر تشرين الثاني 2023، صوت برلمان جنوب إفريقيا لصالح مقترح يدعو إلى إغلاق سفارة «إسرائيل» في جنوب إفريقيا، وتعليق العلاقات الدبلوماسية على خلفية العدوان «الإسرائيلي» على غزة. كما أن جنوب إفريقيا لم يكن لديها سفير في الكيان منذ عام 2018.
بالرغم من كل ذلك، هناك أهمية من ناحية الشكل لتقدم جنوب إفريقيا بهذا الطلب في أعلى سلطة قضائية دولية، حيث إن جنوب إفريقيا لا تشارك أي حدود مع الكيان، ولا يوجد بالمعنى العسكري صراع مباشر بينهما. كما أن جنوب إفريقيا ليست دولة عربية أو مسلمة، لذلك بمعنىً ما، هي دولة «غير منحازة»، إذا تم غض النظر عن الجانب الأخلاقي القيمي والتاريخي، أي بهذا المعنى والجانب، نعم هناك «صراع» بين الطرفين.
ما هو المسار القانوني للقضية؟
محكمة العدل الدولية هي الذراع القضائي الأساسي للأمم المتحدة، وتتولى الفصل في النزاعات القانونية بين الدول، على أساس الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي وقعت وصادقت عليها الدول الأطراف، ما يجعلها ملزمة بالامتثال لها، كما تقدم المحكمة آراء استشارية حول أمور قانونية تحيلها إليها أجهزة ووكالات الأمم المتحدة. وفي هذه القضية، بما أن الطرفين موقعان على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، يحق لجنوب إفريقيا التقدم بشكوى ضد «إسرائيل»، بغض النظر عن أن الدولة التي قدمت الشكوى ليست متضررة من الجهة التي تم تقديم الشكوى ضدها.
كما هو معروف، الفصل في هذه القضايا قد يستغرق سنوات، وفي قضايا سابقة على أساس الاتفاقية ذاتها، مثل: القضية التي قدمتها كرواتيا ضد صربيا في تموز من عام 1999، صدر الحكم النهائي فيها في شباط من عام 2015. بكلام آخر، ليس من المتوقع أن تحكم المحكمة فيما إذا كانت «إسرائيل» قد ارتكبت إبادة جماعية في هذه المرحلة من القضية، ولكنها ستنظر على المدى القريب في «التدابير المؤقتة» التي طالبت بها جنوب إفريقيا، ومن بينها، أن تأمر المحكمة «إسرائيل» بتعليق عملياتها العسكرية، واتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع الإبادة الجماعية، والامتناع عن ارتكاب أي أعمال تشكل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. ونظراً للحاجة الملحة إلى اتخاذ تدابير مؤقتة، وخطر حدوث أضرار جسيمة وغير قابلة للعلاج، فإن هذه المطالب تأخذ الأولوية في عمل المحكمة، وعادة يتم الفصل فيها في غضون أسابيع.
ولكن من المهم التنويه إلى أن الأوامر الصادرة عن المحكمة، بما فيها التدابير المؤقتة، ملزمة للأطراف، ولكن المحكمة ليست لديها آلية لتنفيذها، وفي كثير من الحالات يتم تجاهلها من قبل الأطراف المعنية، وعلى أساس ما قامت به «إسرائيل» حتى الآن، فهذا ما هو متوقع أن تقوم به، أي أن تتجاهل أي أمر يصدر عن المحكمة. وكذلك بالنسبة للحكم النهائي في القضية، وبينما لا يمكن الطعن فيه وهو ملزم للأطراف، إلا أن المحكمة تفتقد لآلية لفرض تنفيذه. ولكن في حالة التدابير المؤقتة– في حال أمرت بها المحكمة– أو الحكم النهائي، يمكن للمحكمة أن تحيل الأمر إلى مجلس الأمن، والذي لديه، وفق المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، صلاحية التوصية، أو اتخاذ قرار بشأن التدابير التي يتعين اتخاذها لتنفيذ الحكم.
في هذا السياق، من المتوقع أن تستخدم الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» لمنع أي قرار يمسّ بالكيان وقدرته على الاستمرار في عدوانه. وبينما يمكن القول: إن استخدام أمريكا لحق النقض على أساس طلب من أحد الأجسام الأساسية للأمم المتحدة، وإحدى أعلى السلطات القضائية الدولية هو أمر محرج، إلا أن هذا الأمر لم يكن يوماً محرجاً لواشنطن، وهي التي لها باع طويل في تأييد الكيان وممارساته العدوانية على مدى عقود، وحتى فيما يتعلق بالعدوان الحالي على غزة، فإن الولايات المتحدة أفشلت كل القرارات في مجلس الأمن، بما فيها تلك التي طالبت بهدنة لأسباب إنسانية، وصوتت بين بضعة دول ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الأمر ذاته.
مواقف الدول من القضية؟
هناك عدد من الدول والمنظمات الإقليمية التي أبدت دعمها للقضية التي تقدمت بها جنوب إفريقيا ضد «إسرائيل» ورحبت بها، ومعظم هذه الدول يمكن وصفها أنها من «الجنوب العالمي»، ولم تدعم أي دولة غربية القضية، بينما عارضت بعض الدول القضية بشكل صريح، أو من خلال تصريحات لمسؤوليها، ومنها: الولايات المتحدة– طبعاً– وبريطانيا وألمانيا والمجر وغواتيمالا وباراغواي.
ووفق بعض المصادر، فإن جنوب إفريقيا أعربت عن رغبتها في استكمال القضية لوحدها. وكان أحد الأسباب الأساسية وراء ذلك هو ضيق الوقت، حيث إن انضمام أي دولة بشكل رسمي إلى القضية كان سيتطلب تقديم هذه الدول المزيد من الشكاوى والوثائق لتنضم بشكل رسمي إلى القضية، الأمر الذي كان سيؤجل جلسات الاستماع الأولى، والتي جرت الخميس والجمعة الماضيين، الأمر الذي لم ترغب به جنوب إفريقيا.
من جهة أخرى، صرحت تونس من خلال وزارة خارجيتها، يوماً قبل الجلسة الافتتاحية في المحكمة، «أنها لن تنضم لأي دعوى تقدم ضد الكيان المحتل أمام محكمة العدل الدولية، لما في ذلك من اعتراف ضمني بهذا الكيان».
وبينما الجزائر لم تنضم إلى قائمة الدول الداعمة للقضية المرفوعة، وعلى الأغلب لذات الأسباب التي دفعت تونس لاتخاذ الموقف ذاته، إلا أنه من المهم التذكير بأن الجزائر قادت المبادرة التي دعت فيها محكمة الجنايات الدولية في 7 تشرين الثاني 2023 إلى فتح تحقيق في ممارسات «إسرائيل» وتحميلها المسؤولية الجنائية، عندما ناشد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون المحكمة باتخاذ إجراءات لمحاسبة «إسرائيل» على الجرائم التي ترتكبها ضد الفلسطينيين في غزة. وترجح مصادر عديدة أنّ الإعداد القانوني للقضية المرفوعة قد جرى بتعاون وثيق بين الجزائر وجنوب إفريقيا، المعروف عنهما علاقاتهما القوية وتنسيقهما المستمر في محافل دولية متعددة، وخاصة على الساحة الإفريقية التي يقودان ضمنها عمليات تطويق النفوذ الصهيوني، كما جرى في الدورة 36 لقمة الاتحاد الإفريقي في شباط 2023 والتي تم خلالها طرد الوفد «الإسرائيلي» بجهد مشترك جزائري- جنوب إفريقي، كما اعترفت لاحقاً «إسرائيل» نفسها.
لماذا ذهبت «إسرائيل» إلى المحكمة؟
بداية، وكما ذكرنا أعلاه، فإن «إسرائيل» موقعة على الاتفاقية المعنية بالقضية، لذلك لا يمكن ادعاء بأن المحكمة ليس لها سلطة للنظر في القضية أو الفصل فيها. ولكن مجرد أن تكون الدولة موقعة فإنّ ذلك لا يلزمها بالظهور في المحكمة أو الامتثال لأوامرها، ولكن عدم الظهور في المحكمة له عدة تداعيات قد تكون أسوأ على الكيان من حضور المحاكمة.
أولاً: في حال عدم الحضور، يمكن للمحكمة أن تصدر حكمها غيابياً، وهذا يعني أن الطرف المدعي، أي جنوب إفريقيا، هو الوحيد الذي سيقدم مرافعته دون أي إجابة أو «دفاع» من قبل الطرف المدعى عليه– أي «إسرائيل»– وهذا يعني أيضاً، أن الحكم على الأغلب يمكن أن يصدر في وقت أقصر.
ثانياً: من الناحية الشكلية والإعلامية، إذا صح التعبير، عدم الحضور يمكن أن يكون «محرجاً» للكيان أمام داعميه بالدرجة الأولى، لعدة أسباب، منها: أن عدم الحضور هو دليل إضافي على استخفاف الكيان وتجاهله الكامل للمنظومة والقوانين الدولية، وهذا ليس لصالح الكيان في هذا التوقيت، الذي يستمر فيه انخفاض رصيده شعبياً حول العالم. عدا عن أن السردية السائدة هي أن اتفاقية منع الإبادة الجماعية كانت بشكل أساسي رداً على «المحرقة اليهودية»، لذلك أي فعل يُظهر الاستخفاف بهذه الاتفاقية ليس لصالح الكيان على الساحة الدولية، ونقطة سلبية إضافية فيما يتعلق بالرأي العام الدولي، بالأخص لما يحظى به الموضوع من تغطية هائلة.
ثالثاً: وفي السياق ذاته، يمكن للكيان، وكما حاول فريقه القانوني يوم الجمعة الماضي، أن يستخدم هذه التغطية وهذا المنبر للترويج للسرديات ذاتها التي استخدمها خلال الأشهر الماضية، لتصوير نفسه كضحية وتسويق مزاعم حقه بـ «الدفاع عن النفس».
رابعاً: في سياق تجنب القرار السريع في حال عدم الظهور في المحكمة من خلال حكم غيابي، الظهور في المحكمة سيضمن– حتى في حال أمرت المحكمة بتدابير مؤقتة– أن تستمر القضية لسنوات، الأمر الذي يمكن أن تستفيد منه «إسرائيل» في عدة جوانب، ومنها: تأجيل الحكم بأنها تقوم بالإبادة الجماعية لعدة سنوات، وهذا يمكن أن يعطي الكيان القدرة على الاستمرار بممارساته الوحشية.
خامساً: وبما أنه من المؤكد، أن ذهاب «إسرائيل» إلى المحكمة كان بنصيحة أو طلب أو تنسيق أمريكي، فإن ذلك سيدعم أمريكا في سياساتها وخططها. من ناحية، فإن ظهور «إسرائيل» في المحكمة وتقديم مرافعتها وردها على الاتهامات التي وجهتها لها جنوب إفريقيا، يمكن أن يدعم أمريكا عندما تقوم باستخدام حق النقض في مجلس الأمن، في أي أوامر تصدر عن المحكمة. كما أن أمريكا يمكنها ابتزاز «إسرائيل» نفسها لأنها تحمل في يدها حق النقض، الذي يمكن أن تستخدمه لإنقاذ «إسرائيل»، ما يعني قدرتها على استخدام ذلك للتحكم بتحركات «إسرائيل» بشكل أكبر من خلال التلويح بعدم استخدام «الفيتو». إضافة إلى كل ذلك، فإن تأجيل إصدار الحكم من خلال ظهور «إسرائيل» في المحكمة سيساعد في إطالة أمد الحرب، الأمر الذي يتناغم مع الخطة الأمريكية في المنطقة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1157