ماذا يحمل لنا القمح المرسل من الولايات المتحدة؟
ديما النجار- أخصائية في أمراض النبات ديما النجار- أخصائية في أمراض النبات

ماذا يحمل لنا القمح المرسل من الولايات المتحدة؟

لطالما حققت سورية اكتفاءً ذاتياً من إنتاجها للقمح ذو الجودة العالية في سنوات خلت. فمن الميزات المطلقة لسورية أنها البلاد التي استُؤنست فيها الزراعة منذ آلاف السنين، مما يعني أن فيها من الأصول الوراثية ما يحمل ذاكرة آلاف السنين مما «تعلمه» النبات من خلال الأحداث التطورية التي واكبت ما شهدته المنطقة من تغيرات في المناخ، وانتشار أنواع مختلفة من الممرضات والحشرات التي تصاحب ظروف مناخية متباينة. فالأكثر تلاؤماً من الأصناف تم انتخابه طبيعياً أو بخبرة الفلاح. 

الكوارث التي حلت بإنتاج القمح

لابد قبل الخوض في الحدث الآني من التذكير ببعض الحوادث المفصلية التي يحمل بعضها في طياته كوارث ربما تتجاوز الحاضر لتطال مستقبل زراعة القمح في سورية. والقمح هو الغذاء الأساسي للشعب السوري، وعامل من عوامل الأمن القومي لبلد مثل سورية.
أولاً: تواجد في سورية بالقرب من مدينة حلب ومنذ عام 1977 واحد من أهم مراكز بنوك البذار في العالم، المركز الدولي للأبحاث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا). تعرض المركز عام 2016 لهجوم من داعش، ويذكر أن العاملين في المركز استطاعوا إخراج 6000 سلالة نباتية، في 9 صناديق. وتوجد نسخ منها في قبو سفالبارد العالمي للبذور.
ثانياً: تعرضت سورية عام 2019 إلى عدد كبير من الحرائق في حقول القمح، تركز معظمها في الجزيرة السورية، حيث قدرت الخسائر بما يقارب 10% من المساحة المزروعة بالقمح والشعير. كثير من التقارير رجحت أن الحرائق مفتعلة.
ثالثاً: السياسات الحكومية والفساد لا تحميان المزارعين، بل تزيدان الضغوط عليهم لصالح قوى السوق السوداء، وتضغطان على الإنتاج في كل خطوة، من بداية الإنتاج وحتى بيع المحصول. من هذه النقائص تدخل المؤامرات عادة!

الولايات المتحدة ترسل قمحاً للبذر كـ «مساعدات»

نشرت صفحة السفارة الأمريكية في دمشق خبراً مفاده: إرسال الوكالة الأمريكية للتنميةUSAID 3 آلاف طن من القمح للزراعة من صنفي أضنة و CIHAN وهما صنفان تركيان، وبحسب الملصق في الإعلان المذكور، قيل: إن بلد المنشأ هو كردستان العراق. ذكرت جريدة الوطن السورية فيما بعد أن مديرية زراعة الحسكة حصلت بـ «جهود شخصية» على عينة للتحليل، وأظهرت أن العينة تحمل آفة نيماتودا ثآليل القمح. الأمر الذي أكدته جامعة الفرات بتحليلها عينة 400 غ من الشحنة أظهرت وجود نيماتودا ثآليل القمح المترافق مع مرض عفن السنابل البكتيري المتسبب عن البكتيريا Clavibacter tritici. إضافة إلى انخفاض نسبة إنبات الحبوب في الظروف المخبرية، مما يعني الحاجة إلى زيادة معدل البذار المزروع لتعويض الفاقد مما يزيد نسبة انتشار النيماتودا. كما يذكر التحليل وجود نسب منخفضة من أمراض التفحم. بناء على هذا التحذير سارع مجلس سورية الديمقراطية لإيقاف توزيع البذار الذي كانت شركة تطوير المجتمع الزراعي قد بدأت به. وبحسب سلمان بارودو، الرئيس المشارك لهيئة الاقتصاد والزراعة، فإنه قد تم إرسال عينة للاختبار، وفي الوقت ذاته إرسال طلب استيضاح من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
رد متحدث باسم الوكالة الأمريكية للتنمية، بأن البذار التي تم التبرع بها عالية الجودة «وقد خضعت لسلسة من الاختبارات في مخبر مؤهل في المنطقة الكردية في العراق قبل توزيعها على الفلاحين في شمال شرق سورية. والفحوصات شملت اختبار البذور من حيث النقاء، ومعدل الإنبات، والتفحم، ووجود الشعير، والحشرات، والسيفالونيا، والنيماتودا، كما تم التأكد من معالجتها بفعالية بمبيدات الفطريات».

ما العمل؟

إن صح أن الوكالة الأمريكية للتنمية قد أجرت هذه الاختبارات فمن غير المفهوم أنها لم ترسل هذه المستندات والشهادات الصحية النباتية مع الشحنة. علماً أن منظمة الزراعة والغذاء العالمية (الفاو) التابعة للأمم المتحدة كانت قد نشرت عام 2017 في موقعها المعيار الدولي رقم 38 للحركة الدولية للبذور المعتمد من قبل أمانة الاتفاقية الدولية لوقاية النباتات. ووفقاً لها: يجب تقييم المخاطر بحسب الهدف من إدخال البذار، أهو بحثي أم للاستهلاك البشري أم للزراعة. فالبذار المدخلة بهدف زراعة الحقول تحمل أعلى المخاطر فيما يتعلق بانتشار الآفات.
بالعودة إلى التحليل الوارد من كلية الزراعة- جامعة الفرات، نذكر هنا بعض الانتقادات التي لابد من أخذها بعين الاعتبار للاختبارات التي تجرى على هذه العينة، بغض النظر عن الجهة السورية التي تجري الاختبارات لاتخاذ القرار الصحيح المسند علمياً.
يوصي القانون 158ت وملحقاته الصادر عن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي في المادة الثالثة البند 10 بأن تؤخذ عينات قياسية من المواد وترسل إلى المخابر لفحص النيماتودا على أساس الجنس والنوع لإعطاء نسب دقيقة، وبسؤالنا الأستاذ الدكتور فواز العظمة، الخبير في وقاية النبات من الهيئة العامة للتقانة الحيوية قال: «العينة القياسية يجب أن تكون 5 كغ على الأقل، كما يذكر بأن نيماتودا ثآليل القمح Anguina tritici موجودة في سورية، وليست حجرية، وكذلك البكتريا التي ترافقها أحياناً Clavibacter tritici لكن بالنسبة للبذار المدخلة يجب الحرص ألّا تتواجد فيها هذه النيماتودا بنسب مرتفعة». سُجل تواجد نيماتودا ثآليل القمح Anguina tritici في سورية في دراسة للدكتور إسماعيل عام 1996 و1997 في مسح حقلي في حلب والرقة، وتراوحت نسبة الحبوب المصابة بين 0,7% و1,7%. لا غرابة، ففي العقود الماضية التي ازداد فيها التبادل التجاري انتشرت معظم الأمراض في معظم البلدان. وهنا تزداد أهمية تلك الآفات المدرجة في لوائح الآفات الخطرة- وإن لم تكن حجرية- التي تمنع دخول شحنات ملوثة بهذه الآفات بنسب محددة، ولهذه اللوائح أهمية قصوى، وهي ضرورية لمكافحة هذه الآفات والحد من انتشارها. وهذا ما توصي به الفاو في المعيار الدولي لحركة البذور المشار إليه سابقاً، يرد» ينبغي على تحليل مخاطر الآفات أن يراعي الغرض الذي من أجله يتم استيراد البذور، أهي زراعة الحقول أم البحوث والاختبارات، وتقييم احتمال دخول الآفات الخاضعة للحجر الزراعي وانتشارها، أو احتمال تسبب الآفات غير الحجرية الخاضعة للوائح في إحداث تأثير اقتصادي غير مقبول عندما تتجاوز عتبة معينة». وجدير بالذكر أنه بحسب سيمنار ألقته الباحثة Duarte من جامعة واشنطن في كانون الثاني 2021 فإن الولايات المتحدة ذاتها تدرج نيماتودا ثآليل القمح Anguina tritici بوصفه «كائن حجري ذو أهمية قصوى لدى USDA-APHIS» وكان من الملفت أن العينات التي استخدمتها الباحثة في دراستها كانت من نيماتودا ناتجة عن أقماح تركية المصدر. في توصيف الموقع الموسوعي CABI لهذه النيماتودا، يقول: إن الولايات المتحدة ودول أوروبية تمكنت من استئصال أو تخفيض الإصابة إلى أقل حد ممكن لأنها اتخذت إجراءات تنظيف البذار والدورة الزراعية والتبوير. ويؤكد الموقع: أن عدداً كبيراً من الدول يدرج هذه النيماتودا في قائمة الكائنات الضارة من بينها الكيان الصهيوني. كما تم التشديد في الجزء المتعلق بتجارة المواد النباتية على ضرورة استخدام المجهر الضوئي- العادي، إذ لا يكفي الفحص البصري بالمعني التقني لتحديد نسب دقيقة لتواجد النيماتودا بالشكل الذي أجري في جامعة الفرات. وقالت الدكتورة شعلة خاروف الخبيرة في وقاية النبات من جامعة الفرات: «إن الحبة المصابة بهذه النيماتودا قد تحوي حوالي 30,000 يرقة عمر رابع ساكنة وتكون مقاومة للجفاف، وتعيش أكثر من 50 عاماً داخل الحبة محتفظة بحيويتها لتعيد دورة الحياة مرة أخرى».

1046-38

هنا لابد من التذكير، أن إدخال أنواع جديدة من البذار غير المجربة قد يكون محفوفاً بالمخاطر فيما يتعلق بالمقاومة للآفات، خاصة تلك الآفات التي سُجلت بنسب قليلة في سورية، والسبب أن الأصناف المحلية تطورت بالتوازي مع الظروف المناخية والآفات الموجودة في المنطقة، وبالتالي تم انتخاب طبيعي وصناعي عبر خبرات الفلاحين، وكذلك المراكز البحثية السورية بما يناسب ظروفنا.
فيما يخص أمراض التفحم، يقول أ.د. فواز العظمة الخبير في وقاية النبات: «للتفحمات أنواع عديدة لكل منها طريقة مختلفة للكشف عنها، فللتفحم السائب، تغلى الحبوب في محلول قلوي لفصل الأجنة عن جسم الحبة، ثم تصبغ وتفحص مجهرياً لمشاهدة مشيجة الفطر في الجنين. للتفحمات الأخرى التي تلتصق أبواغها على سطح الحبة طرق أخرى للكشف، حيث تغسل الحبوب بحجم ثابت من الماء مع خافض توتر سطحي tween ثم يثفل سائل الغسيل ويفحص الراسب مجهرياً، وثمة طرق جزيئية أكثر دقة، وهناك مبيدات حديثة من زمرة تريازولtriazoles تعالج بها الحبوب، وتثبط التفحمات بنسبة قد تصل 100%». كان تصريح الوكالة الأمريكية للتنمية قد ذكر معالجة البذار بمبيدات فطرية دون تقديم أية معلومات فيما يتعلق بأي من المبيدات الفطرية تمت معالجة البذور، ليتم تقييم مدى كفاءتها.
لا تعتبر التفحمات إشكالية بالنسبة لكمية المحصول بقدر ما تؤثر على نوعيته. يعرف القمح القاسي السوري بجودته العالية، وحتى عام 2015 كان لا يزال يتم تبادله مع إيطاليا المصنِّع الأهم للمعكرونة. ازدياد نسبة التفحمات في القمح قد تؤدي إلى تردي النوعية بحيث تصبح إمكانية تصديره مستقبلاً غير ممكنة. عانت الولايات المتحدة من انتشار أمراض التفحم بشكل كبير في عدة ولايات إلى أن أعلنت في حزيران 2020 على موقع USDA بأنه «عبر الحجر الزراعي الناجح المترافق مع البرنامج الوطني للمسح الاستقصائي أصبح هذا المرض محدوداً في ولاية أريزونا فقط» ما يثير الدهشة أن التقرير يكيل المديح لأهمية الحجر في الولايات المتحدة ثم ينتقده عندما يطبقه الآخرون لرفض المنتج الأمريكي المصدّر بالقول: «يعتبر Karnal bunt بمثابة تحدٍ للتصدير، إذ يعتبره بعض الشركاء التجاريين للولايات المتحدة آفة حجر صحي، بينما تعتبره الولايات المتحدة من الآفات المتعلقة بالجودة التي نادرًا ما تؤدي إلى خسائر كبيرة في المحصول».
قدمت الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية European Food Safety Authority EFSAتقريرها العلمي عام 2010 فيما يخص احتمالية إدخال أمراض التفحمات إلى أوروبا في حال تم استيراد بذار القمح بهدف الزراعة من الولايات المتحدة. والنتيجة كانت: أن الفريق أكد على وجود العديد من النقائص العلمية فيما يتعلق بالأدلة العلمية حول عتبة الإصابة المقدمة من ال USDA APHIS
لذا يبقى رد المتحدث باسم الوكالة الأمريكية للتنمية على استفسار الإدارة الذاتية كلاماً- ما عليه جمرك- ورأيه من حيث مصلحته. بينما الحاسم في هذه المسألة هي الاختبارات الدقيقة والأرقام والمصلحة السورية الوطنية. ولا أحرَصَ على سورية من أبنائها من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها، وفي هذه القضية كغيرها المطلوب سورياً، أن يتعاون الخبراء السوريون- في وقاية النبات- معاً على التوصل للقرار الصائب لصالح المواطن السوري. لا تحتمل قضية القمح السوري المناكفات السياسية وتسجيل النقاط، فهي مرتبطة بأمن البلاد ولقمة الشعب ومستقبله.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1046
آخر تعديل على الإثنين, 06 كانون1/ديسمبر 2021 13:10