«الضوء الأخضر الأمريكي» وقياس الإلكترون باستخدام «الذراع»!

«الضوء الأخضر الأمريكي» وقياس الإلكترون باستخدام «الذراع»!

هل يمكننا استخدام واحدة قياس من نمط «الذراع» أو «القدم» في تصميم مسرّعات مفاعل نووي؟ وماذا عن استخدام «الرطل» لاحتساب الوقود اللازم لإطلاق قمر صناعي؟

لن يجادل أحد بمدى سخافة استخدام وحدات قياس بدائية إلى هذا الحد، في عصرٍ تصل فيه دقة القياس إلى احتساب نصف قطر الإلكترون البالغ تقريباً 2,8 فمتو متر، أي 28 بعد 14 صفراً بعد الفاصلة!
مع ذلك، وحين يكون الحديث في السياسة، وفي إطار ما يسمى «التحليل السياسي»، فإنّ المرء لن يعدم وجود «أرطالٍ» و«شوالاتٍ» من المحللين الذين يقيسون الحاضر بمقاييس الماضي.
ولأننا في عصر الفمتو وما دونه دقة، فحتى قياس الماضي والحاضر بالسنوات بات غير دقيق نهائياً، دون إضافة عوامل أخرى، أهمها: تسارع مراكمة المعرفة الإنسانية.

لنوضح أكثر، فإنّ دارسي التطور المعرفي للبشرية، يقولون: إنّ البشرية قد راكمت من المعارف خلال عشرة أعوام بين عام 1990 وعام 1999 بقدر ما راكمت طوال تاريخها حتى 1990، وبأنّ سرعة مراكمة المعارف تزداد بشكل مطرد؛ أي: إنّ البشرية أنتجت في 9 أعوام لاحقة على 1999 بقدر ما أنتجته بين 90 و99، ومن ثم في 8 أعوام، وهكذا...
فإذا نظرنا من موقعنا الزمني اليوم نهاية عام 2020 إلى عام 1991، فإنّ ما يفصلنا عنه ليس 29 سنة فحسب، بل يكاد يبدو عام 91 ماضياً سحيقاً إذا ما أخذنا في الحسبان كمّ المعارف المتراكمة من حينه وإلى اليوم.

الضوء الأخضر

لماذا 1991؟ لأنه عام انهيار الاتحاد السوفييتي وتسيّد الولايات المتحدة الأمريكية على العالم قطباً وحيداً، لا يسير شيء في الكوكب دون «ضوء أخضر» منه.
وبأداة القياس المتخلفة هذه، ومع إنكار كل ما تغير عبر العقود الثلاثة الماضية، وعلى رأسه الأزمة العويصة، والتراجع المزمن اللذان تعيشهما واشنطن، ويعيشهما الغرب عموماً، يواصل «المحللون السياسيون» قياس الحاضر، بل والخروج باستنتاجات وخطط!
في الشأن السوري، فإنّ محللين من الطرفين المتشددين، يواصلان استخدام هذه السكين الحجرية المسماة الضوء الأخضر الأمريكي لقص حبال الواقع وتصنيفها... ولكن هل هم متخلفون حقاً إلى هذا الحد المزري؟

في الواقع، لا يمكننا إنكار أن قسماً كبيراً منهم هو فعلاً كذلك، ولكن الأكيد أيضاً: أنّ التوجيهات القادمة من المتحكمين الفعليين بهذه «التحليلات» وبالمنابر التي تطلقها، هي من تحدد في نهاية المطاف غايات استخدام هذه التحليلات.
المسألة في جوهرها، تقوم برأينا في الحقيقة البسيطة التالية: المتشددون والفاسدون الكبار في النظام وفي المعارضة على حد سواء، ينتمون عملياً بل وروحياً إلى المنظومة الغربية التي يتمتعون من خلالها بمواقع نهب شعوبهم، لجيوبهم الخاصة ولجيوب معلميهم الغربيين. وتراجع هذه المنظومة وانهيارها سيتركهم أيتاماً في مواجهة غضبة الناس المتراكمة عبر عقود طويلة.
هذا بالمعنى العام، ولكن بالمعنى المباشر والخاص، فإنّ نسب القدرات السوبرمانية لواشنطن يستهدف بالملموس، وكما نرى من التحليلات التي يطلقها المتشددون في الطرفين، الأمور التالية:

تضليل السوريين عن حقيقة ما يجري، وحين تكون مضللاً عن الحقيقة فلن يكون بيدك مقياس فعلي لتفرز سلوك وتصريحات القوى، أيّها الذي يخدم مصلحتك، وأيّها ضدك.
البحث عن أية ذريعة للإيحاء بأنّ موسكو متفقة مع واشنطن من وراء ظهر الإيرانيين والأتراك، وهذا هدفه واضح جداً باستهداف أستانا ومحاولة خلق الفتن بين أطرافها.

خلق وزن إضافي وهمي لواشنطن ومعسكرها في سورية، لعل ذلك يوازن ثقل أستانا للمحافظة على معادلة صفرية، أو شبه صفرية، وظيفتها استمرار الأوضاع على حالها، لأنّ الأوضاع الراهنة هي «الاستقرار» ليس من وجهة نظر جيفري فقط، بل ومن وجهة نظر المتشددين السوريين أيضاً.
المساواة في السلوك بين الروس والأمريكان، عبر افتراض أن ما يفعله الروس، إنما يفعلونه بأمر من الأمريكان أو بـ«ضوء أخضر» منهم، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الجولان السوري المحتل والقضية الفلسطينية، لزرع اليأس بين السوريين، ولتحضيرهم نحو «خيارات» تحافظ على «الاستقرار»، بوصفها الخيارات الوحيدة الممكنة...

ختاماً، وإذا سلمنا جدلاً بالقول: أنّ هنالك فعلاً ما يسمى «ضوءاً أخضر أمريكياً»، فإنّ سؤالاً جدياً يفرض نفسه، وهو سؤال ربما يستطيع مستخدمو «الضوء الأخضر الأمريكي» أن يجيبونا عنه: هل فحصتهم الضوء جيداً؟ هل أنتم متأكدون أنه خالٍ من عبارة «صنع في الصين»؟

لتحميل العدد 993 بصيغة PDF

معلومات إضافية

العدد رقم:
993
آخر تعديل على الإثنين, 23 تشرين2/نوفمبر 2020 15:44