عن «الشارع» و«العمل على الأرض» و«العريضة المطلبية»

عن «الشارع» و«العمل على الأرض» و«العريضة المطلبية»

ليس سراً أنّ عدداً غير قليل من الشباب السوري، وفي أماكن متعددة من سورية، يخوضون نقاشات يومية حول أشكال التحرك والنضال الضرورية والممكنة والمفيدة، ليس للتعبير عن احتجاجهم وغضبهم ورفضهم لاستمرار الأزمة وتعمقها والتدهور المستمر لأوضاعهم وضياع سني حياتهم هدراً فحسب، بل وأيضاً من أجل التغيير نحو الأفضل.

هذه النقاشات وهذا النشاط السياسي المتصاعد، هو التباشير الأولى للموجة الجديدة من الحركة الشعبية. هذا لا يعني أنّ الموجة الجديدة انطلقت فعلاً، أو أنها ستنطلق غداً، ولكنه يعني أنّ عوامل انطلاقها تختمر وتتفاعل وستأخذ وقتها الموضوعي لتصل إلى أشكال التعبير المناسبة، وأهم من ذلك، ستأخذ وقتها لتصل إلى درجة التنظيم المطلوبة؛ فإذا كانت الحركة الشعبية هي النشاط السياسي المتصاعد للجماهير، فإنّ الثورة هي النشاط السياسي المتصاعد المنظم للجماهير.

في هذا الإطار، وفي محاولة للإسهام بالنقاش الجاري، ربما من المفيد الوقوف قليلاً عند ما قد يبدو «أموراً بدهية»، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك كما تشير التجربة...

ما هو «الشارع»؟

الشارع بالمعنى الفيزيائي الملموس هو الطريق، وغالباً هو الطريق المزفت، ولكن «الشارع» بالمعنى السياسي هو أمرٌ مختلفٌ تماماً؛ الشارع بالمعنى السياسي يعني الجماهير، يعني الرأي العام، يعني أعداداً كبيرة من الناس، وعلى الخصوص الناس الذين هم «تحت»، بالمعنى الطبقي بالدرجة الأولى؛ أي إنّ الشارع بالمعنى السياسي هو إلى حد بعيد مرادف لجماعة الـ90%، المفقرين والمنهوبين.

يبدو الكلام السابق أمراً بدهياً، ولا يحتاج إلى «فهلوية» كي يتم اكتشافه. وهذا صحيح إلى حد ما؛ فهو فعلاً كلامٌ بدهي، ولكنّ التجربة العملية تقول غير ذلك... إذ إنّ هنالك آراءً ومحاولات تحرك، تظهر بين الشبان الراغبين في الانخراط الجدي في الحراك السياسي، تشير إلى أنّ الأمر ليس بهذه البساطة.
ما نقصده بالضبط هو أنّ مفهوم الشارع ضمن الممارسة العملية للفعل السياسي، يتم أحياناً مسخه واختزاله إلى «الزفت»؛ فيصبح المطلوب هو القيام بأي نشاطٍ أو أي تحرك على أنْ يظهر في كادر صورته الزفت، زفت الشارع!

وإذا كان الشارع بالمعنى السياسي يعني كما أسلفنا الرأي العام والـ90% وباختصار عدداً كبيراً من الناس، فإنّ الممارسات التي تصب اهتمامها على إظهار الزفت في الكادر، وخاصة عبر أشكالٍ مغامرة، فردية، هي بالضبط عكس النشاط في الشارع، وعكس العمل الجماعي، وعكس العمل الثوري... بل وتعكس وجود نظرةٍ فوقية لعموم أبناء الـ90% لأنها تعتبر أنهم إما غير مؤهلين للدخول في نقاش حول ما ينبغي فعله، أو أنه سيجري جرهم جراً في وقت لاحق للدخول في النشاط العملي.

ما هو «العمل على الأرض»؟

ما ينطبق على «الشارع»، ينطبق أيضاً على «العمل على الأرض»؛ حيث يجري اختزال هذه المسألة أيضاً بأنّها «العمل على الزفت»... والحق أنّ المفهوم السياسي والنضالي لفكرة العمل على الأرض مفهوم مختلف تماماً؛ العمل على الأرض يعني الصلة الحية المستمرة مع الناس، مع الـ90%، والنقاش معهم والعمل على تنظيمهم وإشراكهم في الحراك وتعليمهم والتعلم منهم بشكل يومي في إطار تطوير درجة تنظيم الحركة لنفسها يوماً وراء الآخر... العمل على الأرض هو بالضبط العمل التنظيمي بمعناه الواسع، (أي ليس فقط بالمعنى الضيق المحصور بالعمل الحزبي في إطار تنظيم الناس، بل بالمعنى الواسع لتنظيم الناس لنفسها بغض النظر عن الصبغة السياسية). وهذا العمل هو حسب تعبير لينين، «العمل الممل الرتيب الأسود»، وهو كذلك لأنه عملٌ يومي مضنٍ، وليس مجرد نشاط مع كاميرا، ليس مظاهرة طيارة ولا مظاهرة كبرى، هو أكثر من ذلك؛ هو تنظيم الناس لنفسها بشكل سلمي في كل مكان وعلى كل المستويات، على مستوى البناية والحارة والحي وإلخ.

المظاهرة، طيارةً كانت أم سيارة، وغيرها من أشكال التعبير والنشاط، هي بلا شك أشكال نضالية مهمة؛ ولكنّ المظاهرة مهما كانت كبيرة إذا لم تُبنى على أساس تنظيم الناس لنفسها، ومن تحت إلى فوق، فإنّها مظاهرة تخدم مصالح الآخرين لا مصالح المتظاهرين أنفسهم. هذا استنتاج أثبتته التجربة الماضية للحركة الشعبية السورية، ولا يجوز أن يغيب عن البال إطلاقاً.

«العريضة»

ضمن النقاشات الجارية، يميل البعض إلى الاستهانة بأي شكل من أشكال النضال التي لا تكون مكسوةً بالإثارة «والسسبنس» والشعارات النارية. وفي هذا السياق يميلون إلى الاستهانة بأحد أشكال النضال السلمي المعروفة وهي «العريضة المطلبية»، زاعمين أنّها لن تتمكن من تغيير شيء، وأنّه لا أحد سيستجيب لها.

أما عن القول بأنّه لن تجري الاستجابة لها، فهذا صحيح، وأما عن القول بأنها لن تغير شيئاً فهذا خاطئ تماماً؛ فالنضال لتوقيع عريضة مطلبية من ألوف الناس يعني ما يلي:

أولاً: أنّ المشتغلين بجمع التوقيعات قد دخلوا مرحلة أعلى من تنظيم أنفسهم عبر تشكيل النوى اللازمة لتأدية العمل.

ثانياً: أنّ المشتغلين على التوقيعات يعملون مع الشارع وفي الشارع فعلاً وليس فوق الزفت، أي يعملون مع الناس، ومع أعداد كبيرة من الناس. ويعملون على الأرض أي على الصلة الحية مع الناس لدفعها لتنظيم نفسها.

ثالثاً: إذا كانت المجموعات الشبابية الضيقة التي تحاول التحرك لديها قناعة بأنّ العريضة المطلبية لا يمكن أن تتم الاستجابة لها، فهذا لا يعني بالضرورة أنّ كل الناس يعتقدون الاعتقاد نفسه، ولذا فإنّ إشراك الناس في التجربة من شأنه أن يحطم الأوهام الموجودة عند قسم منهم، ومن شأنه بالتالي أنْ يدفعهم نحو تنظيم أنفسهم بشكل أكبر استعداداً لأشكال أعلى من النضال، وبالتدريج خطوة وراء خطوة.

رابعاً: النقاش السياسي مع الناس لإقناعهم بالتوقيع على عريضة مطلبية، هو مدرسة كبرى للأنوية الشبابية في التنظيم، وهي فرصة لكي يعرفوا أمزجة وأفكار عموم الناس عن قرب، وكي يتعلموا منهم ومن تجاربهم... لأن واحدة من أكبر الآفات التي يصاب بها من يعتقدون أنهم مناضلون هي آفة التكبر على الناس والتوهم بأنّهم أعلى منهم وأفهم وأقدر وإلخ...

الجديد الحقيقي

الجديد الحقيقي هو بالضرورة غير مكرر. وكي يكون الطور الجديد من الحركة الشعبية خطوة إلى الأمام، ينبغي أن نتعلم من أخطاء الطور الأول، وضمناً ينبغي أن نبحث عن أشكال جديدة غير مكررة في تنظيم أنفسنا للدفاع عن حقوقنا. ولماذا أفردنا هنا مساحة للحديث عن «العريضة»، هل هي الشكل الأمثل؟ هل هي الشكل الوحيد؟ بالتأكيد لا، ربما ليست الشكل الأمثل ولا الشكل الوحيد، ولكنها بالتأكيد شكل جديد؛ فتجربة توقيع عريضة مطلبية ذات مضمون يتفق عليه الـ90% من السوريين، ومن آلاف الناس، هي تجربة لم تخض ولو لمرة واحدة منذ 2011 على الأقل، ولذا فهي تستحق أن تخاض. وما نتحدث عنه هو بالتأكيد ليس «العريضة الإلكترونية»، بل عريضة على ورق يجري توقيعها من الناس مباشرة عبر الصلة الحية.

هل هنالك أشكال أخرى للنضال ولتنظيم الناس لنفسها؟ نعم بالتأكيد، وأهم الأشكال هي تلك التي تبتدعها الناس هي نفسها، لا تلك التي تأتيها جاهزة من «فوق»...

«الخطر الأمني»

ألا يشكل الانخراط في توقيع عريضة مطلبية خطراً أمنياً على من يعملون عليها؟ هذا الاحتمال موجود دائماً، وينبغي للحركة الشعبية نفسها أن تدرسه في كل مكان وفي كل زمان وفق معطياتها وتقديراتها، ولكن المؤكد هو أمران، أولاً، قدرات المتشددين على قمع الحركة الشعبية أضعف مما كانت عليه عام 2011 بما لا يقاس. ثانياً، كلما كان الأمر منظماً بشكلٍ أعلى، وكلما كانت المطالب منطقية وجامعة، كلما كان قمعها أمنياً أمراً أكثر صعوبة؛ فعمليات القمع السابقة استفادت ووظفت كل أشكال الانقسامات الثانوية، الطائفية والقومية والدينية، والانقسام بين «ثورة» و«مؤامرة» وبين «موالٍ» و«معارض» وإلخ. وبالتالي كلما كانت المطالب جامعة ومنطقية وبالدرجة الأولى مطلبية، كلما كانت إمكانات قمعها أضعف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135
آخر تعديل على الجمعة, 05 كانون2/يناير 2024 21:56