«الشمالي 2»: تصعيد أمريكي وعناد أوروبي..

«الشمالي 2»: تصعيد أمريكي وعناد أوروبي..

رغم الانتقال الذي حدث بين إدارتين في واشنطن، إلّا أنه من الواضح أن وصول بايدن للرئاسة لم يغيّر الشيء الكثير في السياسة الخارجية للبلاد، فحتى الآن يبدو خطاب الإدارة الجديدة متماثلاً إلى حدٍّ بعيد مع خطاب سابقتها. فمن التوترات الأمريكية مع الصين وإيران إلى الضغوط المستمرة على روسيا، تواصل الولايات المتحدة انتهاج سياسة خارجية عدائية كجزء من المحاولات العبثية لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية عالمياً.

تقدّم أوروبا الغربية مثالاً واضحاً عن كيف يواجه حلفاء واشنطن التقليديون السلوك الأمريكي العدائي، حيث تعطي بعض النخب الحاكمة في هذه المنطقة إشارات متباينة الشدة حول الابتعاد عن المصالح الأمريكية، وأفضل مثال على ذلك: هو مشاركة ألمانيا في مشروع خط أنابيب السيل الشمالي 2 ــ وهو جهد مشترك روسي ألماني بشكلٍ خاص لتوسيع تدفق الغاز مباشرة إلى أوروبا الغربية، متجاوزاً المناطق المحتملة للفوضى في أوروبا الشرقية التي تستهدفها الولايات المتحدة لعرقلة التعاون الروسي الأوروبي.

بايدن يتفق مع سلفه؟

وجد وزير الخارجية الأمريكي الجديد، أنتوني بلينكن، أثناء جلسة إقرار تعيينه أمام مجلس الشيوخ الأمريكي نفسه في اتفاق شبه جماعي مع أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي على ضرورة الحفاظ وتوسيع نطاق الحرب الأمريكية ضد الخصوم الإستراتيجيين. وعندما سُئل عن السيل الشمالي 2 والتزام الإدارة الجديدة بعرقلة خط الأنابيب الروسي، أجاب بلينكن: «الرئيس المنتخب يتفق معكم بقوة على أن نورد ستريم 2 فكرة سيئة. لقد كان واضحاً جداً بشأن ذلك، أنا مصمم على بذل كل ما في وسعنا لمنع هذا الإنجاز في آخر مئة ياردة من خط الأنابيب». وعندما سُئل عمّا إذا كانت الإدارة الجديدة «ستقف في وجه الضغوط الألمانية» ضد وقف المشروع، أجاب: «أستطيع أن أقول لكم: إنني أعرف أن بايدن سيجعلنا نستخدم كل أداة مقنعة لدينا لإقناع أصدقائنا وشركائنا، بما في ذلك ألمانيا، بعدم المضي قدماً في ذلك.

وكما تفعل الولايات المتحدة بانتظام ـ فهي تخلق ستاراً من الدخان الخطابي الذي تعمل وراءه على تعزيز أجندتها، حيث تعرّض واشنطن نفسها أمنَ الطاقة في أوروبا للخطر، من خلال قطع الغاز الرخيص والمتاح بسهولة من جانب روسيا، وإجبار أوروبا على شراء الغاز الأكثر تكلفة من الولايات المتحدة، وهو بالمناسبة الغاز المستخرج بشكل أساسي من عمليات التكسير المثيرة للجدل سياسياً وبيئياً، وعلى هذا، فإن «أمن الطاقة» الذي تعرضه الولايات المتحدة على أوروبا، كبديل لتدفق الغاز الروسي يواجه معارضة سياسية وبيئية وحتى اقتصادية.

تحرك ألماني غير مسبوق

حسب وزارة الطاقة في ولاية مكلنبورغ- بوميرانيا الغربية الألمانية، فإن الحكومة أنشأت في وقتٍ سابق من هذا الشهر مؤسسة عامة يمكنها أن تتولى نشاطاً قابلاً للعقوبات، مبرراً ذلك بأن المؤسسة «لا يجب أن تخشى العقوبات»، في إشارة واضحة للعقوبات التي تهدد واشنطن بفرضها في حال واصلت ألمانيا عزمها على استكمال بناء «السيل الشمالي 2». وقالت المتحدثة باسم الوزارة، رينات غوندلاش، في بيان: إن «المؤسسة يمكن أن تتيح إمكانية الحصول على قطع الغيار والآليات الضرورية لبناء خطوط الأنابيب، وإتاحتها للشركات المشاركة في بناء السيل الشمالي عند الضرورة». والهدف- حسب الوزارة- هو تأمين هذه المواد المتخصصة التي لا ينتجها سوى عدد قليل من الشركات في العالم، قبل أن تكون غير متاحة بسبب العقوبات التي تهدد واشنطن بفرضها. ولأن العقوبات الأمريكية لا تستهدف سوى الشركات الألمانية، وليس الحكومة الألمانية نفسها في الوقت الحالي، فإن إنشاء مؤسسة عامة لحماية الشركات الخاصة المستهدفة بموجب العقوبات من شأنه أن يسمح للشركات بتجاوز العقوبات الأمريكية، وإلّا فمن أجل مواجهة هذا، سوف تضطر الولايات المتحدة إلى استهداف الحكومة الألمانية مباشرة، وهي الخطوة التي من شأنها أن تدق إسفيناً في نعش العلاقات الأمريكية الألمانية، ومن المرجح أن تؤدي إلى تدهور مستمر لا رجعة فيه في العلاقات الثنائية، ليس بين برلين وواشنطن فحسب، بل وكذلك مع عدد من الدول الأوروبية. وفي حين حصر البعض أسباب توتر العلاقات الأمريكية الأوروبية سابقاً بسياسات ترامب، يتضح اليوم أن هذا التصعيد هو ضرورة للولايات المتحدة التي ينخفض وزنها موضوعياً عالمياً.

إذا ما حدث هذا السيناريو، فمن شأنه أن يُجهز نهائياً على الأوهام العابرة للأطلسي التي تكررها واشنطن، وسيكشف بالكامل عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة باعتبارها مدفوعة بمصالح من الشركات الكبرى، بما في ذلك أولئك الذين لهم مصلحة اقتصادية مباشرة من بيع «غاز الحرية» الأمريكي الصنع في أوروبا.

لقد صورت الولايات المتحدة لسنوات طويلة دولاً، مثل: روسيا والصين وإيران وغيرها على أنها دول مارقة، لتبرير كل السياسات التي اتخذتها من العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية، إلى الحرب بالوكالة والتهديدات بشن حرب، ولكن يبدو الآن أن حتى أوروبا ستجد نفسها على الطرف الذي يتعرض للقوة «الناعمة» وربما «القاسية» لاحقاً، فيما لو استمر تهديد المصالح الأمريكية على ما هو عليه اليوم. ومن المفارقات اللافتة للانتباه أنه إلى جانب خط أنابيب السيل الشمالي 2 نفسه، فإن تزايد العداء الأمريكي الطائش ضد كل من روسيا وألمانيا يوفر اليوم لموسكو وجيرانها في أوروبا الغربية أرضية مشتركة للعمل بهدف الالتفاف على العقوبات الأمريكية، التي تهدد المصالح العميقة لدول أوروبا، التي تعاني أيضاً من تبعات الأزمة الاقتصادية ولا تملك ترف مداراة واشنطن في كل شيء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1009
آخر تعديل على الإثنين, 15 آذار/مارس 2021 09:44