هوامش المناورة تضيق على أيّ رئيس أمريكي

هوامش المناورة تضيق على أيّ رئيس أمريكي

في وقتٍ لا يستطيع فيه أحد أن يجزم فيما لو كانت الانتخابات الأمريكية قد «حطت رحالها» عند جو بايدن، أم أننا أمام «معركة قانونية» طويلة الأمد، ومفتوحة على خيار المواجهة الداخلية بين أطراف الانقسام الأمريكي، لا بد من الإشارة إلى حقيقة غالباً ما يجري تجاهلها في التعاطي الإعلامي مع مسألة الانتخابات الأمريكية، وهي: أن التراجع الحاصل في وزن الولايات المتحدة عموماً قد قلّص إلى حدودٍ كبيرة هامش مناورة أي رئيس مقبل.

الرئيس الأمريكي الوحيد الذي أظهر علامات واضحة على الخروج عن جوهر الدور المطلوب منه من النواة الحقيقية الحاكمة للولايات المتحدة كان «الديمقراطي» جون كينيدي، وقد انتهى به المطاف مقتولاً قبل أن يتمكن من التنفيذ الكامل لما اعتبر تغييرات أساسية في بنية الحكم الأمريكي، وشملت هذه التغييرات محاولة الانسحاب من حرب فيتنام في وقتٍ مبكر، لكن ما ينساه الكثيرون، هو أن من وقّع اتفاقية باريس للسلام 1973 والتي نصّت على خروج القوات الأمريكية من فيتنام لم يكن كينيدي، بل الرئيس «الجمهوري» الذي تلاه ريتشارد نيكسون. وهذه مقدمة لا بد منها للدلالة على أن من يحدّد السياسات في نهاية المطاف ليس الانتماء الشخصي أو الحزبي للرئيس الأمريكي، بل الوقائع الموضوعية التي تتجاوز في كثير من الحالات مصالح ورغبات وضرورات الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

من هذه الزاوية، صحيح أن دونالد ترامب لم يبدأ حروباً جديدة على مدى السنوات الأربع الماضية، ولكن هذا يرتبط بتعريف الحرب إلى حدٍّ بعيد، فما اختلف فعلياً ليس جوهر السياسات، وإنما الطريقة: شن ترامب حملة ضغوطات لا مثيل لها ضد فنزويلا وإيران على سبيل المثال، ولم يدخّر جهداً من أجل مواجهتهما، وكذلك الحال في وجه الصين وروسيا، وما يميزه عن «الديمقراطيين» هو الاختلاف حول ترتيب أولويات المواجهة، وآليات التراجع والانسحاب ووتائرهما الزمنية.

تصعيدات تقليدية

في حالة فنزويلا، اعترف دونالد ترامب بالإضافة إلى عدد من القادة الغربيين بخوان غوايدو رئيساً لفنزويلا، وهذا على الرغم من حقيقة أن غوايدو لم يترشح حتى للمنصب في الانتخابات العامة. وعلى هذا النحو، شنت الولايات المتحدة الأمريكية التصعيد على إيران بلا هوادة، على الرغم من أن إيران لم تفعل شيئاً لانتهاك بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وتجاهل الولايات المتحدة للقانون الدولي في هذه القضية هو مؤشر واضح على الآلية التقليدية التي تنظر الولايات المتحدة فيها إلى التزاماتها بموجب المعاهدات المعترف بها دولياً.

وبالإضافة إلى ذلك، ظلت الولايات المتحدة في الأمم المتحدة على الرغم من انسحابها من عدد كبير من الهيئات الدولية الأخرى في السنوات الأخيرة. وليس ذلك لأنها تقبل سلطة الأمم المتحدة أو أياً من هيئاتها. بل ربما يعود ذلك إلى أن تجاهل الولايات المتحدة ببساطة لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والتي لا توافق عليها ولا تتوافق مع مصلحتها، لم يواجه حتى الآن بأية جزاءات ينبغي أن تردع الولايات المتحدة عن مثل هذا الخرق.

السباق الرئاسي والتشابهات بحكم الضرورة

من بين الأمور المثيرة للاهتمام التي ميّزت السباق الرئاسي للولايات المتحدة مؤخراً، هو أن الصين وروسيا أصبحتا الآن عدوتين رسمياً لطرفي الصراع الداخلي. هنالك بعض الخلافات حول الأولويات بين الطرفين، ولكن من غير المستغرب افتراض أنه بغض النظر عمّن سيحكم الولايات المتحدة في 2021، فإن سياسة كلا الطرفين ستكون متشابهة إلى حدٍّ بعيد.

والسبب في ذلك يعود إلى النقطة السابقة التي ذكرناها: لقد اعتبرت الولايات المتحدة نفسها الحاكم الوحيد في السياسة العالمية منذ عام 1945. لكن هذه الحقيقة شهدت ضربات كبرى على الأقل خلال العقد الماضي، حيث تجاوزتها الصين اقتصادياً، وروسيا عسكرياً. والولايات المتحدة لم تقبل هذا الواقع، وربما لن تقبله. ومن هنا، فإن حربها الجامحة الآن بالوسائل الأخرى ضد البلدين على أشدها.

وهذا إلى حد بعيد أفضل تفسير للارتفاع المفاجئ للتصعيد في مجموعة من دول آسيا الوسطى، من بيلاروسيا على حدود روسيا على طول الطريق نحو غرب آسيا، مع تأجيج الاضطرابات بشكل حافل في العديد من المناطق ذات الأهمية بالنسبة للصين، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر: مقاطعة شينجيانغ الغربية.
هذه ليست مصادفات، وهي تمثل جهداً جدياً تبذله الولايات المتحدة وحلفاؤها لخوض حرب بوسائل أخرى. والهجمات الأخيرة في إيران هي مثال تقليدي في هذا الصدد أيضاً. ومن المهم أن الولايات المتحدة، إلى جانب أستراليا واليابان والهند، تحاول عبثاً أن تشكل تحالفاً وطيداً ضد الصين بالدرجة الأولى، دون أن يحالفها النجاح حتى الآن. وهذا لن يمنع الولايات المتحدة من محاولة تملق تلك البلدان للانضمام إلى رؤيتها للحملة المناهضة للصين، وموقف أستراليا في هذا السياق مثير للاهتمام فعلاً، حيث إن الصين هي إلى حد بعيد أكبر شريك تجاري لأستراليا، وكانت حتى الأمس القريب تتماشى مع الضغوط الأمريكية نظراً لدرجة الارتباط الكبيرة بين أستراليا والولايات المتحدة، لكنها اليوم غير قادرة فعلياً على إعطاء الولايات المتحدة كلمة حاسمة بشأن الانضمام إلى حلف مناهض للصين، وعلى هذا النحو تسير الهند التي هي على استعداد للحفاظ على خطوط تصعيد محددة جداً مع الصين، لكنها لا ترى مبرراً لفتح المواجهة على أشدها في الوقت الحالي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
991