واشنطن تبني المتاريس... والصين تحصد ثمار السنوات
كون الرئيس الأمريكي، جو بايدن، واحداً من المهندسين الرئيسيين لسياسة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، والمسمّاة «محور آسيا»، دفع الكثيرين لاعتبار أن هذه المسألة هي السبب الرئيسي في التركيز الأمريكي حالياً على المنطقة، متناسين الضرورات الإستراتيجية التي تحكم سياسة البلاد بغض النظر عن طبيعة الرئيس الجالس في البيت الأبيض.
لهذا، ليس هوس بايدن بالمنطقة هو ما يفسر التحول الجاري في السلوك الأمريكي. بل إن الفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة في منطقة شرق المتوسط - رغم عقود من الوجود العسكري المباشر- بالإضافة إلى الوجود المتزايد لروسيا والصين في المنطقة، وصعودهما كقوى عالمية، جعل من الضروري للولايات المتحدة إعادة ضبط وجودها العسكري عالمياً، والتحول من التركيز الساحق على شرق المتوسط نحو جنوب شرق آسيا. وهو التحول الذي يتمظهر اليوم بمسألتين: الاتجاه نحو سحب واشنطن المعدات العسكرية والأفراد العسكريين من شرق المتوسط، بما في ذلك أفغانستان والعراق وسورية والخليج، وتجديد كبار المسؤولين في إدارة بايدن جهودهم الحثيثة لإعادة تأسيس وتوثيق العلاقات الأمريكية مع دول جنوب شرق آسيا، بما في ذلك رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان).
مراجعة البصمة العسكرية
كجزء من نقل مصالحها وإعادة تحديد أولوياتها، سحبت الولايات المتحدة مؤخراً ما مجموعه ثمانية أنظمة باتريوت مضادة للصواريخ من الأردن والكويت والعراق والمملكة العربية السعودية، إلى جانب إزالة نظام «ثاد» المضاد للصواريخ من المملكة التي ستخسر أيضاً بعض أسراب المقاتلات النفاثة، كما من المرجح أن ينسحب نحو 700 جندي متمركزين فيها.
وفي حين قد يميل البعض إلى القول بأن إعادة نشر المعدات العسكرية هذه هي نتيجة التوتر الجاري في العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، إلا أن هذا ليس صحيحاً تماماً. فمن ناحية، تنسحب الولايات المتحدة ليس من السعودية فقط، بل وأيضاً من دول أخرى. كما أن عملية إعادة التموضع الضخمة هذه هي إحدى تجلّيات قرار النخب الأمريكية بـ«مراجعة البصمة العسكرية للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم». والواقع أن العمل الأساسي لإنجاز هذه العملية يجري فعلياً، حيث لا يمكن إعادة انتشار الجيش الأمريكي دون إصلاح الأضرار التي لحقت بالعلاقات الأمريكية مع رابطة أمم جنوب شرق آسيا خلال عهد ترامب. ولهذا الغرض، كان وزيرا خارجية بايدن ودفاعه يمهدان الطريق منذ فترة طويلة.
وفي 13 تموز، وخلال أول اجتماع له مع أعضاء رابطة أمم جنوب شرق آسيا، شدد بلينكن على «مركزية» المنطقة في المباراة العالمية التي تلعبها الولايات المتحدة ضد الصين، وفي إعادة تشكيل البنية الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وكما قالت وزارة الخارجية الأمريكية في بيانها: «أكد الوزير رفض الولايات المتحدة للمطالبات البحرية غير القانونية لجمهورية الصين الشعبية في بحر الصين الجنوبي، وكرر أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب الدول الواقفة في جنوب شرق آسيا في مواجهة الإكراه الذي تمارسه الصين».
بيد أنه لإصلاح الأضرار التي لحقت بالعلاقات الأمريكية الآسيوية، أكد سلوك بلينكن أن الولايات المتحدة تعتمد على «دبلوماسية التطعيم» لإعادة صياغة صورة إيجابية للولايات المتحدة في المنطقة. وكما أشار بلينكن، فمن بين الدفعة الأولى التي تبلغ 25 مليون جرعة، ستكون 7 ملايين جرعة لآسيا، بما في ذلك أعضاء رابطة أمم جنوب شرق آسيا. كما أن تايلاند، وعلى الرغم من أنها ليست جزءاً من برنامج COVAX، سوف تتلقى 1,5 مليون جرعة من شركة فايزر. كما تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 96 مليون دولار أمريكي لأعضاء رابطة أمم جنوب شرق آسيا للمساعدة في دعم قدرتهم على مكافحة الأثر الاقتصادي والمالي للوباء.
فك الترابط؟
من المنطقي جداً أن يتبع اجتماع بلينكن مع رابطة أمم جنوب شرق آسيا زيارة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى ما تسميه واشنطن «دول خط المواجهة» ضد الصين، أي الفلبين وفيتنام. وقال مسؤول بالبنتاغون إن أوستن «سيؤكد التزام الولايات المتحدة الدائم تجاه المنطقة، واهتمامنا بدعم النظام الدولي القائم على القواعد في المنطقة وتعزيز مركزية الآسيان». وكما غرد أوستن على «تويتر»، فإن غرض هذه الزيارة بناء تحالفات وشراكات دفاعية وعسكرية قوية، ما تشكل مفتاحاً لدعم ما تسميه واشنطن «النظام القائم على القواعد» في المحيطين الهندي والهادئ.
سيعقب ذلك غالباً مشاركة جو بايدن نفسه في قمة رابطة أمم جنوب شرق آسيا في وقت لاحق من هذا العام. وسيعزز وجود جو بايدن «التزام» الولايات المتحدة تجاه المنطقة، وهو ما تجلى مؤخراً عندما وافقت الولايات المتحدة على بيع طائرات مقاتلة من طراز F-16، بالإضافة إلى صواريخ «Sidewinder» و«Harpoon» إلى الفلبين في ثلاث صفقات منفصلة بقيمة إجمالية تزيد عن 2.5 مليار دولار أمريكي.
وينبع «الاهتمام» الجديد للولايات المتحدة بتعزيز القدرة العسكرية الفلبينية مباشرة من الانتقادات التي يوجهها الرئيس دوتيرتي ضد الولايات المتحدة بسبب تقاعسها الذي أدى حسب زعمه إلى خسارة الفلبين بعض الأراضي لصالح الصين في بحر الصين الجنوبي. ومن خلال إظهار استعدادها لتعزيز القدرة العسكرية الفلبينية، فإن الولايات المتحدة تبعث برسالة إلى منطقة «آسيان» بالكامل بأنها جاهزة لقيادة النزعات العدائية ضد الصين في المنطقة. ولكن السؤال المهم يبقى: هل تستطيع الولايات المتحدة أن تسحب رابطة أمم جنوب شرق آسيا بعيداً تماماً عن الصين؟ لقد غدت الصين ومجموعة الآسيان أكبر شريكين تجاريين لبعضهما البعض في العالم. وفي عام 2020، تجاوزت رابطة أمم جنوب شرق آسيا الاتحاد الأوروبي، لتصبح الشريك التجاري الأول للصين. وعلى الرغم من الوباء، سجلت التجارة بين الصين ورابطة أمم جنوب شرق آسيا نمواً كبيراً بلغ نحو 6 في المئة في الربع الأول من عام 2020. وبالتالي، فإن السؤال: هل تستطيع الولايات المتحدة تفكيك الترابط الاقتصادي القائم الذي شيدته الصين والآسيان بعناية على مدى سنوات من التعاون؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1029