الانتخابات الأمريكية... حكاية من خارج الصندوق
ريم عيسى ريم عيسى

الانتخابات الأمريكية... حكاية من خارج الصندوق

يبدو صندوق الأفكار المتعلقة بالانتخابات الأمريكية- لا الحالية فقط، وإنما خلال عقود طويلة ماضية- مغلقاً بإحكام ضمن حدود التنافس بين الحزبين الحاكمين...

بكلام آخر، فإنّ الحكاية الانتخابية الأمريكية باتت تبدأ بالضبط مع إعلان الحزبين الحاكمين عن مرشحيهما للرئاسة، واللذين سيفوز أحدهما حكماً... هذه هي الحال منذ 167 عاماً، وبالضبط منذ عام 1853 مع الرئيس الرابع عشر فرانكلين بيرس، وكان مرشحاً عن الحزب الديمقراطي. وابتداء من بيرس توالى على الرئاسة الأمريكية 12 رئيساً ديمقراطياً و19 جمهورياً.

وبما أنّ الحكاية التقليدية ذاتها مستمرة في الانتخابات الحالية، فقد تبدو محاولتنا لسرد نص موازٍ من خارج الصندوق، محاولة بلا طائل، وربما بلا معنى. مع ذلك، نزعم أنها حكاية مسليّة تستحق أن تُروى، وأكثر من ذلك، فإنّ الحكايات عادة ما تُروى بعد أن تكون قد انتهت، وربما تُروى حين تلوح تباشير نهايتها.

فوز ترامب عام 2016 كان بداية النهاية للحكاية التقليدية؛ فبالرغم من أنّ ترامب جمهوري، إلّا أنّ هنالك إقراراً واسعاً من الجمهوريين والديمقراطيين وغيرهم، أن ترامب كان أول اختراق من خارج «المؤسسة الحاكمة»، ربما منذ 1853... ما يعني أنّ ترامب الذي وصل إلى الرئاسة باللبوس الجمهوري، ولكن من خارج الحزب القائد ذي الرأسين، إنْ هو فاز مرة أخرى، فإن ذلك سيرفع إلى حدود غير مسبوقة احتمال نسف هذه المؤسسة المسيطرة منذ أكثر من قرن ونصف!

لسنا نتحدث طبعاً عن رئيس من خارج المنظومة المسيطرة، منظومة رأس المال العملاق بتكويناته وتناقضاته، ولكن نتحدث بالضبط عن كونه من خارج المنظومة السياسية التي أرست فيلماً أمريكياً طويلاً جداً حول ديمقراطية زائفة تشبه لعبة الكراسي الموسيقية، ولكن بكرسي واحد ولاعبين فقط يجري تحديدهما مسبقاً...

بقعة ضوء واحدة وتعتيم عام

تشكيل الأحزاب السياسية من الناحية النظرية والقانونية، ليس مسموحاً به فقط في الولايات المتحدة، ولكنه أيضاً سهل نسبياً. لكن واقع الأمر هو أنّ نظام الحزبين في الولايات المتحدة ليس أكثر من تحوير شكلي بسيط لديكتاتورية الحزب الواحد، حيث يقدم الحزبان الحاكمان روايات متضاربة حول مختلف القضايا الثانوية، ويتفقان على العمل في خدمة رؤوس الأموال.

يمكن تتبع جذور نظام الحزبين في الولايات المتحدة ابتداءً من التصديق على دستور الولايات المتحدة في عام 1788، حيث أطلق مؤيدو ذلك التصديق على أنفسهم اسم «الفيدراليين» وأطلق المعارضون على أنفسهم اسم «مناهضي الفيدراليين». يمكن النظر إلى هذا الانقسام في حينه، بوصفه النوتة الأساسية التي جرى تثبيتها في السياسة الأمريكية مع تنويع بسيط في النغمات وفي التوزيع.

باستخدام أسماء وأشكال مختلفة، استمر نظام الحزبين، مما أدى إلى سيطرة الحزبين على السياسة الأمريكية اليوم. ظهر هذان الحزبان في القرن التاسع عشر- الديمقراطي في عام 1828 والجمهوري في عام 1854- وفاز أحدهما في كل انتخابات رئاسية أمريكية منذ عام 1852 وسيطرا على الكونجرس الأمريكي منذ عام 1856.

ولأنّ العناصر المسرحية ينبغي أن تحقق حداً أدنى ضرورياً من التوازن والتكامل، فقد لعب الحزب الديمقراطي دور الليبرالي أو «اليساري»، والجمهوري لعب دور المحافظ أو اليميني... (على الرغم من أنه من غير الواضح على يسار من يقف هذا «اليسار»؛ لأنّ تطبيق اليسار واليمين كمفهومين سياسيين بأبسط أشكالهما، بين من يعبر عن مصالح عامة الناس، ومن يعبر عن مصالح النخبة، يجعلنا نقول: إنّ الديمقراطيين يقفون فعلاً إلى يسار الجمهوريين، وكلاهما يقف في أقصى اليمين). ولأنّ الخشبة لن تكون متوازنة بهذه الطريقة، فقد جرى استخدام آلية مسرحية شديدة الأهمية: جرى التلاعب بالإضاءة والتعتيم... الضوء بأكمله تركّز في بقعة واحدة على الديمقراطيين والجمهوريين، وجرى التعتيم على من سواهما، بما في ذلك عبر الإعلام المحتكر من النخبة، وعبر المكارثية سابقاً، وعبر المكارثية الجديدة الآن.

تشابهات كبيرة

من حيث الجوهر، وبما يتعلق بالمجال السياسي العام داخلياً أو حتى على المستوى الدولي، لا توجد فروق كبيرة بين الطرفين. يتضح هذا من الاتجاه العام الذي سلكته الولايات المتحدة في سياساتها، خاصة على صعيد شن الحروب والتدخلات العسكرية.
على المستوى المحلي، نجح الحزبان في تشتيت انتباه غالبية سكان الولايات المتحدة عن الحياة السياسية، واختزال المشاركة السياسية في مجموعة من القضايا التي يتخذ فيها الناس موقفاً من موقفين- مع أو ضد. وفي الوقت نفسه، في الواقع، لا يقدم أي من الحزبين برنامجاً سياسياً شاملاً، وعلى مدار العقدين الماضيين، كانت البرامج السياسية تقريباً قائمة بالكامل على شيطنة الطرف الآخر، من أجل الفوز في الانتخابات.

التصويت المعاكس

التركيز على شيطنة الطرف الآخر وحصر المعركة في الثانويات، كان فعالاً في إبقاء النظام محصوراً بحزبين، والقضاء كلياً على إمكانية ظهور أحزاب سياسية أخرى، حتى تلك التي قد تجذب بالفعل غالبية السكان في الولايات المتحدة، إذا أتيحت لها الفرصة. آخر انتخابات رئاسية حصل فيها طرف ثالث على 5٪ على الأقل من أصوات الأمريكيين كانت انتخابات 1996، حيث حصل مرشح الحزب الثالث، روس بيرو، على 8.4٪ من الأصوات الشعبية، وصفر من 538 صوتاً انتخابياً (وقانون الانتخابات مصمم على الأساس الأكثري ضمن الولايات، فإما أن تربح الولاية بأسرها أو لا تربح شيئاً على الإطلاق).

الرسوخ العميق لنظام الحزب الواحد ذي الرأسين، وخاصة مع قانون الانتخابات الأكثري على مستوى الولايات، ولّد إحباطاً متزايداً بشكل واضح من النظام الأمريكي العام، وشعوراً واسعاً بعدم التمثيل من أي من الطرفين. وباتت عملية التصويت بالنسبة للأمريكي العادي مقتصرة على محاولة اختيار أسوأ الشرين، بل وبشكل أكثر تحديداً، استبعاد من يرى أنه أسوأ... أي: إنّ العملية الانتخابية ما عادت تصويتاً لمن يؤيده المواطن الأمريكي بقدر ما هي تصويت ضد من يعارضه.

علاوة على ذلك، فحتى لو طرح مرشح ثالث غير مدعوم من أحد الحزبين، طروحات نالت إعجاب قسم من الأمريكيين، فالاحتمال الأكبر أنّ أحداً منهم لن يصوت له رغم ذلك؛ فالعملية الحسابية البسيطة التي يجريها المواطن الأمريكي هي التالية، أولاً: سواء قمت بالتصويت للمرشح الثالث أم لم أصوت له، فإنّه لن ينجح. ثانياً: بما أنه لن ينجح فإنّ صوتي سيذهب هدراً، وسأخسر فرصتي في استخدام صوتي ضد المرشح الذي أراه الأكثر سوءاً بين المرشحَين الأساسيين.

بين 2016 و2020

بالعودة إلى التاريخ القريب، فإنّ أحد الأمور الأساسية في تفسير وصول ترامب إلى الرئاسة، ربما يكون متعلقاً بالذات، بأنّ ترامب قدم نفسه كرجل من خارج المؤسسة التقليدية للحزب القائد ذي الرأسين، وإنْ كان يلبس اللبوس الجمهوري... والحقيقة أنه ضمن الانقسام الأمريكي العميق ضمن النخبة، والحاصل كنتيجة للأزمة الوجودية غير المسبوقة للدولار كعملة عالمية، بالدرجة الأولى، فإنّ ترامب يمثل فعلاً تياراً محدداً ضمن النخبة الأمريكية، يريد إعادة تشكيل المؤسسة الرسمية ككل، بما في ذلك سياساتها الخارجية بالدرجة الأولى، كجزء من عملية انكفاءٍ يراها ضرورية للحفاظ على وجوده.

وعلى هذا الأساس، نعتقد أنّ نجاحه في الولاية الثانية ربما سيطلق يده في نسف نظام الحزب القائد ذي الرأسين منتهي الصلاحية... ليس نحو ديمقراطية حقيقية بدلاً عن الشكلية القائمة، بل باتجاه ديكتاتورية سافرة ومباشرة، وعبر دولة بوليسية قمعية من الطراز التقليدي... وربما مروراً بحرب أهلية طاحنة...

لذلك كلّه، فإنّ ما سيحدث يوم الثلاثاء 3 تشرين الثاني، ربما سيحمل معه، وخلافاً لانتخابات رئاسية عديدة سابقة، تغيرات ضخمة وغير مسبوقة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
990