في اغتيال شيرين وفي ردود الأفعال عليه ... إجرام قديم متجدد ... وملامح لاتجاهات جديدة

في اغتيال شيرين وفي ردود الأفعال عليه ... إجرام قديم متجدد ... وملامح لاتجاهات جديدة

بينما كانت شيرين بين أبناء شعبها كعادتها أبداً، وتنقل بشجاعتها المعهودة الاقتحام الهمجي الذي تقوم به سلطات الاحتلال لمخيم جنين، أقدم «الإسرائيلي» على اغتيالها برصاصة في الرأس مباشرة...

الجرم الذي ارتكبته قوات الاحتلال ليس غريباً عنه وعن إجرامه الذي يمتد لما يقرب المائة عام، ابتداءً من عصابات شتيرن والهاجاناه ووصولاً ليومنا الحاضر.
مع ذلك، فإنّ تفسير هذه الجريمة نفسها، وردود الأفعال عليها، يحمل فيما نعتقد أبعاداً إضافية تمليها الظروف الإقليمية والدولية وظروف الكيان نفسه، وهذه الظروف بالذات هي ما تستجلب ردود أفعالٍ من جهات لم يسبق لها أن أظهرت ما تظهره اليوم من «انفعالٍ» و«حزن»...!
إن الطريقة التي تعاملت بها قوات الاحتلال مع الحدث، بدءاً من الاستهداف المتعمّد للشهيدة شيرين والتفاف الفلسطينيين حولها، ثم الهجوم الوحشي على التشييع الذي خرج فيه الآلاف بين المدن الفلسطينية، وصولاً إلى واحدة من أكبر الجنائز التي شهدتها القدس المحتلة، بالإضافة إلى ردود الأفعال لا سيما الرسمية منها، كل ذلك يثير أسئلة كبرى؛ فعلى الأهمية التي لا نقاش فيها للشهيدة، وللموقع الخاص الذي تحتله في قلوب ليس الفلسطينيين فحسب، بل وفي قلوب كل من يتابع القضية الفلسطينية ويعتبرها قضيته؛ إلا أنّ المتابع للحدث يمكنه أن يلمح في تصرفات الصهيوني ما قد يبدو أنه قدر غير مسبوق من «الحماقة»، وسيلاحظ في ردود الأفعال الغربية تحديداً (ورغم أنها كعادتها أقل بكثير من مستوى الحدث)، قدراً غير مسبوق نسبياً، وغير مفهوم للوهلة الأولى من «التعاطف»... هذه وتلك تحتاج إلى تفسيرٍ وإلى فهم.
سنحاول في هذه المادة الوقوف على بضع فرضيات لتفسير الاغتيال نفسه وما تلاه من هجوم على النعش، وما رافقه من ردود أفعال غربية، مع توسيع زاوية الرؤية قدر الإمكان... وسنبدأ باستعراض المجريات والتصريحات لننتقل بعدها لمحاولة التفسير...

اغتيال شيرين وتشييعها

صباح يوم الأربعاء الماضي 11 أيار، كانت الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في جنين لتغطية اقتحام الجيش «الإسرائيلي» لمدينة ومخيم جنين، عندما أطلق قناص من جيش الاحتلال رصاصة أصابت الشهيدة في رأسها، بالرغم من أنها كانت في منطقة تتجمع فيها طواقم من الإعلاميين، وكانت ترتدي السترة والخوذة التي تشير بوضوح إلى أنها صحفية، حيث أصابتها الرصاصة في الجزء الصغير من رأسها الذي لم يكن مغطىً بالخوذة؛ أي أن الاغتيال أمر متعمد بشكل كامل، بل ومخطط له مسبقاً.
من الجدير بالذكر، أن الجانب «الإسرائيلي» أبدى الكثير من الاستياء اتجاه «الاتهامات» وهاجم كل من صرّح أنه الجانب المسؤول عن قتل شيرين، ولكن وفق عدة جهات إعلامية ومنها: مقالة في جريدة «تايم» الأمريكية يوم 11 أيار، فإن المتحدث باسم الجيش «الإسرائيلي»، ران كوخاف، وصف الصحفيين بأنهم «مسلحون بكاميرات»؛ بما يحمل اعترافاً ضمنياً بالجريمة.
في اليوم التالي، الخميس 12 أيار، اقتحمت قوات الاحتلال بيت عزاء الشهيدة شيرين، حيث تجمع عدد كبير من المعزين الذين حاولت القوات «الإسرائيلية» منعهم من الدخول، واعتدت على من كان يحمل العلم الفلسطيني، واعتقلت آخرين لاحتجاجهم على اقتحام بيت العزاء.
واستكمالاً للهمجية والإجرام، وفي مقطع مصور من تشييعها في جنازة خرج فيها الآلاف من الفلسطينيين في القدس المحتلة يوم الجمعة 13 أيار، شهد العالم بأسره قوات الاحتلال وبدرجة عالية من البربرية، وهي تهاجم وتضرب المشيعين للوصول إلى أولئك الذين يحملون نعشها في محاولة لإجبارهم على إسقاط النعش، حتى أن عدداً من عناصر الاحتلال نزلوا بهراواتهم على النعش نفسه، وكأن كل ما قاموا به لم يكن كافياً لإظهار كراهيتهم وإجرامهم وتوحشهم.

1070-9

ردود أفعال بعض المسؤولين الغربيين

بدأت ردود الأفعال تتوارد وبشكل متسارع منذ لحظة انتشار خبر استشهاد شيرين والمقاطع المتوالية بدءاً من اللحظات الأولى بعد إصابتها، وسحب جثمانها من المكان الذي كانت تقف فيه عندما تم استهدافها، وحتى هذه اللحظة. من المهم ذكر أن ردود فعل الشارع الدولي– إذا صح التعبير– كانت متعاطفة وغاضبة، أكثر من أية حادثة أخرى، ويمكن تفسير ذلك جزئياً بأنّ الشهيدة إعلامية، وأنّ ما حصل كان موثقاً على الشاشات ولا يمكن إنكاره أو تبريره بأية طريقة من الطرق المعتادة لتبرئة أو تبييض المحتل المعتدي وتصويره على أنه الضحية التي تدافع عن نفسها.
المفارقة كانت في ردود أفعال بعض المسؤولين الغربيين وبالأخص الأمريكيين، حيث كان التفاعل مع الحادثة واسع النطاق وبشكل غير مسبوق، كما كان لافتاً للنظر حدّية أعلى في اللهجة والنبرة ضد «إسرائيل» ومن قبل بعض الشخصيات البارزة، وبالأخص في أمريكا، بما في ذلك بعض السياسيين.
كان بين من صرحوا بكلام واضح حول تورط الجانب «الإسرائيلي» بعض الذين كانت لديهم سابقاً مواقف مختلفة عن المعتاد من القضية الفلسطينية، بما في ذلك عضو مجلس الشيوخ، بيرني ساندرز، حيث كتب في تغريدة له في 13 أيار: «اعتداء القوات الإسرائيلية على المعزين في جنازة الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة هو عمل شائن. يجب على الولايات المتحدة إدانة ذلك، والمطالبة بإجراء تحقيق مستقل في مقتلها». وعدد من التغريدات من عضوتي مجلس النواب الأمريكي اللتين تنحدرن من أصول عربية: إلهان عمر ورشيدة طليب، تطرقتا فيها إلى مدى الدعم الأمريكي لـ «إسرائيل» وممارسات الأخيرة التي ترتقي لمستوى الفصل العنصري، وأن صمت أمريكا هو بمثابة تواطؤ في جرائم «إسرائيل».
كان هناك آخرون، مثل: عضوة مجلس النواب كوري بوش، والتي كتبت في تغريدة لها في 12 أيار: «قتل الجيش الإسرائيلي شيرين أبو عاقلة أمر وخيم ومثير للغضب. إنني أدين هذا الاعتداء غير المقبول عليها وعلى الفلسطينيين، وعلى حرية وسلامة الصحفيين في كل مكان. يجب أن تكون هناك محاسبة، ويجب أن نطالب بإنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي». وكتب عضو مجلس النواب أندريه كارسون في تغريدة له، ذكر فيها أن الجيش «الإسرائيلي» هو الذي قتل شيرين أبو عاقلة، وأضاف أنه «يجب على الولايات المتحدة تحميل الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن هذا وعن جميع أعمال العنف الجائر الأخرى التي ترتكبها». كذلك عضوة مجلس النواب ماري نيومان كتبت في تغريدة في 12 أيار: إنها قلقة من الأنباء أن «الصحفية شيرين أبو عاقلة تم إطلاق النار عليها وقتلها من قبل القوات الإسرائيلية» وطالبت الحكومة الأمريكية في تغريدة أخرى بعدم الاستمرار «بغض النظر عن الوحشية» في إشارة إلى هجوم القوات «الإسرائيلية» على الجنازة.
آخرون لم يكتبوا بذات الوضوح، ولكن كان هناك ما يكفي من التلميح، مثل: عضو مجلس النواب مارك بوكان والذي قال في تغريدة له أنه ربما من الضروري أن تكون هناك «قيوداً مفروضة على المساعدات إذا كان لا يمكن اتباع حقوق الإنسان والمعايير المقبولة عالمياً» والذي تم تفسيره أنه تلميح حول الدعم الأمريكي لـ «إسرائيل».
وكانت هناك بعض الأصوات في أوروبا، منها لعضو البرلمان الأوروبي، ميك والاس، والذي كتب عدة تغريدات حول الحادثة، منها واحدة قال فيها: «دولة الفصل العنصري في إسرائيل لا تهتم بما يفكر فيه العالم لأنها تعلم أن الدعم غير المشروط من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مضمون– لذلك كانت إسرائيل مستعدة لقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة ومهاجمة جنازتها– الولايات المتحدة + الاتحاد الأوروبي يسهّلون الإرهاب الإسرائيلي». واكتفى الاتحاد الأوروبي بتصريح حول ما حصل في الجنازة لم يذكر فيه الأسباب التي أدت إلى أن تكون هناك جنازة بالأساس، واكتفى بالقول: إن «الاتحاد الأوروبي يدين الاستخدام غير المتناسب للقوة والسلوك غير المحترم من قبل الشرطة الإسرائيلية ضد المشاركين في موكب الحداد». أما بريطانيا، ومن خلال تغريدة لسفيرها إلى الكيان، عبّرت فقط عن «الحزن العميق للموت المأساوي» لشيرين.
في الوقت ذاته كانت التصريحات الرسمية مبهمة وخالية من تحميل المسؤولية للجهة الجانية، أي «إسرائيل» بما في ذلك تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، والذي قال في تغريدة له حول الاعتداء على الجنازة: «لقد انزعجنا بشدة من صور الشرطة الإسرائيلية وهي تتدخل في جنازة الأمريكية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة. تستحق كل عائلة أن تُرقد أحباءها بكرامة ودون عوائق». وورد الشيء ذاته في تصريح مقتضب على موقع الخارجية الأمريكية حول الموضوع، أضاف فيه: «نبقى على اتصال وثيق مع نظيرينا الإسرائيلي والفلسطيني وندعو الجميع إلى الحفاظ على الهدوء وتجنب أية أعمال من شأنها زيادة تصعيد التوترات». كما كان هناك مؤتمر صحفي عقده المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية يوم 11 أيار، أي اليوم الذي قتلت فيه قوات الاحتلال الصحفية شيرين، وفي كلامه الأولي تطرق إلى حادثة قتلها دون ذكر الجهة التي قتلتها، ولاحقاً في المؤتمر الصحفي ورداً على الأسئلة المتكررة حول الموضوع، لم يكتف بعدم القول من قتلها، ولكن أبدى الثقة الكاملة في تصريح الطرف «الإسرائيلي» بأنه سيقوم بالتحقيق في القصة وأن «الإسرائيليين لديهم الإمكانيات والقدرات اللازمة لإجراء تحقيق دقيق وشامل» وأن ما هو مهم بالنسبة للأمريكان «هو محاسبة المسؤولين عن هذا القتل على أفعالهم».
إضافة إلى الخارجية الأمريكية كانت هناك تصريحات بذات «المستوى» من مسؤولين آخرين، مثل: رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، والتي قالت في تغريدة لها يوم 11 أيار: إن «مقتل الصحفية الأمريكية شيرين أبو عاقلة مأساة مروعة. هناك حاجة الآن إلى تحقيق شامل وموضوعي. يلتزم الكونجرس بالدفاع عن حريات الصحافة في جميع أنحاء العالم وحماية كل صحفي، وخاصة أولئك الموجودين في مناطق النزاع». ويبدو أن السيدة بيلوسي أسقطت «سهواً» عدة أمور، منها أن الصحفية كانت أولاً وأخيراً فلسطينية، وأنه عندما يُقتل أحد، على الأقل هناك جهة متهمة، ولكنها لم تجرؤ على ذكرها، وهذا ما اعتدنا عليه من أولئك «الساسة».

1070-30

وسائل الإعلام الغربي الرئيسية

انتقدت أوساط في الإعلام الغربي ممارسات الاحتلال، وعدد منها ذكر الجهة المسؤولة عن قتل شيرين، ولكن بعض الجهات الأبرز في الإعلام الغربي أظهرت الانحياز المعتاد لـ «إسرائيل» والابتعاد عن توجيه التهم لدرجة عالية من الوقاحة أثارت استياء وغضباً كبيرين، وبالأخص من قبل إعلاميين وصحفيين. ربما كان أسوأها جريدة «نيويورك تايمز»، التي نشرت مقالة بعنوان: «وفاة الصحفية الفلسطينية الرائدة، شيرين أبو عاقلة، عن عمر 51 عاماً» والذي تم تغييره بعد موجة الاستياء العارمة إلى «صحفية فلسطينية رائدة تُقتل في الضفة الغربية». وكذلك «أسوشيتد برس» ذكرت أن شيرين قُتلت جراء إطلاق نار في الضفة الغربية المحتلة خلال مداهمة للجيش «الإسرائيلي» في جنين، دون ذكر المسؤول. وتم توجيه الكثير من الانتقادات لنيويورك تايمز التي استهدف الجيش «الإسرائيلي» بصواريخ دمرت مقراً لها في غزة قبل عام. واستخدمت «بي بي سي» عنواناً مشابهاً، بينما «سي إن إن» الأمريكية نشرت خبراً بعنوان «قُتلت الصحفية شيرين أبو عاقلة بالرصاص أثناء تغطيتها العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية». وكذلك جريدة الـ «إنديبندنت» التي نشرت مقالاً بعنوان: «كيف وقعت شيرين أبو عاقلة ضحية النزاع الذي غطته».

1070-6

الأمم المتحدة

من المهم أيضاً، الإشارة إلى تصريحات الأمم المتحدة، حيث صرح مكتب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بأنه «مصدوم بمقتل... الفلسطينية الأمريكية شيرين أبو عاقلة، التي قُتلت بالرصاص... أثناء تغطيتها لعملية لقوات الأمن الإسرائيلية في جنين بالضفة الغربية المحتلة» وأرسل «تمنياته بالشفاء العاجل لزميلها الصحفي علي السمودي الذي جُرح في ذات الحادثة... وطالب السلطات المعنية بإجراء تحقيق مستقل وشفاف في هذا الحادث وضمان محاسبة المسؤولين عنه» وفيما يتعلق بهجوم قوى الأمن «الإسرائيلي» الهمجي على جنازة الشهيدة شيرين، أتى في خبر على موقع الأمم المتحدة أن الأمين العام «انزعج بشدة من المواجهات بين قوات الأمن الإسرائيلية والفلسطينيين المتجمعين في مستشفى القديس يوسف وسلوك بعض رجال الشرطة المتواجدين في مكان الحادث. ويواصل الحث على احترام حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك الحق في حرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي» دون الإشارة إلى من اعتدى على من، وتحريف ما حصل على أنه «مواجهات» وليس اعتداءً همجياً ووحشياً من قبل الطرف «الإسرائيلي».
إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، قامت المديرة التنفيذية لهيئة المرأة للأمم المتحدة، سيما بحوث، بإصدار بيان حول «مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة» ورد فيه محتوىً مطابقاً تقريباً لما ورد في تصريحات مكتب الأمين العام، قالت فيه: «تم إطلاق الرصاص على أبو عاقلة أثناء تأدية عملها في تغطية عملية لقوات الأمن الإسرائيلية في مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة...»، أما بقية بيان المديرة التنفيذية فهو مثال نموذجي على تمييع وتسخيف القضايا الإنسانية والسياسية الكبرى عبر اقتلاعها من سياقها لحشرها ضمن سياقات جزئية: «إن وفاة شيرين هي تذكير صارخ بأشكال العنف المختلفة التي تتعرض لها النساء والفتيات اللواتي يعشن في مناطق النزاعات، في فلسطين كما في مناطق أخرى من العالم».
ردود الأفعال المشينة هذه من قبل هذه المنظومة التي باتت وبكل وضوح مرتهنة بشكل كامل للغرب والولايات المتحدة، وبوقاحة متزايدة في الفترة الأخيرة، تثبت يوماً بعد يوم أنها لم تعد تؤدي الدور المنوط بها، وإنما ترضخ لمطالب ورغبات الغرب وخاصة الولايات المتحدة. وبات واضحاً أن العمر التاريخي لهذه المنظمة بشكلها الحالي قد انتهى، وأنها باتت جزءاً من فضاءٍ سياسي دولي قديم ينبغي إزاحته عن صدر الكوكب، تمهيداً لولادة منظومات أكثر تناسباً مع الواقع الجديد ومع التوازنات الجديدة.

ماذا يعني كل هذا؟

على مدى عقود قام الاحتلال «الإسرائيلي» بممارسة كافة أنواع الانتهاكات والجرائم بحق الشعب الفلسطيني، ولم يتورع يوماً عن القيام بأبشع جرائم القتل والاعتقال والتهجير، وكل ما تقوم به عصابات الاحتلال وأمام العالم بأسره. ولكن ثمة شيء مختلف إلى حد ما فيما حصل خلال الأيام القليلة الماضية، بدءاً بطريقة اغتيال الشهيدة شيرين، والتعامل مع الجموع التي أتت للتعزية بها، ومن ثم الهجوم المتوحش على النعش وحامليه والمشيعين، وردود الأفعال من قبل بعض الشخصيات والمسؤولين الغربيين والأمريكيين، وبالتحديد أولئك المعروف تقليدياً أنهم لا يجرؤون حتى على التلميح حول إجرام الكيان. وفجأة باتوا «إنسانيين» ولحظوا إجرام «إسرائيل» بعد 74 عاماً من مساعدتها في شرعنة احتلال فلسطين، وقضم المزيد من أراضيها، وغض النظر عن كافة ممارساتها، بل تجريم أية جهة تنتمي لحركة المقاطعة؟

1070-3

فرضيات

بعد هذا الاستعراض المطول، نحاول فيما يلي طرح بضع فرضيات لتفسير السلوك «الإسرائيلي»، والقسم غير المعتاد من ردود الأفعال الغربية والأمريكية، والذي كما أشرنا آنفاً لا يزال أقل بكثير من مستوى الحدث، لكن ذلك لا يمنع أن نلحظ أنّ فيه جديداً يحتاج تفسيراً... وهذه الفرضيات بمجموعها قد لا تفسر المسألة بشكل كامل، ولكنها قد تساهم في فهمها بشكل أفضل...

فرضية 1

منذ اتفاق أوسلو المشؤوم، الذي جاء ضمن ظروف دولية فيها اتحاد سوفييتي منهار حديثاً، وأمريكي مزهوٌ بتفرده في إدارة الشؤون الدولية، فإنّ واشنطن قدمت نفسها بما يخص القضية الفلسطينية خصماً وحكماً في الوقت ذاته، وباتت «راعياً» أساسياً إجبارياً لـ«عملية السلام».
هذا الموقع بدأ بالتآكل والتقوض مع مطلع الألفية الجديدة، وبالتحديد مع الانتفاضة الثانية، ولا يزال تآكله مستمراً، وأحد تعبيراته هو تشكيل «الرباعية الدولية حول الشرق الأوسط» عام 2002 والتي تضم الولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا.
مع التغير المستمر في موازين القوى الدولية، وخاصة ما بعد أوكرانيا، فإنّ موقع الولايات المتحدة الحامي للكيان بات تحت تهديد أكبر، خاصة أنّ بدائل الرعاية واضحة وجاهزة للعب أدوارها، ولذا فقد بات من الضرورة بمكان، من وجهة النظر الأمريكية، الإيحاء بقدر أكبر من السابق بأنّ الولايات المتحدة «وسيط» وليست «طرفاً» في هذا الصراع، بحيث تحاول تمديد الصلاحية المفترضة لموقعها المهيمن على العملية... قد يفسر هذا الأمر تصريحات بعض أعضاء الكونغرس غير المعتادة... ولا يمكن لأي متابع عاقل افتراض أن هذه الأصوات تغرد «حرة» للتعبير عن آرائها الشخصية، إذ لا يغيب عن المتابع الجدي طبيعة النخبة السياسية في الولايات المتحدة، وحجم علاقاتها، وحجم الهيمنة عليها من قبل النخب المالية...

فرضية 2

ضمن التغيرات الواضحة في ميزان القوى الدولي، فإنّ بعض ردود الأفعال غير المعتادة، قد تجد تفسيرها في صراعٍ بين نخب الصهيونية نفسها حول مآل الكيان؛ فمن الواضح أنّه ضمن التوازنات الجديدة، والتي لن تتأخر عن التبلور كنتائج سياسية على المستويات الإقليمية والمحلية، فإنّ وضع الكيان بأسره بات مهدداً؛ فالكيان لم يكن في يومٍ من الأيام إلا مشروعاً غربياً، ومع تراجع الغرب فإنه محكوم بالتراجع، ولذا قد تبرز آراء متناقضة ضمن النخب الصهيونية لكيفية التعامل مع الوضع المستجد؛ بين آراء ترى أنّ المطلوب سريعاً هو رفع درجات التوحش إلى الحدود القصوى عل وعسى يجري تثبيت الوضع القائم، بحيث لا تستطيع التوازنات الجديدة تغييره، أو على الأقل لا تستطيع تغييره بسهولة، وبين آراء معاكسة ترى أنّ المطلوب هو الانحناء لـ«العاصفة» لعل وعسى تمر بأقل الخسائر.

فرضية 3

كانت الصهيونية قد حضرت لقيام الكيان عبر تعاونها مع هتلر نفسه، وفي مرحلة تغير توازنات دولية حاد. وفي هذه المرحلة الجديدة من التاريخ، والتي تحمل تغييرات أكثر حدة وعمقاً، فمن الممكن أيضاً الافتراض أنّ الصهيونية مع اقتناعها بأنّ وجود الكيان نفسه ليس مهدداً فحسب، بل ويقترب من نهايته (وهذا ما تعبر عنه صراحة الصحافة الإسرائيلية ومراكز الأبحاث الصهيونية بشكل مطرد منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام)، مع وجود قناعة من هذا النوع، فإنّ التحضير نحو هجرة يهودية جديدة ونحو «إسرائيل» جديدة، لن يكون مستغرباً...
من ينظر إلى الوضع الأوكراني خاصة، وإلى الاشتراك المباشر للصهاينة ولحاملي الجنسية «الإسرائيلية» جنباً إلى جنب، وعلناً، مع النازيين، ومن يقرأ ما يكتبونه وما يقولونه عن «إسرائيل الجديدة»، يمكنه أن يفترض أنّ التوتر سيصل إلى أقصى حدوده على أرض فلسطين المحتلة، بل وأنّ القرارات الدولية التي بقيت معلقة طوال عقود ستجد طريقها للتنفيذ، وستكون السفن والطائرات جاهزة لتحميل هجرة يهودية جديدة، نحو «إسرائيل جديدة» مفترضة، في مناطق من أوكرانيا...

(النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1070
آخر تعديل على الإثنين, 23 أيار 2022 14:05