كرد سورية وبعض قضايا الساعة

كرد سورية وبعض قضايا الساعة

على الرغم من أننا لا نحبّذ تلك القراءات التي تتعاطى مع الشأن السوري وقضايا السوريين من زاوية الانتماء الطائفي أو الديني أو القومي، فالأزمة هي أزمة الكلّ السوري، ولا حلّ إلا للكل السوري، إلّا أن طبيعة المسألة الكردية من كونها ظاهرة تاريخية تعود إلى ما قبل تفجر الأزمة عام 2011، وحالة تقسيم الأمر الواقع، والتشابكات الدولية، والبعد الإقليمي للقضية الكردية يفرض علينا أحياناً، مقاربة المشكلة بشكل خاص، من أجل الإحاطة بكل جوانب المسألة، وضمن محاولة السعي إلى إعادتها الى موقعها الطبيعي، أي كونها جزءاً من المسألة الوطنية والديمقراطية السورية، وبالتالي وضع حلها في المسار الوحيد الصحيح، أي مسار التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل.

سِفارات وتصريحات متجددة

شهدت الفترة القريبة الفائتة ذهاب وفدين كرديين إلى الولايات المتحدة: وفد من تيار الإدارة الذاتية، ووفد آخر من المجلس الوطني الكردي من ضمن وفد الائتلاف، وحسب تصريحات أعضاء من الوفدين، هناك تطمينات دوائر أمريكية باستمرار وجود قواتها على الأرض السورية، وأنه لن يتكرر في سورية ما جرى في أفغانستان، رغم أنه حتى الساعة لم تخرج أية جهة رسمية أمريكية من أصحاب القرار الفعلي لإعلان ذلك، وكل ما يأتي في هذا السياق يُنسب إلى مصادر مطلعة، أو إلى محادثات الغرف المغلقة وينشر على لسان بعض القيادات الكردية.
تأتي هذه التصريحات في سياق محاولة البعض من النخبة الكردية طمأنة الشعب الكردي بأن الوضع سيبقى على ما هو عليه، أو ربما الترويج لاحتمالات تحسنه وتقدّمه لصالح الكرد، مما يعني الرضا عن الوضع القائم، والبناء عليه!

جردة حساب

بجردة حساب بسيطة لاتجاه تطور المسألة الكردية، في سنوات التدخل الأمريكي في سورية منذ 2014 نلاحظ ما يلي:
- احتلال تركي مباشر لعفرين، ورأس العين، وفي الحالتين كان الدعم الأمريكي للكرد، أحد الذرائع التركية.
- تدويل المسألة الكردية، ووضعها في كفة ميزان غير متكافئ موضوعياً مع الوزن التركي والإيراني، وتحويلها من قضية ديمقراطية مشروعة، إلى أداة ابتزاز وورقة ضغط.
- تعمّق الانقسام الكردي– الكردي، إلى مستوى غير مسبوق.
- هجرة واسعة للكرد السوريين، وبالأخص الجيل الشاب، بما يعنيه ذلك بالنسبة للحامل المادي للمسألة الكردية في سورية، وهو المتواضع أصلاً.
- تنامي ظاهرة الحذر والتوجس تجاه المشروع السياسي الكردي ليس من نخب السلطة والمعارضة فقط، فذلك أمر مزمن وجزء من وعي قوموي شوفيني بائس يتحكم بوعي هذه النخب منذ عقود، بل امتد ذلك إلى قطاعات شعبية سوريّة غير قليلة، وخصوصاً إثر محاولة التحكم بالثروة النفطية والزراعية، على عكس ما كان عليه الأمر بداية انطلاق الحركة الاحتجاجية، وانطلاق تجربة قوات الحماية الذاتية، ومعركة عين العرب (كوباني) الخالدة في ذاكرة السوريين والعالم أجمع، والتي شهدت تضامناً عالمياً وسورياً غير مسبوق.

تماوت تدريجي

بناء على هذه المعطيات والوقائع، ورغم كل النشاط الإعلامي والدبلوماسي، ووجود قوة عسكرية فاعلة، ورغم أن أحد الطرفين ممثل رسمياً في اللقاءات الدولية الخاصة بحل الأزمة السورية، إلا أن الوزن العملي للكرد على الأرض تراجع بسبب عمليات الهجرة الواسعة من جهة، واحتلال عفرين، ورأس العين وتل أبيض، والنظرة السلبية التي تتكون على المستوى الشعبي السوري، وهما أمران ضروريان لا يمكن الاستغناء عن أي منهما في أي تقدم حقيقي للمصالح الكردية على الأرض، مهما كان الدعم الدولي، ومهما استمر الوجود الأمريكي؛ فالقضية تتماوت بالتدريج في ظل تعقيدات الوضع القائم.

الانكفاء خيار ثابت

وإذا أخذنا بعين الاعتبار، بأن العالم أمام تحول ذي طابع تاريخي، تتغير فيه المواقع والتحالفات والمعادلات، ومن العناوين الأساسية في هذا التحول هو الانكفاء الأمريكي حسب اعتراف عموم النخبة الأمريكية؛ فالاتجاه الانسحابي كان القاسم المشترك بين آخر إدارتين على الأقل، رغم كل الخلافات الحادة بينهما...أي إن الثابت في خيارات ما يطلق عليه الدولة الأمريكية العميقة هو الانسحاب، وإخضاع كل شيء لإستراتيجية المواجهة مع الصين، وبغض النظر عن تقييم هذا الطرف أو ذاك من القوى الدولية، فإن المنطق البراغماتي من جهة المصالح القومية الكردية الصرفة يحتّم على الحركة الكردية السورية عدم التخندق المسبق مع أي طرف دولي، بل قبل ذلك ينبغي وضع خريطة طريق واضحة وصريحة لحل المسألة الكردية، حدّها الأدنى هو الاعتراف بالتعدد القومي في البلاد، وشكل من اللامركزية ينهي تهميش الأطراف، ويمنح هامشاً واسعاً للمجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، وتضمين ذلك في الدستور، وتحديد الموقف من كل القوى على أساس مواقفها من هذه المسألة.أما الاقتصار على رد الفعل تجاه سياسات الإقصاء وإنكار الوجود من طرف السلطة، وبعض أطراف المعارضة، والاتكاء على الوجود الأمريكي في ذلك، فليس بالضرورة أن يدفع المسألة الكردية باتجاه الحل؛ فعلاقة الكرد السوريين بسورية الدولة يجب ألا يحددها سلوك نخب الفضاء السياسي القديم، التي أوصلت سورية كلها إلى هذا الحضيض التاريخي، بل ينبغي تحديد هذه العلاقة بناء على ضرورات الواقع الموضوعي، التاريخية منها والراهنة، والتي تؤكد بما لا يقبل مجالاً للشك بأن المسألة الكردية في سورية هي جزء من المسألة الوطنية الديمقراطية العامة في سورية.وفي هذا الإطار، لا يكفي الإقرار بذلك في التصريحات الإعلامية، بل ينبغي ألا يتناقض أي موقف سياسي مع هذه المسألة، وتحديداً الموقف من الوجود الأجنبي على الأرض السورية والاستقواء به، وبالدرجة الأولى الوجود الأمريكي، فلا يستقيم أمر اعتبار المسألة الكردية قضية وطنية ديمقراطية، ودعوة السوريين إلى تبني هذا الموقف، وفي الوقت نفسه الدعوة إلى استبقاء الوجود الأمريكي، أو الصمت عن الوجود التركي.
مفهومة تماماً حالة التوجس والقلق لدى عموم الكرد في ظل الأزمة السورية، بعد الخذلان والخيبات المتكررة للكرد عبر التاريخ، حالهم حال كل السوريين، ولكن المشكلة تكمن في أن النخبة الكردية تحاول الاعتماد على أكثر من خذل الكرد عبر التاريخ، أي الولايات المتحدة.
ضمن هذه الرؤية يمكن التأكيد، بأنه لا ضمان نهائياً إطلاقاً مع أية قوة دولية اتجاه التهديدات التركية المستجدة التي أطلقها أردوغان باستباحة جديدة للشمال السوري، لا الروسي ولا الأمريكي ولا الفرنسي بغض النظر عن الموقف من كل منهم، فمستوى التدويل الذي وصل إليه الوضع السوري، حوّلها إلى ساحة تجاذبات دولية، وباتت مرتبطة مباشرة بكل القضايا الخلافية، وما أكثرها في العالم المعاصر، ويكفي الصراع الحاد الجاري حول التموضع التركي في الاصطفافات الدولية قيد التشكل، للاستنتاج بأن الوضع المعلق في الشمال الشرقي معرّض دائماً لخطر التدخل التركي، ومن هنا كانت مهمة تحييد الدور التركي موضوعياً المهمة الأولى.

كرد سورية والقضية الكردية

المسألة الإستراتيجية الثانية التي ينبغي التنبه لها، هي المحاولات الأمريكية – الفرنسية لإعطاء الأولوية للمسألة الكردية في سورية، على حساب القضية الكردية في الدول الأربع...السؤال الإشكالي الذي يتجنب الجميع الخوض فيه، والإجابة عليه، هو:
ما الحكمة من اعتبار أضعف مراكز الوجود الكردي، أي الكرد السوريون، المسألة المركزية كردياً؟ فكرد سورية أقل عدداً، ووجودهم أكثر تداخلاً مع الأقوام والشعوب الأخرى، ومناطق وجودهم التاريخي غير متصلة جغرافياً، والتجاذب الدولي حولهم أكثر حدة واستقطاباً، بمعنى آخر، وزن وحجم المسألة الكردية في سورية لا يحتملان كل هذا التجاذب الدولي والإقليمي حولها، ففيما تغض الدولتان النظر عما يجري لكرد تركيا، أو لا تأتيان على ذكرها إلا في إطار الخلاف مع السلطة التركية، وتعتبران قيادتهم منظمات إرهابية، وفي الوقت الذي تتدخل تركيا في كردستان العراق دون حسيب ورقيب، ودون أي موقف جدي من الدولتين، ناهيك عن الصمت اتجاه المسألة الكردية في ايران.
بعبارة أوضح: ما الحكمة في جعل قضية مليوني كردي في سورية نصفهم مهجر، وربعهم مشرد في الداخل، مركز الاهتمام الدولي بالقضية الكردية، وتجاهل 20 مليون كردي في تركيا، وخمسة ملايين كردي في العراق، و7 ملايين كردي في إيران.فبالتزامن مع السِفارات من وإلى واشنطن، تتدخل تركيا في كردستان العراق بحجة مطاردة حزب العمال الكردستاني، وتتم محاكمة الحركة الكردية الديمقراطية في تركيا، وأمام مرأى القوات الأمريكية كان قد تم نزع كركوك من حكومة إقليم كردستان، بعد تداعيات الاستفتاء.
حالة التضامن والتعاطف بين الكرد في الدول الأربع أمر مشروع ومفهوم، أما إلحاق وإخضاع الملف الكردي السوري بالوضع الكردي في أي من الدول الأخرى فهو خطأ سياسي كبير، يدفع ثمنه الكرد السوريون بالدرجة الأولى، ويتحول إلى عبء وعائق أمام أي تطور جدي في القضية الكردية عموماً، وهو ما بات أمراً ممكناً بالمعنى التاريخي في ظل التحولات الدولية الكبرى.
بقي أن نشير إلى أن الخلاف مع بعض طروحات القوى السياسية الكردية، ينبغي ألا يكون حجة لتجاهل المسألة الكردية، كعادة قوى الفضاء السياسي القديم، بل يفرض على القوى الوطنية الديمقراطية السورية الجادة، الاهتمام بالمسألة الكردية والسعي إلى حلها حلاً وطنياً ديمقراطياً عادلاً، في إطار الحل السياسي العام.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1041
آخر تعديل على الإثنين, 25 تشرين1/أكتوير 2021 23:35