ما بين سطور مشروع البرنامج.. تناقضات عالم التعددية القطبية

ما بين سطور مشروع البرنامج.. تناقضات عالم التعددية القطبية

الشرط الأساسي في أي برنامج ماركسي هو تحديد المهام التي ينبغي النضال من أجلها في كل مرحلة، على أساس اكتشاف وتحديد التناقض الأساسي، وتالياً: العدو الأساسي– وتحديد القوى التي يمكن التحالف معها، والقوى التي يمكن تحييدها، وهذا ما يمكن تلمسه ما بين سطور مشروع البرنامج، إلا إن الأمر ربما يتطلب تبويباً أفضل، بحيث يكون أوضح، وفي متناول الشرائح الاجتماعية المستهدفة.

تتعدد تناقضات عالم التعددية القطبية، فهي: تناقض بين رأس المال المالي، ورأس المال المنتج وملاك الثروة الطبيعية. تناقض بين دولة الشركات، ورأسمالية الدولة. تناقض بين من يطوّر القوى المنتجة، ومن يعيق تطورها ويدمرها إذا اقتضى الأمر. تناقض بين قوى تساهم في النمو، وقوى تعيق النمو.. جدير بالذكر هنا، إن أي نظام اجتماعي عبر التاريخ كله عندما كان يعجز عن تحقيق النمو، كان يفقد مبررات وجوده، وبالتالي، يضع أسس انهياره، فتحقيق النمو الحقيقي شرط وجود أي نظام اقتصادي– اجتماعي، حسب كارل ماركس، وإذا حاولنا أن نكثف كل هذا التناقضات، نستطيع القول: إن التناقض الأساسي في مرحلة التعددية القطبية هو تناقض بين قوى من مصلحتها تحقيق التقدم الاجتماعي العابر للحدود، وأخرى تعيق هذه العملية، ومن هنا كان الدور التقدمي التاريخي الذي تلعبه القوى الصاعدة، وذلك هو خط الفصل الأساسي الذي لا تستطيع بعض أطراف الماركسية التقليدية رؤيته حتى الآن، فترى في الصراع الدائر مجرد (صراع إمبريالي) على مناطق النفوذ، ومزاحمة على الأسواق بين الاحتكارات! ربما لا يخلو هذا الصراع من المزاحمة من حيث الشكل على الأقل، ولكن هي مزاحمة لها محتوى آخر غير ذلك الذي عرفناه خلال تطور الرأسمالية التاريخي، وخصوصاً مسألة تقاسم النفوذ، فلا مجال لأي عملية تقاسم في ظل (الاستعمار الدولاري) ليس لأن القوى الصاعدة- أو على الأقل بعض أطرافها- لا تريد ذلك، بل قبل ذلك بسبب طبيعة الطرف النقيض، أي قوى رأس المال المالي، وأداتها الأساسية في تحقيق الربح، التي لا تقبل أي نوع من الشراكة، لماذا؟ لأن رافعتها الأساسية (الدولار) المتحرر من شرط وجود معادل/إنتاجي– بضاعي/متناسب معه، ليس مجرد نقد، بل نقد وبضاعة تفيض عن حاجة السوق، بعد سنوات طويلة من سياسات التيسير الكمي، وبمجرد وجود عملة موازية فعّالة (شريك غير تابع) يقلّ الطلب عليها، ويصبح الدولار مهدداً في قيمته أولاً، وفي دوره وسيادته، ومن ثم في وجوده ثانياً، مثله مثل أي بضاعة، فالدولار يستمد هيمنته أصلاً من تفرّده، وطابعه الاحتكاري، لاسيما وإن هذه العملة الموازية- المنافسة مدعومة بأعلى نسب من المساهمة في النمو العالمي، وبالقدرة الإنتاجية لـ (مصنع العالم)، وبـ (خزان) الثروة الطبيعية الحقيقية، وسوق استهلاك يزيد عدد المستهلكين فيها- حتى قبل انطلاقها بكل أركانها- عن نصف سكان العالم، وقابلة لمزيد من التوسع؟ وإن العملة أو العملات الموازية تخص، بنى سكانية تعتبر نسبياً مجتمعات شابة بالمقاييس العمرية، ويد عاملة رخيصة، ودول حافظت على هوية ثقافية جامعة، وبنى تاريخية تعتبر الروح الجماعية، والتضامن الاجتماعي إحدى مكونات عالمها الروحي؟
أضف إلى ذلك، إن قلق قوى رأس المال المالي من بروز منافسين يفرض عليها خيارات إلزامية تزيد من مآزقها، فديكتاتورية العقوبات أحادية الجانب، وقرارات رفع سعر الفائدة، وقانون مكافحة التضخم في الولايات المتحدة، تكفي لتحويل النموذج الاقتصادي الأمريكي إلى قوة نابذة، وهذا ما يفسر انفضاض حلفاء واشنطن التاريخيين عنها في السنوات الأخيرة.
إن لجم نموذج رأس المال المالي المهيمن، وكسر هيمنة عموده الفقري (الدولار) هو مفتاح كل التحولات الجارية في العالم المعاصر، ودون ذلك ليس بالإمكان تحقيق أية مهمة جديدة على طريق تطور البشرية الموضوعي.
فيما يخص البلدان الطرفية وسورية منها، فإن عالم التعددية القطبية يوفر لها فرصة تاريخية، بإزاحة الكومبرادور نهائياً، فهذا الأخير ترعرع في ظل منظومة التبادل اللامتكافىء، ولم يزدد تأثيره، وقدرته على التحكم بمصائر البلدان الطرفية، إلّا لأنه استطالة لمنظومة رأس المال المالي المعولم، ومع تراجع قدرات مركز المنظومة، وإمكانيته في التحكم، فإن أدواته وكل توابعه في البلدان الطرفية تفقد مبررات وجودها التاريخي، خصوصاً وإن الكومبرادور لا يملك أية قاعدة اجتماعية حقيقية في بلدان المنشأ، وكان على الدوام مولوداً طارئاً- غريباً ومنبوذاً.
مثلها مثل كل التناقضات في التاريخ، ينبغي النظر إلى تناقضات مرحلة الثنائية القطبية من خلال حركتها (اتجاه تطورها) وفي هذا السياق، فالقوى الصاعدة محكومة بتجذير المعركة مع قوى رأس المال المالي المعولم، لأن ذلك بات معادلاً وحيداً لبقائها كدول، والتجذير لا يمكن أن يكون إلا من خلال نظام اقتصادي– اجتماعي بديل، ذلك هو الأساس النظري للتفاؤل التاريخي الذي يقول به، ويدعو إليه مشروع البرنامج كما أعتقد.... وهنا يبرز خطران، استناداً إلى تجربة الحركة تاريخياً:
- خطر التخلف عن التقاط هذه اللحظة التاريخية، بالمعنى النظري والسياسي، واستمرار العمل بأدوات وخطاب المرحلة السابقة، مرحلة الهزائم.
- خطر الركون إلى ما هو موضوعي، والتخلف عن تأمين العامل الذاتي، أي الإرادة السياسية، والعمل الميداني الملموس الدؤوب واليومي كلٌّ في ساحته، والأدوات التي يمكن من خلالها تجميع وتراكم القوى والسير إلى الأمام بتسارع يتناسب مع إيقاعات العالم المعاصر، هنا من الضرورة بمكان، ملاحظة كل أشكال وتعبيرات (الحركة الاجتماعية) في العالم المعاصر، فالصراع تغير شكله جذرياً، وإدارته في الظرف الملموس لصالح المستغلين، يتطلب متابعة حركة كل قوى التأثير والنفوذ ضمن المجتمعات المحلية في البلاد، فسنوات الأزمة وعمليات التجريف الديموغرافي، والعجز التام لجهاز الدولة، عزز الروابط المحلية في (الحارة– المدينة– المحافظة– القرية– العائلة، ومخيمات النزوح.. ) وفرضت عليهم وحدة حال، وهواجساً مشتركة.. إن شعاراً من قبيل (إعادة النازحين إلى مناطق سكنهم الأصلية) على سبيل المثال، في ظروف سورية المعاصرة، وتأطير حوامله البشرية والدعائية– الإعلامية، من الممكن أن يجمع الملايين من النازحين، أكثر من أي شعار عام آخر، ويصبح في لحظة ما أداة لقلب الطاولة على رؤوس كل أمراء الحرب في النظام والمعارضة، ويصبح قوة دفع عملية باتجاه الحل السياسي كحلقة مركزية.. وكذا بالنسبة إلى مصير المفقودين في الحرب، وغيرها العشرات من الأمثلة في كل محافظة.. باختصار، لا يكفي اكتشاف وصياغة الشعار العام الصحيح، بل ينبغي أن يقترن بما هو يومي وملموس في الشارع والحي والمدينة والمحافظة، فهذا الملموس هو ما يعكس المصالح المباشرة للناس، وهو الذي يشكل وعي الإنسان في العالم المعاصر، وهو الذي يحدد سلوكه، وتوجهاته، ويدفعه للانخراط فيما هو عام، ومن خلال ذلك وحده يمكن تأمين الحوامل للسير بالشعار العام ودفعه إلى الأمام، ومن خلال ذلك أيضاً، يمكن تحقيق ما يُختتم به المشروع في بناء حزب (مبدئيّ ومرن، قويّ وذكيّ محافظٍ على المبادئ وقادرٍ على إبداع الحلول).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1140
آخر تعديل على الجمعة, 05 كانون2/يناير 2024 21:15