التجريف في الشمال الشرقي... يهدد مستقبل نضالات الكرد السوريين!

التجريف في الشمال الشرقي... يهدد مستقبل نضالات الكرد السوريين!

تشهد منطقة الشمال الشرقي السوري موجة كبيرة من الهجرة، حالها كحال باقي المناطق السورية. وقد وصلت الموجة بحدتها إلى حد التجريف؛ حيث إن الحديث الثابت لكل «المجالس الشعبية» في الشمال الشرقي، بات يتمحور حول «من هاجر بين اجتماعين؟ ومن يخطط للهجرة؟».

- الجزيرة السورية 

في مدن الجزيرة السورية، باتت مصادفة شاب في العشرينيات من عمره أمراً مستغرباً، وسرعان ما يبادره من يراه بالسؤال الذي بات مألوفاً: «ما الذي يبقيك هنا حتى الآن؟» وكأن الهجرة باتت قدراً لا راد له لأبناء تلك المنطقة، ومن يرتد عن ذلك القدر يعتبر حالة شاذة تدعو للاستغراب والدهشة.
إنّ أسباب الهجرة متعددة، ولكن أهمها: هو السبب الاقتصادي؛ حيث إن الوضع الاقتصادي للسكان في تلك المنطقة آخذٌ بالتراجع يوماً بعد آخر، كما باقي المناطق السورية، وذلك بالرغم من سعة الأراضي غير المستثمرة في تلك المنطقة، والتي يمكن، إذا ما توفرت الإرادة السياسية والاقتصادية، أن تتحول إلى مصانع ومعامل تقوم بتشغيل الآلاف من الأيدي العاملة من أبناء تلك المنطقة، علاوة على الأراضي الزراعية الواسعة في تلك المنطقة.

حجج وذرائع واهية

إن الحجج والذرائع التي تُقدم لتبرير التقصير الحاصل في تلك المنطقة، هي حجج واهية، ولم تعد تنطلي على أحد. حيث أن المبرر الوحيد الذي يُرفع للتغطية على التقصير الحاصل، هو الحصار والعقوبات وما إلى ذلك. ولا شك بأن هذه المسألة تلعب دوراً، ولكنها ليست المحدد الأساسي لتردي أوضاع الشعب في تلك المنطقة. كما أنه يجري تضخيم هذا الجانب بشكل مقصود وممنهج، حيث وصلت الأمور بالبعض، إلى ربط تردي جودة الخبز بالحرب الدائرة في أوكرانيا!! ولا يخفى على أحد، أن الجزيرة السورية هي خزان القمح بالنسبة للبلاد بأسرها، وليس فقط تلك المنطقة.
لقد أرجع البعض سبب أزمة المحروقات إلى صعوبة بيع وتصدير المشتقات النفطية، مع العلم بأن حصة المنطقة من المشتقات النفطية المستخرجة من تلك المنطقة هي 20% من إجمالي الناتج النفطي، في حين يتم بيع وتصدير الباقي إلى خارج المنطقة، ووفقاً للمعلومات المتاحة، يتم ذلك على النحو التالي: 30% للأمريكان، و30% لمناطق النظام، و20% للأتراك. وهذه النسب تباع لتلك الأطراف بيعاً، أي أن مصدريها يقبضون ثمنها كاملاً، إلا أن العائدات النفطية تذهب إلى جيوب حفنة من تجار تلك المنطقة، والتي لا تتجاوز نسبتهم 5% من الناس في أحسن الأحوال.
وخير دليل على ذلك، طبقة الأولغارشيا المتشكلة في الشمال الشرقي، والتي باتت تهيمن على كافة مفاصل الاقتصاد في تلك المنطقة، والتي تضع الربح الأقصى على رأس أولوياتها، مع كل ما يتطلبه ذلك من قرارات، تأخذ على عاتقها «تطفيش» الطبقات الأخرى التي تعارض مصالحها.

تبعات التجريف في الشمال الشرقي

إن الهجرة في سورية، كما أسلفنا آنفاً، هي ظاهرة عامة، ولا تقتصر على منطقة أو محافظة واحدة دوناً عن المناطق الأخرى، وهذا بسبب تطابق السياسات الاقتصادية المتبعة من قبل الأطراف المسيطرة على مختلف المناطق السورية، والتي تقوم بالدرجة الأولى والوحيدة على نهب وإفقار وتجويع من تبقى من السوريين في الداخل، كمن يقول لمن بقوا: ارحلوا فوجودكم يهدد ثرواتنا.
كما أن خصائص وتبعات الهجرة السورية هي في العموم واحدة، وتتمثل بهجرة فئة الشباب العمرية، وكذلك هجرة العقول والنخب من المجتمع السوري. ورغم التشابه العام في ظروف وخصائص الهجرة في كل المناطق السورية إلا أن لكلٍ منها خصوصيتها. وفي الشمال الشرقي هنالك أيضاً خصوصية تتعلق بأنّ النسبة العظمى من المهاجرين من تلك المنطقة هم من الكرد السوريين، الأمر الذي أدى إلى تراجع نسبة الكرد في تلك المنطقة بشكل ملحوظ، ولا نذكر هذه الخصوصية كانتقاص من أي من المكونات الأخرى التي تحل (في إطار نزوحٍ داخلي اضطراري في معظم الأحوال) محل الكرد الذين يهاجرون، إنما نأتي على ذكرها لما تحمله من تأثيرٍ على نضال الجماهير الكردية من أجل حقوقها المشروعة، ومن أجل حلٍ حقيقي يرفع الظلم المتراكم منذ عقودٍ طويلة، ضمن حلٍ شامل للمسألة الديمقراطية العامة في البلاد.
هجرة الكرد من مناطقهم بهذه الأعداد الضخمة، تؤدي حكماً إلى تراجع وزن نضالهم بسبب تراجع وزن الحامل المادي لذلك النضال، أي الكرد السوريين، ما يفتح الباب واسعاً أمام ترسيخ سياسات الإنكار المتبعة بحقهم من قبل أنظمة المنطقة ومعارضاتها، والتي اتسمت في مجملها بالتعصب القومي وإنكار الآخر، والتي أدت إلى تعزيز التعصب القومي لدى بعض الكرد، أشخاصاً وتيارات سياسية.
إن البنى المتصدرة للمشهد السياسي والاقتصادي في الشمال الشرقي السوري، كما البنية المتصدرة للمشهد السوري عامة، تنتمي إلى فضاء سياسي قديم يحتضر، ذلك الفضاء الذي فقد أدنى الروابط التي كانت تربطه بمصالح الشعب، وبات مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمصالحه الحزبية والشخصية الضيقة.
لذلك، فإن نضال الكرد السوريين كجزءٍ من النضال السوري العام، بحاجة اليوم إلى قوىً وطنية جامعة، إلى قوى وطنية ترتفع فوق الاستثمار في المسائل القومية، نحو العمل الجاد لحل تلك المسائل في الإطار الوطني، عبر رفع المظلوميات عن الجميع، ليس فقط الثقافية والسياسية، وإنما الاقتصادية- الاجتماعية قبل أي شيءٍ آخر... لأنّ التجربة المريرة لكل شعوب المنطقة، قد أثبتت أنه تحت «الشعار القومي» سواء كان الحديث عن العرب أو الكرد أو الترك أو الفرس وإلخ، تحت الشعار القومي جرى نهب الشعوب ولم يتمّ إنصافها، بل وتم تعميق الأزمات بين الشعوب خدمة لمصالح الحكام...
لذلك كلّه، فإنّ «القوى الطليعية» التي يجب أن تتشكل، لا يمكنها أن تعيش في فضاء معزول عن باقي القوى السورية، والتي تولد أيضاً من رحم الفضاء السياسي الجديد. بناء عليه، فإن «القوى الطليعية» لا يمكن أن تكون قومية الطابع، بل يجب أن تكون وطنية عامة، تدمج نضالات المنهوبين السوريين وتصنع منها قوةً للتغيير، وصولاً لإنهاء كل سياسات التمييز من كل شاكلة، ولتثبيت الحقوق الثقافية وحقوق اللغة، وأشكال إدارة البلاد التي تضمن أن تكون السلطة بيد الشعب حقاً.

سُبل الحل

بالعودة لموضوع الهجرة في الشمال الشرقي، فإن المطلوب اليوم كإجراء إسعافي، وبالسرعة القصوى، هو اتباع سياسات اقتصادية اجتماعية في تلك المنطقة تكون قادرة على إقناع أبناء المنطقة للبقاء فيها، حيث إن جملة السياسات المتبعة حتى اليوم، لم تأخذ هذه القضية على محمل الجد، بل إن كل ما يقدم للمواطن، ولا سيما للشباب، هو الشعارات والخطابات الرنانة، على وزن (الصمود) و(التصدي) التي تطربنا بها قوى النهب والفساد المسيطرة على المشهد ضمن النظام السوري.
أما الحل الجذري لعملية تجريف السوريين، عموماً، فهو يكمن في إعادة توحيد السوريين، من خلال إعادة توحيد سورية، ورفع العقوبات عنها، وصولاً إلى الحل السياسي الشامل، على أساس القرار 2254، الذي يفضي إلى التغيير الجذري الشامل في البنية السياسية والاقتصادية القائمة، والتي كانت سبباً رئيساً في عملية التجريف التي وصلت إليها سورية والشعب السوري.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1090